الإعلان المتعاقب من جانب الولايات المتحدة، مرة، ومن جانب «قوات سوريا الديمقراطية»، مرة أخرى، عن القضاء على تنظيم «داعش»، من الممكن أن يكون قد جعل كثيرين في المنطقة وخارجها يشعرون بشيء من الراحة، وبنوع من القدرة على التقاط الأنفاس، ولكن المشكلة أنه رسم علامات استفهام كبرى، تبدو لنا أسئلة حائرة تبحث عن إجابات!
فاللافت حقاً أن «قوات سوريا الديمقراطية»، التي توجد شرق سوريا، والتي تضم عناصر مقاتلة عربية، وأخرى كردية، والتي كذلك تحظى بدعم أميركي معلن، قد أعلنت القضاء على الوجود «الجغرافي» للتنظيم، الذي حيَّر العالم، وأثار مخاوفه لسنوات!
وهنا يتجلى السؤال عن الوجود غير الجغرافي، سؤالاً بديهياً ومُعلقاً في الأفق، دون أن يجد جواباً يتساند إليه، أو قدمين يتكئ عليهما في مكانه. فالقضاء الجغرافي على «داعش»، حسب إعلان «قوات سوريا الديمقراطية»، يعني بوضوح أنه لم يعد موجوداً في هذا المكان بالذات، الذي تسيطر على أنحائه هذه القوات، أما الوجود غير الجغرافي، أي على مستوى عناصره الهاربة، وأفكاره الطائرة التي آمن بها، واعتقد فيها، ومارس عنفه، وإرهابه، وتخريبه، وتدميره، على أساس منها، فتلك قضية أخرى لا تعنيها تلك القوات المدعومة أميركياً، عندما تزف إلينا نبأ انتصارها عليه!
إن فرار أي عنصر من عناصر «داعش»، بفكرته في رأسه، أخطر بمراحل من هروبه بسلاحه؛ لأن سلاحه يمكن تجريده منه عند أول كمين يعترض طريقه ويضبطه، ولكن أفكاره شيء آخر، لا يمكن ضبطها في حوزته، ولو مرّ من ألف كمين، إلا أن يمر من باب يتعامل مع محتوى عقله، ومع مخزون رأسه، ومع وعاء دماغه، وليس مع جسده، ولا مع ما قد يحمله في يده!
هذا، إذنْ، سؤال عن القضاء غير الجغرافي، قائم بغير إجابة. وغض البصر عنه، أو عدم الانشغال بإجابته، يعني أن فكرة الإعلان عن القضاء على التنظيم، سوف تبقى في أشد الحاجة إلى المراجعة الصريحة مع النفس، حتى ولو كانت «قوات سوريا الديمقراطية» قد قصدت أن تكون واضحة بما يكفي، حين خاطبت العالم بأن قضاءها عليه هو قضاء جغرافي!
والمفهوم أن وجوده الجغرافي في غرب العراق، وفي شرق سوريا؛ حيث أعلن من قبل ما سماه «دولة الخلافة في بلاد العراق وأرض الشام»، كان وجوداً في عنوان معروف، وكان بلغة أهل القانون في محل مختار، وكان الوصول إليه بالتالي ممكناً، كما كان القضاء عليه مكانياً مسألة في متناول اليد، حتى ولو طال الوقت وامتد سنين، وهو ما حدث، أما وجوده الفكري إذا صح التعبير، فهو وجود في غير مكان، وهو وجود قد يكون إلى جوارك في الشارع، أو في السوق، أو في المدينة، أو في الحي، أو حتى في الحافلة، فلا تلحظه، ولا تراه، ولا تصادفه، إلا إذا قرر أن يخرج بوجوده هذا من خانة الفكرة إلى حيز الفعل والسلوك!
وسؤال آخر: ماذا عن «الدواعش» الرجال، والأطفال، والنساء، الذين جرى الحديث عنهم مراراً طوال أسابيع مضت، وعن أنهم محتجزون في معسكرات في الشرق السوري، تتبع القوات المدعومة من واشنطن، وعن أنهم في انتظار أن تتسلمهم الدول التي يحملون جنسياتها؟! لقد سكت الكلام عنهم فجأة، رغم أنهم 1500 طفل، و800 رجل، و700 امرأة، ورغم رفض الدول التي يحملون جنسياتها استقبال أحد منهم، باستثناء هولندا، لأسباب أعلنتها في وقتها، ورغم تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإطلاق سراحهم، إذا لم تتسلمهم تلك الدول، ورغم أنه لم يذكر إلى أي أرض، وفي أي اتجاه، سوف يكون إطلاق السراح!
