د. أحمد الخليل
الإله مولوخ
جاء في كتب التاريخ أن الإله الفينيقي بَعْل مُولُوخ (مُولُوك) كان شَرِهاً إلى الدماء، مُغرَماً بالقرابين البشرية، وخاصة الأطفال، إن حرقهم على مذبحه كان يرضيه، فيُنزل بركاته على أتباعه، ولمّا استولى الآشوريون على العاصمة الفينيقية صُور (في جنوبي لبنان)، في عهد الملك الفينيقي بيجماليون (820 – 774 ق.م)، رحل بعض الفينيقيين إلى شمالي إفريقيا، واستقروا في شمالي تونس، وأسسوا هناك مدينة قرطاجة (وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، ج 1، ص 76).
ونقل الكهنة الفينيقيون معهم إلههم بَعْل مولوخ إلى قرطاجة، وكان من البديهي أن تنتقل معه طقوسه أيضاً، ومنها حرق الأطفال، ولما حاصر الجيش الروماني قرطاجة سنة (307 ق.م) أُحرق على مذبح الإله مولوخ مئتا غلام من أبناء أرقى أسر المدينة، وأقيم احتفال فخم بهذه المناسبة، وكي لا يسمع الآباء والأمهات وبقية الجمهور صراخ الأطفال وهم يحترقون، رتّب الكهنة فرقة موسيقية، تقوم بالدق على الطبول والنفخ في المزامير، فضاعت صرخات الأطفال وسط ذلك الضجيج والعجيج. (ول ديورانت: قصة الحضارة، ج 2، ص 61).
والغريب أن فريقاً من منتجي الثقافة في العهود الإسلامية كانوا يمارسون- من حيث يدرون ولا يدرون- نهجاً شبيهاً بما كان ينهجه كهنة الإله مولوخ، وكان ذلك النهج يؤدي في النهاية إلى اغتيال الحقائق بعيداً عن الأنظار والأسماع، وتحت ستار كثيف من الضجيج والعجيج، وهذا النهج واضح الملامح في مجال التفسير والتاريخ واللغة والأدب وبعض كتب البلدان.
آليّات التَّعْمِية
ويعتمد ذلك الفريق آليّات التعمية الآتية، وخاصة في مجال التاريخ:
1 – الآلية الأولى: هي مواجهة المتلقّي- سامعاً كان أم قارئاً- بضخامة (الكم) أقصد (تنفيخ) الكتاب، فيجد القارئ نفسه دفعة واحدة أمام عدد من المجلدات الضخمة، فيشعر للوهلة الأولى أن السيطرة على هذا (الجبل) المعلوماتي الهائل أمر في غاية الصعوبة؛ إذ من أين له الوقت الكافي لتقليب جميع تلك الصفحات الكثيرة؟ ومن أين له الصبر والجَلَد على فهم واستيعاب تلك المعلومات الغزيرة؟ وتؤدي هذه الآلية وظيفة تهيئة المتلقّي نفسياً لـ(التفكير في الاستسلام).
2 – الآلية الثانية: هي مواجهة المتلقّي بكومة من الروايات، يأخذ بعضها برقاب بعض، ويُنسي آخرُها أوّلَها، وتحوّل هذه الآلية المتلقّي من وضعية (التفكير في الاستسلام) إلى وضعية (الرغبة في الاستسلام)؛ إذ يجد نفسه- وهو يتعامل مع الكتاب الواحد ذي المجلدات العديدة- أمام حشد من الروايات المتداخلة، والمتشابهة حيناً والمتعارضة حيناً آخر، وكثير منها يبدأ بعبارات غامضة عائمة، أبرزها: (زعموا، وفي رواية، وقيل، ويقال، وقالوا، وقال آخرون، وقال بعضهم، وقال بعض الناس، ومن الناس من رأى، ومما رُوي عن السَّلَف، إلخ).
وفوق هذا فإن المؤرخ يعمد إلى تخدير وعي المتلقّي، وإيهامه بأنه يقرأ معلومات موثَّقة، لا سبيل إلى الشك فيها، ولا سيّما حينما يذكر أسماء الرواة، ولنستشهد على سبيل المثال بنهج الطَّبَري في تاريخه، فالرجل أكثر مؤرخي القرن الثالث الهجري حرصاً على توثيق المعلومات، وتمسكاً بالأمانة العلمية، ورغبةً في كسب ثقة القارئ، وكان عُمدة المؤرخين المسلمين بعده، وإليكم بعض مرويّاته:
قال بشأن خَلق الشمس والقمر:
” أما ابن عبّاس فرُوي عنه أنه قال: خلق الله يومَ الجمعة الشمسَ والقمرَ والنجومَ والملائكةَ إلى ثلاث ساعات بقيتْ منه. حدّثنا بذلك هنّاد بن السَّرِيّ، قال: حدّثنا أبو بكر بن عَيّاش، عن أبى سَعْد البقّال، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم “. (تاريخ الطبري، ج1، ص 63).
لاحظوا هنا ما يلي:
اعتماد أسلوب (العَنْعَنَة) المتّبَع في روايات الحديث النبوي، ويظهر ابن عبّاس (ابن عم النبي) في سلسلة السند، ويرفع ابن عباس الرواية إلى النبي، وهذا يعني أن الرواية حديث نبوي، وبالعودة إلى كتب الحديث النبوي، ولا سيما الكتب المعتمَدة منها (صحيح البُخاري، صحيح مُسْلِم، سُنَن النَّسائي، سُنن داود، سُنن ابن ماجَة، سُنن التِّرْمِذي)، لا نجد فيها أيّ حديث يتعلق بخَلق الشمس والقمر يوم الجمعة، ثم لاحظوا الإيهام بالدقة العلمية، فالخَلق لم يكن يوم الجمعة فقط، بل تم قبل انقضاء ذلك اليوم بثلاث ساعات.
وبعد أن يجد المتلقّي أن الرواية هي حديث نبوي، وأن في سندها الصحابي الشهير ابن عبّاس، وبعد أن يجد نفسه أمام هذه الشبكة المُحكَمة النسج، ويتعرض لهذا القصف الديني المركَّز، كيف لا يرفع راية الاستسلام؟ ومن أين له أن يفكر حينئذ بأن وجود الأيام والساعات لم يكن إلا بعد خلق الشمس والقمر، وأن من المحال أن يوجد يوم الجمعة قبل وجود الشمس نفسها؟
ثم من أين للمتلقّي أن يعرف حقيقة (عِكْرِمة) الذي يحتكر نقل هذه الروايات عن ابن عبّاس؟ من أين له أن يعرف أن عِكرمة هذا كان عبداً من شعب الأمازيغ (البربر) يُباع ويُشترى ويُهدى، وأوّل ما فعله ابن عبّاس أنه جرّده من اسمه الأصلي، وفرض عليه اسماً عربياً، ثم علّمه ليوظّف قدراته بعدئذ في إذاعة رواياته وترويجها بين المسلمين على مر الأجيال، ولم يُعتقه ابن عبّاس، وظل يستثمر قدراته إلى آخر لحظة، وإليكم ما قاله ابن خَلِّكان في هذا الصدد:
” أبو عبد الله عِكْرِمة بن عبد الله، مَوْلى عبد الله بن عبّاس، رضي الله عنهما؛ أصله من البَربر من أهل المغرب، كان لحُصَيْن بن الحُرّ العَنْبَري، فوهبه لابن عبّاس رضي الله عنهما، حين وَلِيَ البَصْرة لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، واجتهد ابن عبّاس في تعليمه القرآن والسُّنَن، وسمّاه بأسماء العرب “. (وفيات الأعيان، ج 3، ص 265).
وأضاف ابن خلّكان قائلاً:
” ومات مولاه ابن عبّاس وعِكرمة على الرِّقّ [= العبودية]، ولم يُعتقه، فباعه ولده عليّ بن عبد الله بن عبّاس من خالد بن يَزيد بن مُعاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عِكرمة مولاه عليّاً، فقال له: ما خِيرَ لك، بِعتََ علمَ أبيك بأربعة آلاف دينار؟! فاستقاله وأقاله وأعتقه. وقال عبد الله بن الحارث: دخلت على عليّ بن عبد الله بن عبّاس وعِكرمة مُوثَقٌ على باب كَنِيف [= بيت الخلاء، مرحاض]، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟! قال: إنّ هذا يكذب على أبي “. (وفيات الأعيان، ج 3، ص 265 – 366).
وكيف لا يفقد المتلقّي توازنه بعد أن يسمع الأقوال المتضاربة التي جاءت في وصف عكرمة، وإليكم بعض ما قيل فيه:
” قال أبو خَلف عبد الله بن عيسى الخَزّاز، عن يحيى البَكّاء: سمعت ابن عمر [= عبد الله بن عمر بن الخطّاب] يقول لنافع [= مولى دَيْلَميّ، أصابه عبد الله بن عمر في غزوة]: لا تكذبْ عليّ كما كذب عِكرمة على ابن عبّاس “. (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 22).
– ” عن عثمان بن حَكِيم قال: كنت جالساً مع أبي أُمامة بن سَهْل، إذ جاء عِكرمة، فقال: يا أبا أُمامة، أذكرك اللهَ، هل سمعتَ ابن عبّاس يقول: ما حدّثكم عني عِكرمة فصدّقوه، فإنه لم يكذب عليّ؟ فقال أبو أُمامة: نعم “. (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).
– ” قال أيوب، عن عمرو بن دِينار: دَفَع إليّ جابر بن زَيد مسائل، أسألُ عِكرمة، وجعل يقول: هذا عِكرمة مولى ابن عبّاس، هذا البحرُ فسَلُوه “. (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).
– عن ” ابن عُيَيْنَة، عن عمرو سمع أبا الشَعْثاء يقول: هذا عِكْرمةُ مولى ابن عبّاس، هذا أعلمُ الناس “. (الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 5، ص 16).
وإليكم مثلاً آخر من (تاريخ الطبري) بشأن حَوّاء:
” وحدَّثنا ابن حُمَيْد، قال: حدّثنا سَلَمة، عن ابن إسحاق، عن داود بن الحُصَيْن، عن عِكْرِمَة، عن ابن عبّاس، قال: كانت حَوّاء تلد لآدم، فتُعبّدُهم اللهَ عزّ وجلّ، وتسمّيهم عبدَ الله وعُبَيْدَ الله ونحوَ ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاها إبليسُ وآدمَ عليه السلام، فقال: إنكما لو تسمّيانه بغير الذي تسمّيانه به لعاش. فولدتْ له ذكراً، فسمّياه عبدَ الحارث، ففيه أنزل الله عزّ ذكره، يقول الله عز وجلّ: (هو الذي خَلَقَكُمْ مِن نَفسٍ واحدةٍ) إلى قوله (جَعَلا له شُرَكاءَ فيما آتاهما) إلى آخر الآية “. (تاريخ الطبري، ج1، ص 148- 149).
لاحظوا هنا ظهور نهج (العَنْعَنة) مرة ثانية، ومرة أخرى يظهر في المشهد ابن عبّاس ومولاه عِكرمة، بل إن هذه الرواية تستظل بآية قرآنية أيضاً، فتصبح أكثر هيمنة على وعي المتلقّي المسلم، وأمام هذا كله من أين للمتلقّي التفكير في مسألة أن اللغة العربية لم تكن موجودة أيام آدم وحوّاء؟ فكيف كانت تسمّي أبناءها (عبد الله، عبيد الله، عبد الحارث) وهي أسماء عربية؟
3 – الآلية الثالثة: هي الخلط بين الواقع والأسطورة، فحينما يجتاز المتلقّي بوّابة المعلومة، ويبدأ التَّجوال في رحابها، يجد نفسه أمام مزيج عجيب من الأخبار والأحداث، فيها ما هو واقعي، لكن قسماً مهماً مما هو واقعي أُلبس عباءات الأساطير والشطحات والخوارق، فأصبح أشبه بالعجائب؛ وحسبنا أن نعود إلى بعض كتب التاريخ في العهود الإسلامية، لنرى فيها كثيراً من الشواهد على التداخل بين الأسطورة والواقع، وخاصة في مجال الأخبار المتعلقة بقصة الخَلق والطوفان وتواريخ بعض الملوك القدماء.
والخلاصة أن المتلقّي يجد نفسه منبهراً بما يقرأ من جهة، ومذهولاً من جهة ثانية، وعاجزاً عن تدقيق النظر في أكوام الروايات من جهة ثالثة، وعاجزاً عن فكّ الاشتباك بين الروايات المتعارضة من جهة رابعة، ويصبح في النهاية بين أحد أمرين: إما التسليم بما قرأ، وإما السكوت على مضض.
وبطبيعة الحال ثمة خيار ثالث، وهو عدم التسليم وعدم السكوت، والإصرار على سماع صرخات الأطفال وهم يحترقون، أقصد الإصرار على معرفة الحقائق، لكن لهذا الخيار ضريبة باهظة جداً من العناء والصبر والوقت. وكلما قرأت قصص آدم ونوح وإبراهيم ونَمُْرود وزَرْدَشت وبُخْتُنَصَّر، وقصص أشباههم من الأنبياء والملوك والمشاهير، في مصادر التراث الإسلامي، وجدت نفسي أمام ذَينك الخيارين الصعبين.
وأعلم أنني أنفق بعض الوقت في أمور قد تبدو خارج نطاق موضوعنا الأساسي (الكرد في التراث الإسلامي)، وأعرّج بين حين وآخر إلى قضايا تتعلق بطرائق تشكّل التراث الثقافي الإسلامي، وتتناول آليات تدوينه وتناقله، لكن أعتقد أن فهم تلك الطرائق والآليات، وتفكيك بناها، وإخضاعها للنقد الموضوعي، هو المدخل الصحيح إلى فهم حقيقة كثير من المعلومات الواردة في مصادر التراث الإسلامي، وتمييز الصواب من الخطأ، وهو المنهج الصائب إلى قراءة تراث غربي آسيا، وإعادة كتابته بشكل صحيح.
عَود إلى قصة الضحّاك
ودعونا نتوجّه من جديد إلى قصة الضحّاك (الأزدهاق)، وهذا يقتضي منا القيام بجولة سريعة في خريطة الأنساب الآريانية حسبما رسمتها النخبة الفارسية قبل الإسلام، وحسبما أُحييت منذ القرن الثاني الهجري (الثامن الميلادي) على يدي ابن المقفَّع وأمثاله من أساطين الثقافة الفارسية.
وبعد أن استعرضنا أبرز الروايات المتعلقة بقصة الضحّاك (بيوَراسْب، بيوَراسْف، أَزْدهاق، أَزْدهاك) في الحلقة السابقة، وهي لسبعة من كبار المؤرخين والجغرافيين والموسوعيين، يغطّي حضورهم حوالي خمسة قرون من العهود الإسلامية، وبعضهم فرس أقحاح، وبعضهم خبراء في الثقافة الفارسية، نخرج بالنتائج الآتية:
1 – خمسة من الرواة لم يذكروا الكرد قطّ في قصة الضحّاك، وفيهم أربعة ممّن يصحّ الاحتجاج بآرائهم، وهم: الطَّبَري، والهَمَذاني، والفِرْدَوسي، وابن الأَثير، مع الأخذ في الاعتبار أن روايات الفردوسي في (شاهنامه) هي خلاصة عدد مهم من المصادر الخاصة بالتاريخ الفارسي قبل الإسلام.
2 – أقدم الروايات التي نسبت الكرد إلى عتقاء الضحّاك تعود إلى ابن قُتَيْبَة الدِّينَوَري، وهو أديب ونحوي ولغوي، وليس من المتخصصين في التاريخ، ثم إن الرجل برّأ ذمّته بأن نسب الرواية إلى الفرس (العجم).
3 – الرواية الثانية التي نسبت الكرد إلى عتقاء الضحّاك أوردها المَسْعودي، لكنه دلّل على بطلانها حينما نسب الكرد إلى فرع رَبيعة بن نِزار من العرب العدنانيين (عرب الشمال).
4 – أغلب الروايات التي تتضمن قصة الضحّاك ترجع إلى مصادر فارسية، وتستقي من الذاكرة الفارسية، وفي سلسلة رواتها مؤرخ عربي وحيد، إنه هشام بن محمد بن السائب الكَلْبي، وسبق أن مر في ثَبْت المؤرخين (الحلقة 6 من هذه السلسلة) أنه كان يقتبس معلوماته في هذا المجال من مصادر فارسية ومسيحية نسطورية في مدينة الحِيرة، وليس من مصادر عربية.
5 – إن من أورد من المتأخرين روايات تنسب الكرد إلى نسل عتقاء الضحّاك، من أمثال المَقْدِسي (مطهّر بن طاهر ت بعد 355 هـ = بعد 966 م)، في كتابه (البدء والتاريخ)، والمقْرِيزي (ت 845 هـ = 1442 م) في كتابه (السلوك لمعرفة دول الملوك)، وشَرَف خان بَدْليسي (ت 1013 هـ = 1604 م) في كتابه (شرف نامه)، إنما كانوا يقتبسون مما جاء في الروايات الفارسية، ثم إنهم كانوا يستخدمون عبارات توحي بالشك في تلك الروايات.
6 – إذا سلّمنا بأن الضحّاك شخصية حقيقية، وأن (الأكراد) من عتقائه، تواجهنا إشكالية جغرافية؛ فالروايات التي ذكرت قصة الضحّاك بالتفصيل أكّدت أن وزيره كان يأمر العتقاء بالذهاب إلى جبل دُنباوَنْد (دُماوَنْد= دَباوَنْد) والإقامة فيه، والحقيقة أن هذا الجبل يقع بين مدينة (رَيْ) غرباً (آثارها قرب طهران الآن) ومنطقة طَبَرِستان شرقاً، وهي مناطق كان يسكنها شعب (الدَّيْلَم)، وليس الكرد. (انظر ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج 2، ص 540 – 541).
أضف إلى هذا أن قصة الضحّاك- بهذه الكيفية الغريبة- هي من نسج الخيال الفارسي، وتستحق أن تُصنَّف بجدارة في قائمة الأساطير، وهذا واضح للعيان في مُجريات الأحداث، وهي – أقصد قصة الضحّاك- جزء من خريطة الأنساب التي اختلقتها النخبة الفارسية، بقصد تأصيل الحضور الفارسي في التاريخ، وتمجيد الفرس، وإظهارهم بأنهم أصحاب الفضل في إهداء الحضارة إلى العالم على يدي أُوشهنج (أُوشهنگ، هُوشَنْگ)، وجَمْشيد (جمشيذ)، ولسحب البساط من تحت أقدام بقية الشعوب الآريانية (الآرية) في غربي آسيا، مثل الكرد والبُلُوش والأفغان، وهذا يعني ضمناً أن الفرع الفارسي هو الأجدر بحكم العالم.
إن خريطة الأنساب الفارسية هذه تذكّر المرء رغماً عنه بخريطة الأنساب العبرانية الواردة في التوراة، تلك الخريطة التي تهيمن عليها الأَسْطَرة، والتي تحرص على تأصيل الفرع العبراني وتمجيده ديناً ودنيا، على حساب الفروع السامية الأخرى، كالعرب والسُّريان والكِلْدان وغيرهم، وهذا يعني ضمناً أنه الفرع المختار من الله، والأجدر بالهيمنة على سائر الشعوب.
أَبْلَسة أستياگ الميدي
ثم لا ننس ظاهرة خطيرة في بعض ثقافات غربي آسيا، ولعلها من أكثر الظاهرات خطورة في تاريخ الشعوب الغرب آسيوية، وأكثرها سبباً في جرّ تلك الشعوب إلى الخصومات والحروب والمآسي، وتتلخص تلك الظاهرة في أن تلك الثقافات التوسعية المنطلَقات لا تؤمن لا بالتجاور ولا بالتحاور، وإنما تقوم في الأصل على (إلغاء الآخر)، وهي تنشئ بموازاة مشروعها التوسعي مشروعاً آخر، يهدف إلى شَيْطَنة (أَبْلَسة) الثقافات التي تخالفها أو تعارضها، وكما هي العادة منذ أربعة آلاف عام على الأقل يستظل المشروعان معاً (مشروع التوسّع ومشروع الشيطنة) باسم أحد الآلهة (مَرْدُوخ، آشُور، بَعْل، أَهُورامَزْدا، إيل، إيلُوهِيم، الله).
وبتكريس مشروع (الشَّيطنة) تصبح الثقافة المخالفة شيطانية (إبليسية)؛ أي أنها تصبح رجساً يجب القضاء عليه، ومن الطبيعي والحال هذه أن تنسحب صفة الشَّيْطنة (الأَبْلَسة) على أتباع الثقافة المخالفة، فيصبحون بدورهم شياطين (أبالسة) يجب القضاء عليهم، أو على الأقل إخراجهم من دائرة التاريخ، بتحويلهم إلى مجرد أرقاء لأتباع (الثقافة المقدسة).
وفي إطار هذه الظاهرة تصبح حقيقة أسطورة الضّحاك (أزدهاك) أكثر وضوحاً، فالنخبة الفارسية- مثقفين وساسةً- كانت توظّف أسطورة الضحّاك (أزدهاك) في كل عصر بما يخدم أهدافها الستراتيجية، وكانت تلك الأهداف تتلخّص في إزاحة القوى الكبرى الأخرى الموجودة على الساحة الغرب آسيوية، والسيطرة على مقدَّرات غربي آسيا أرضاً وشعوباً وثروات.
وواضح من المعلومات التي أوردها المؤرخ الأرمني موسى خُورني أن أزدهاك هو (أستياگ)، ملك ميديا الأخير، ويسمّى (أستياگز) Astuages أيضاً، ويسمّيه هيرودوت (أستياجيس)، ولاحظوا سهولة التبادلات الصوتية بين حرفي (س، ز)، وحرفي (ت، د)، وحرفي (هـ، ي)، ورغم أن هذا الملك الميدي كان قد تزوّج أخت الملك الأرمني تيگران (ديگران)، فإن هذا الأخير تعاون مع الملك الفارسي الأخميني كورش الثاني للقضاء على حكم أستياگ. (انظر دياكونوف: ميديا، ص 333. طه باقر وآخران: تاريخ إيران القديم، ص 41 – 42).
وهذا يعني أن النخبة الفارسية التي كانت تابعة للدولة الميدية، عندما قررت القضاء على الملك الميدي، وإزاحته عن طريق المشروع الفارسي، والسيطرة على إمبراطورية ميديا، عمدت إلى شَيْطنة (أبلسة) أستياگ، عبر التجسير اللغوي بين اسمه ولقب أزدهاك (أژدهاك= أژدها= التنّين).
وفي إطار مشروع شيطنة أستياگ حيكت قصة الحلم الذي رآه أستياگ في منامه، وخوفُه من أن يقضي عليه حفيده المتوقَّع ولادته (ابن تابعه قَمْبيز الأخميني من ابنته مانْدانا)، وقسوتُه حينما استقدم ابنته مع طفلها إلى القصر، ثم تكليفُه كبير قادة الجيش الميدي هارباگ (آرباگ= آر پاك) بقتل الطفل، ولما اكتشف أن هارباگ قصّر في تنفيذ المهمّة، طلب من الراعي مِيثْرادات إرسال الصبي كورش إلى القصر الملكي، ثم طلب من هارباگ إرسال ابنه الصبي ليلاعب كورش، ثم أمر بقتل ابن هارباگ وطبْخه، وتقديمه طعاماً لوالده، وبعد أن شبع الوالد من لحم ولده، أخبره أستياگ أنه كان يأكل لحم ولده، جزاء له على خيانته في تنفيذ المهمة التي أُوكلت إليه (انظر تاريخ هيرودوت، ص 82 – 88).
وبعد تقديم أستياگ الميدي بهذه الصورة الوحشية المنفّرة المقزّزة كيف لا يتحوّل في الذاكرة الشعبية إلى شخص مقيت وشرير؛ أي إلى شيطان (إبليس)؟ ومن يجرؤ على التعاطف معه؟ وكيف يمكن الدفاع عنه؟ وكيف يمكن لأتباعه الميديين (جدود الكرد) أن يكونوا بمنجاة من تُهمة أنهم أتباع رجل دموي شرير عمل بنصيحة إبليس؟ وكيف يمكن أن يكونوا بمنأى من (الانتقام المقدس)؟
أَبْلَسة الضحّاك العربي
حسناً، لقد عمدت الآلة الدعائية الفارسية إلى تحويل أستياگ إلى (أزدهاك= أژدها) في الذاكرة الآريانية خاصة، وفي الذاكرة الغرب آسيوية عامة، بل وفي تاريخ البشرية أيضاً، لكن ما علاقة (الضحّاك) العربي بهذا المسألة؟
لا يمكن فهم مسألة إقحام (الضحّاك) العربي في هذه الأسطورة ما لم نأخذ في الحسبان الظروف التاريخية التي نسج فيها الفِرْدَوسي، ومن سبقه من الشعراء الفرس مثل الدَّقيقي وغيره، خيوط هذه الأسطورة، فقد مر في (الحلقة السادسة من هذه السلسلة) أن الذاكرة الفارسية، حوالي منتصف الثاني الهجري (الثامن الميلادي)، كانت ما تزال عامرة بأمجاد الدُّول الفارسية قبل الإسلام، وصحيح أن العرب المسلمين أسقطوا الدولة الساسانية، وورثوا ممتلكاتها من حدود الهند والصين شرقاً إلى تخوم شبه الجزيرة العربية غرباً، لكن كان من المُحال تفريغ الذاكرة الفارسية من أمجادها القومية.
وبمجرد أن ظهرت الدول الفارسية المستقلة ( الدولة الطاهرية، الدولة الصُّفّارية، الدولة السامانية) في بلاد إيران، خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، هيّأ الساسة الفرس المناخ كي تنشط النخبة المثقفة، وتعيد إحياء ما بقي في الذاكرة الفارسية من رواسب التاريخ القومي، وبما أن ذلك التاريخ كان قد تأسس منذ فجر عصر التكوين على الأساطير- وهذه حقيقة تؤكدها الشاهنامة بوضوح- كان من الطبيعي أن يعاد إحياء تلك الأساطير، وأن تُوظَّف مرة أخرى بما يخدم المشروع القومي الفارسي الناهض.
لكن من هي الجهة التي كانت تقف عائقاً في طريق المشروع الفارسي في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)؟ إنها الدولة العربية الإسلامية، ممثَّلة في الخلافة العباسية؛ فكان لا بد – والحال هذه- من تكريس مشروع لشَيْطنة العرب هذه المرة، وكان لا بد من أن تعاد صياغة أسطورة (أژدها= أژدهاك) بما يتناسب مع المشروع الجديد، وفي كل مرة يجد القائمون على مشروع الشيطنة (الأبلسة) آليات كفيلة بتحقيق الأهداف المرسومة، وهذه المرة كان التجسير اللغوي بين الاسم العربي (الضحّاك) واللقب الآرياني (أزدهاك= أزدهاق) هي الآلية المناسبة، وبطبيعة الحال لا يهم صاحب الذهنية الأسطورية أن تتعارض رواياته مع الواقع، فبالنسبة له (الأسطورة) هي (الواقع).
ولتكن رواية الفِرْدوسي هي مصدرنا لتفحّص مشروع شيطنة (أبلسة) العرب، فقد أصبح جَمْشيذ (جمشيد) بن طَهْمُورت بن أُوشهنج (هُوشَنْگ) بن سيامك بن جيُومرت (گيُومرت) هو الملك الرابع الأكبر في سلسلة ملوك الفرس الأوائل، واستكمل جهود والده طهمورت وجدّه أوشهنج في نشر الحضارة، قال الفردوسي يصف حال جمشيد:
” فلما استكمل جميع أسباب العز والرخاء، تجبّر وتكبّر وتسلّط، وتخلّى عن المعونة الإلهية، فاضطرب حكمه، وعمّت الفوضى، ودبّ الذعر، وانتشر الفساد، وهرب العلماء والحكماء، وارتجّت بذلك الأرض والسماء “. (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10).
وماذا كانت النتيجة؟
” انشقّ ملوك الفرس أجمعون عن طاعة ملكهم الأكبر، واستبدّوا في الرأي والمُلك، واجتمعوا إلى الضحّاك ابن ملك العرب، ليخلّصهم من جمشيذ، فما كان منه إلا أن نصب نفسه ملكاً عليهم، وقصد جمشيذ الذي هرب إلى أرض الهند، واختفى ليظهر بعد مرور مئة سنة، فقصده الضحّاك ثانية، وقضى عليه، آمراً قتله بالمنشار بعد حكم دام سبعمئة سنة “. (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10).
ومن هو الضحّاك؟
” أما الضحّاك فهذا لقبه، وهو بيوَراسْب بن مِرْداس ملك العرب الذي عُرف بصلاح حكمه، وحبه لشعبه، وهو شابّ يقتني آلاف الخيل المُسرَجة بسروج الذهب والفضة، والمرصَّعة بالجواهر الثمينة، يحب اللهو والطرب والصيد والطَرْد، وكان له من الجن خادم يُدعى إبليس “. (الفردوسي: الشاهنامه، ص 10 – 11).
وإذا سألنا الفردوسي: متى وقعت تلك الأحداث؟ ولماذا أسرع ملوك فارس إلى وضع أنفسهم تحت إمرة ملك عربي للخلاص من جمشيذ، وليس تحت إمرة زعيم فارسي؟ وأين كان الملك العربي مِرْداس يحكم حينذاك؟ فالمعروف أن الملوك لم يوجدوا في بلاد العرب قبل الميلاد إلا في اليمن، وكان ذلك حوالي ألف سنة قبل الميلاد، مع ظهور دولة مَعِين ودولة قَتَبان، ثم دولة سَبَأ، ثم دولة حِمْيَر (صالح أحمد العلي: تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية، ص 21، 33. منذر عبد الكريم: دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص 216)، في حين تعود أحداث قصة (الضحّاك) إلى فجر التاريخ البشري. ثم كيف يكون الملك عربياً ويكون اسمه آريانياً فارسياً (بيوَراسْب) أي صاحب عشرة آلاف فرس؟
إن الفردوسي غير معنيّ بالإجابة عن هذه الأسئلة، فباعتباره أحد كبار قادة إيقاظ الروح القومية الفارسية يهمّه أن يوصل الحاضر بالماضي في الذاكرة الفارسية، ويعمل لتحرير الشخصية الفارسية من سلطة الثقافة العربية، عبر شيطنة ( أَبْلَسة) تلك الثقافة، فكان من الضروري استنساخ أزدهاك (أژدها) عربي في شخص (الضحّاك) من الأزدهاك الآرياني الذي كان الملك الميدي (أستياگ) آخر تجلّياته، وكان من الضروري أيضاً تحويل الضحّاك العربي إلى كائن إبليسي دموي، يوظّف أدمغة البشر لخلاصه الشخصي، وكي تتخلّص الشعوب من دموية الضحّاك العربي لا يكون ذلك على يدي منقذ عربي، وإنما يكون المنقذ فارسيّاً من سلالة جمشيد؛ إنه الفتى أفريدون، بتأييد من الفارسي الأصبهاني كاوَه الحداد.
ولا يحتاج المرء إلى كثير عناء لاكتشاف أوجه الشبه بين المحاور الأساسية في أسطورة الأزدهاك الميدي (أستياگ)، والمحاور الأساسية في أسطورة الأزدهاك العربي (الضحّاك)، ففي القرن السادس قبل الميلاد كان المطلوب إزاحة أستياگ من العرش الميدي؛ لفتح الطريق أمام المشروع التوسعي الفارسي. وفي القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) كان من الضروري إزاحة الأزدهاك العربي (الضحّاك)؛ أي السلطة العربية متمثّلة في (الخلافة)؛ لإحياء المشروع القومي الفارسي بأبعاده الإمبراطورية. وإليكم بعض المقاربات في هذا الشأن:
· كان أستياگ الميدي ملكاً طيباً، ثم تحوّل إلى طاغية. وكذلك كان شأن الضحّاك العربي.
· كان أستياگ الميدي كثير الغنى والبذخ، يمتلك آلاف الخيول، محباً للهو والطرب. وكذلك كان الضحّاك العربي.
· رأى أستياگ الميدي حلماً غريباً فسّره له المنجّمون بأن حفيده الفارسي من ابنته ماندانا سيجرده من السلطة، ويحكم بدلاً منه. وكذلك رأى الضحّاك العربي حلماً غريباً، فسّره المنجّمون بأن طفلاً من سلالة جمشيذ الفارسي سيولد، وسيحكم بدلاًَ منه.
· حاول أستياگ الميدي قتل حفيده الفارسي فور ولادته. وحاول الضحّاك العربي قتل الطفل أفريدون الفارسي فور ولادته.
· تدخّلت الأقدار، وأنقذت الطفل كورش الفارسي من القتل، وصار صبياً تظهر أمارات المُلك في ملامحه وتصرفاته. وكذلك نجا الطفل أفريدون من القتل، وظهرت عليه أمارات المُلك منذ الصغر.
· كان القائد الميدي هارباگ يتعاون سراً مع كورش، ويتآمر على سيّده أستياگ. وفي الشاهنامة مؤشّرات على أن كندرو وزير الضحّاك كان متعاوناً في السر مع أفريدون، ومن تلك المؤشرات قول الفردوسي:
” جلس أفريدون على عرش الضحّاك بين معاونيه وجواريه، ودخل عليه وزير الضحّاك كندرو، فخرّ ساجداً بين يديه، وأطلق لسانه بالدعاء لاستدامة مُلكه العليّ، وتحادثا طويلاً عمّا قاساه الناس من ظلم الضحّاك “. (الفردوسي: الشاهنامه، ص 17 – 18).
· لما انتصر كورش على أستياگ لم يقتله، واكتفى بإبعاده إلى مقاطعة هركانيا، ووضعه تحت الإقامة الجبرية. ولما انتصر أفريدون على الضحّاك سجنه في جبل دُنباوَنْد.
بحث عن الحقيقة
وكنت أتذكر- وأنا أقرأ أسطورة أزدهاك في الشاهنامه وغيرها- تلك الرواية الشعبية الشائعة بين الشعوب الآريانية، ومنهم الكرد، بشأن الملك المستبد (دهاك)، والبطل الثائر (كاوَه) الحداد، وارتباط تلك الثورة بعيد نَوْرُوز (نُورُوژ) الذي تحتفل به جميع الشعوب الآريانية في (21) آذار/ مارس من كل عام، باعتبار أنه اليوم الذي تم فيه الخلاص من ظلم (دهاك)، وإيقاد النيران مساء ذلك اليوم على قمم الجبال وفي المرتفعات، إما كإشارة لإعلان الثورة، وإما استبشاراً بانتصار الثورة، وهذا ما لم يُذكر في الروايات السابقة.
بلى لست أنسى هذا كله، ولست أنكر أن الخطوط العامة للرواية الشعبية السائدة شبيهة إلى حد كبير بما ورد في المصادر الفارسية، وأرى من الصعب أن تتفق الشعوب الآريانية جميعها، وطوال عشرات القرون، على الاحتفال بحدث لا علاقة له بالحقيقة مطلقاً، وينبغي ألا نرمي بهذه القصة وراء ظهورنا، فإنها لا تخلو من دلالات تاريخية، ومن رموز ميثولوجية، لها صلة بفجر تاريخ الشعوب الآريانية، وجدير بالاهتمام ها هنا أن نأخذ في الحسبان الأمور الآتية:
· موقع (النار) في الميثولوجيا الآريانية بشكل عام من جهة، ومكانتها في الديانة الزردشتية سليلة تلك الميثولوجيا من جهة ثانية.
· مكانة (الشمس) في الميثولوجيا الآريانية (الميثرائية)، ومكانتها في سليلتها الزردشتية.
· حرص الكرد على إشعال النار بُعيد غياب شمس يوم (20) آذار/مارس، ولعل بقية الشعوب الآريانية تفعل ذلك أيضاً، وكأنما ذلك يرمز إلى دحر الظلامية الشريرة المتمثلة في الليل، والإصرار على استمرار النورانية الإلهية المتمثلة في الشمس، بل إن الكرد كانوا يحرصون، حتى عهد قريب، على إشعال النار في المناسبات السعيدة كالأعراس، والقفز من فوقها (رمزية التطهير)، ولعلهم ما زالوا يفعلون ذلك في القرى، وكنت في أيام صباي ممن يفعل ذلك.
· ارتباط أحداث الصراع مع أزدهاك (الضحّاك) بعيدَين هما أعظم أعياد الشعوب الآريانية: الأول عيد مِهْرَجان، ومعناه عيد (روح الشمس) باعتبار أن (مِهر) اسم (الشمس)، و(جان) تعني (روح)، ولا حظوا هنا أن كلمة (مهرجان) دخلت العربية في وقت مبكّر جداً من العهود الإسلامية، وصارت تعني (احتفال). والعيد الثاني هو عيد نُورُوز.
· (دهوك) كلمة ميدية تعني صاحب الإقليم (ملك البلاد)، وسُجّلت في المدوَّنات الآشورية بصيغة (دهياوكو)، وهذا يذكّرنا باسم الزعيم الميدي (دِياكو)، وهو أول من بدأ بإعلان الثورة على السلطات الآشورية، ويسمّيه هيرودوت (ديوسيس)، وأخذت كلمة (دهوك) في الپهلوية صيغة (دهاك)، أو (دهيك)، واشتق العرب منها صيغة (دِهْقان)، وهي تعني في التراث الإسلامي (زعيم قرية، زعيم منطقة) وجمعها (دَهاقِنَة). (مجموعة من الباحثين: كركوك، بحث د. جمال رشيد، ص 169، هامش 2).
· القرابة الصوتية الوثيقة بين صيغة (دهاك) الآريانية، وصيغة (ضحّاك) العربية، تثير احتمال أن يكون اسم (الضحّاك) العربي تعريباً لكلمة (دهاك) الآرياني، إذ لا يتّسق مع الثقافة العربية، ولا سيّما في مجال إطلاق الأسماء على الذكور، أن يسمّى الرجل (ضحّاك) بدلالته اللغوية العربية التي تعني المبالغة في الضحك (انظر الحلقة السادسة) في حين يتّسق مع الدلالة اللغوية في الأصل الآرياني (الكردي، الفارسي)، إذ تحمل معاني الرفعة والقوة والسيطرة.
· حرص الفرس في جميع عهودهم الإمبراطورية ليس فقط على إزالة كل ما يتعلق بتاريخ الميديين، وإنما عملوا بكل وسيلة لتشويه صورتهم، وخاصة صورة آخر ملوكهم أستياگ.
· كلمة (أژدها) بالكردية- وهي من أعرق اللغات الآريانية- تعني (الحيّة الضخمة المرعبة= التنّين)، وربما لها المعنى نفسه بالفارسية أيضاً، ولاحظوا ظهور (حيّتين) في جميع الروايات التي تناولت قصة الضحّاك.
حينما آخذ هذه المعطيات في الحسبان، وأضم إليها ما هو معروف بشأن مسيرة الشعوب الآريانية ميثولوجياً واجتماعياً وسياسياً، أرجّح ما يلي:
1 – توجد تقاطعات دقيقة، في أحداث قصة الضحّاك، بين اثنين من محاور حياة الشعوب الآريانية: محور ميثولوجي، ومحور اجتماعي سياسي، ويتجلّى ذلك في التطابق بين عيدي مهرجان ونوروز، والانتصار على الضحّاك.
2 – الأرجح أن أحداث هذه القصة تعود، في جذورها الأولى، إلى العهد الذي كانت فيه القبائل الآريانية تعيش مجتمعة في وسط آسيا (جنوبي روسيا)، قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة آلاف عام، ولا ننس أن أقدم ما ورد في الأڤستا (الأبستاق) يعود إلى تلك العهود.
3 – بعد أن انتشرت القبائل الآريانية جنوباً وغرباً، وتحوّلت إلى شعوب وقوميات، وتفرّعت من الثقافة الآريانية المشتركة العريقة ثقافات قومية عديدة، تختزنها ذاكرات قومية خاصة، وابتعدت لهجاتها بعضها من بعض، وصارت لغات مستقلة، أخذت هذه القصة طابعاً خاصاً في ذاكرة كل شعب، وأُسقطت عليها إحداثيات مختلفة، كانت في كل مرة نتيجة معطيات تاريخية معيّنة.
4 – بما أن الفرس سيطروا منذ سنة (550 ق.م) على مقاليد الأمور في غربي آسيا، وخاصة في آريانا الكبرى (أفغانستان، والقسم الغربي من پاكستان، وبلوشستان، وفارس، وكردستان، وأذربيجان)، فقد احتكروا إنتاج الثقافة وتسويقها، وفي إطار ذلك أعادوا صياغة بعض المكوّنات الأسطورية في ثقافة آريانا، بما يتناسب مع مشروعهم للهيمنة والتوسع، وسوّقوها في كل عهد بما يخدم أغراض ذلك المشروع، وليست أسطورة الضحّاك إلا نموذج لذلك.
ما وراء الكلمات
وأما ظهور الكرد بصورة العتقاء في أسطورة الضحّاك فيُراد به ما يلي:
1 – الكرد في الأصل سلالة من (العتقاء، الطرداء)، وكان أجدادهم من الأسرى الذي كان يمكن أن يُقتلوا، لولا أن منّ عليهم (الطبّاخ/الوزير) بالحياة.
2 – الكرد ليسوا تكويناً عرقياً واحداً، إنهم مزيج غير معروف الهوية، والدليل على ذلك أن الرواية لا تذكر شيئاً عن هوية أولئك العتقاء، فهم كانوا من خليط شتّى.
3 – الكرد شعب متوحش، مواطنهم الجبال، لا يفقهون أبجدية الحضارة، ولا يمكن أن ينتقلوا من دائرة (التوحش) إلى دائرة (التمدن).
والخلاصة أن ظهور الكرد في أسطورة الضحّاك ليس أمراً فريداً، إنه حلقة في سلسلة الحملات التي دُشّنت في غربي آسيا لتشويه صورة الكرد منذ سقوط دولة ميديا سنة (550 ق.م)، وتسلّلت من بعد إلى مصادر التراث الإسلامي، وأخذت فيها أشكالاً عديدة، من أبرزها مشروع الطعن في (أصل الكرد)، واعتبارهم بشراً من الصنف الرديء. وكان الذين صمّموا هذا المشروع، ونفّذوه في الغاية من الدهاء؛ إذ معروفٌ أن (الفروع) في كل شيء تتبع (الأصول)، ويكفي أن تكون (الأصول) فاسدة، كي تكون (الفروع) فاسدة أيضاً.
وبطبيعة الحال لم يقتصر تعميم صورة الكرد المشوَّهة على الذاكرة الغرب آسيوية فقط، وإنما عُمّمت على ذاكرة الشعوب الإسلامية جميعها، بحكم أن مصادر التراث الإسلامي مبثوثة في بلاد المسلمين جميعها، وكل من يطّلع على تلك المصادر يخرج منها- شئنا أم أبينا- بانطباع سيّئ عن الكرد، وخاصة أن عامّة المسلمين، وقسماً كبيراً من خاصّتهم، يتعاملون مع معظم ما جاء في التراث الإسلامي بقدر كبير من القبول والتسليم، ولا يُخضعونه للفحص والتحقيق.
وعلى أية حال يبدو لنا أن مسألة (شَيطنة) الكرد، من خلال قصة الضحّاك (أزدهاك، أستياگ)، لم تكن أمراً عارضاً، ولا زلّة لسان، ولا ضرباً من العبث، إنها كانت- فيما نجد من مؤشرات وفيما نستشعر- حلقة من مشروع قديم وضخم ومعقَّد، لعلنا نستمر في التنقيب عنه، واستكشاف ملامحه، في الحلقة القادمة.
المراجع
1. ابن خلّكان: وفيات الأعيان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار صادر، بيروت، 1969.
2. دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والتوزيع، دمشق.
3. الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق شُعَيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1982.
4. صالح أحمد العلي: تاريخ العرب القديم والبعثة النبوية، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2000.
5. الطبري: تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1979.
6. الأستاذ طه باقر، الدكتور فوزي رشيد، الأستاذ رضا جواد هاشم: تاريخ إيران القديم، مطبعة جامعة بغداد، بغداد، 1979.
7. الفردوسي: الشاهنامة، ترجمة سمير مالطي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الرابعة، 1986.
8. مجموعة من الباحثين: كركوك (بحوث الندوة العلمية حول كركوك) 3-5 نيسان 2001، دار آراس للطباعة ولنشر، أربيل، كردستان العراق، الطبعة الأولى، 2002.
9. الدكتور منذر عبد الكريم البكر: دراسات في تاريخ العرب قبل الإسلام (تاريخ الدول الجنوبية في اليمن)، جامعة البصرة، البصرة، 1980.
10. ول ديورانت: قصة الحضارة، ترجمة الدكتور زكي نجيب محفوظ، الإدارة الثقافية، جامعة الدول العربية، الطبعة الرابعة، 1973.
11. وليام لانجر: موسوعة تاريخ العالم، أشرف على الترجمة الدكتور محمد مصطفى زيادة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1959.
12. ياقوت الحموي: معجم البلدان، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.
وإلى اللقاء في الحلقة الثامنة
د. أحمد الخليل في 1 – 1 – 2009
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35472