أين هؤلاء في هذه اللحظة، وما مصيرهم الذي ينتظرهم إذا لم تتسلم كل دولة من دول أوروبا مواطنيها فيهم؟ فكلهم أوروبيون كما نعرف، وإذا كان المفهوم أنهم مجردون في معسكرات احتجازهم من سلاحهم، فماذا عن أفكارهم التي يحتفظون بها في عقولهم، وينامون عليها في أعماقهم، وماذا عن قناعتهم تجاه العالم، التي لم يعلنوا تخليهم عنها، ولا حدث أن تطوع واحد من بينهم، ليعترف في شجاعة بأن التجربة أثبتت أن قناعاته ليست صالحة للتعايش في هذا العالم؟!
وسؤال ثالث: أين يختفي أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم والرجل الأول فيه؟! فهو قد ظهر مرة واحدة عندما صلى بالناس علناً في مسجد النوري الكبير في الموصل، وقد كان ذلك وسط مشهد لا نزال نذكره، عند بدء إعلان «داعش» عن تأسيس دولته المزعومة، في بدايات 2014، وبعدها اختفى ولم يظهر مطلقاً، وكان من الطبيعي أن يشتهر منذ اختفائه عن الأنظار بأنه «الشبح» الذي يظهر من خلال أثره، وخياله، وظلاله، ولكن أحداً لا يستطيع أن يضبطه، أو يراه، أو يلامسه! فأين توارى عن العيون؟ وفي أي موقع يستقر؟ وفيمَ يفكر في مكانه، وهو يرى تنظيمه يتداعى، وعناصره تلوذ بالفرار، ودولته تنهار؟!
وقد قيل في مرات إنه أصيب في واحدة من غارات قوات التحالف على مواقع التنظيم، ثم مات متأثراً بإصابته، ولكنهم عادوا ليقولوا إنه لا يزال حياً يُرزق، ويتنقل بين مواقع تنظيمه في الرقة السورية، وفي المناطق المحيطة بالرقة من كل اتجاه، وآخر الأنباء تتحدث عن اختبائه حالياً في كهف من كهوف بادية الشام، وعن أن أفراداً معدودين على أصابع اليد الواحدة يرافقونه في مخبئه، وأن شقيقاً له من بين هؤلاء الأفراد المعدودين، وأنه يتخفى خشية أن يراه طامع في 25 مليون دولار، أعلنتها الإدارة الأميركية مكافأة لمن يقودها إليه!
إن وجود البغدادي حيث هو، وفرار عناصر التنظيم إلى حيث لا نعرف، يرشح «داعش» للعودة المفاجئة في أي وقت، وفي أي أرض، كما كان قد ظهر فجأة في بلاد العراق وأرض الشام، قبل خمس سنوات من الآن، وكما كان قد ملأ الدنيا وقتها وشغل الناس!
الأسئلة الثلاثة عن الوجود الجغرافي، و«الدواعش» الرجال والنساء والأطفال، و«الداعشي» الأول، كلها تجعل الحديث عن القضاء على «داعش» أمراً أقرب إلى الأماني التي تراود العالم، منه إلى أي شيء آخر، إلا أن يكون قضاءً على الفكرة التي تغذيه. والأسئلة نفسها تجعل الكلام عن انهيار دولته كلاماً عن انهيار شكل وبقاء مضمون، ثم تجعل حديث الجيش الأميركي وهو يهنئ «قوات سوريا الديمقراطية» عن النجاح المذهل، وحديث تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، عن المنعطف التاريخي، وهي تصف ما حدث، وحديث ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، عن الإنجاز العظيم، وهو يعلق على ما جرى، تجعل هذا كله في حاجة إلى شيء من التمهل، وأشياء من التعقل!
سليمان جودة
صحافي وكاتب مصري
“الشرق الأوسط”

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

تابعونا على غوغل نيوز
تابعونا على غوغل نيوز

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *