الأحد, فبراير 2, 2025

سوريا الجديدة… انتقال عسكري للسلطة، قلق وخشية، وحاجة لحوار سوري شامل

الافتتاحية*

وأخيراً، بعد ثلاثة عشر عامٍ من الأزمة المستفحلة وصراعات محتدمة في سوريا وعليها، وفي ظلّ ظروف إقليمية ودولية استثنائية مستجدة، التقت الإرادة الدولية مع إرادة الشعب السوري في إسقاط نظامٍ استبدادي شمولي وحشي، حكم البلاد على مدار واحدٍ وستين عاماً بنظام حزب البعث الواحد الأحد؛ فعمّت البهجة والسرور بين السوريين جميعاً، داخل البلاد وخارجها، صباح يوم الأحد 8 كانون الأول/ديسمبر2024م، إثر رحيل بشار الأسد فجراً وفراره إلى روسيا وانهيار كافة المؤسسات الأمنية والعسكرية الحامية لنظامه.

لا شكّ إنّ انتقال السلطة من النظام البائد إلى «الإدارة العسكرية» بقيادة أحمد الشّرع في أقلّ من أسبوعين، وفق تطورات دراماتيكية، وبأقلّ الخسائر، دون انهيار باقي مؤسسات الدولة، ودون وقوع نهبٍ عام، وتحرّر عشرات آلاف المعتقلين والمخفيين قسراً، وكذلك حلّ حزب البعث وكافة مرتكزات النظام البائد الأمنية والعسكرية، يُعدّ انتصاراً للشعب السوري الذي يتوق إلى السّلم والعدالة والحرية والمساواة والاستقرار خلال أقصر مدةٍ ممكنة.

ولكن! لازال الطريق أمام السوريين شاقاً ومعقداً، فقد شهدت الفترة الماضية بعد الثامن من كانون الأول 2024م، فوضى نسبية وبدرجات متفاوتة في عددٍ من المحافظات، واستمرار حالات الانتقام والقتل والضرب والإهانات والاعتقالات العشوائية خارج إطار القانون، وتأخر تفعيل الكثير من مؤسسات الدولة، واتخاذ إجراءات على مقاسات إيديولوجية إسلامية ولو بقرارات غير رسمية، وحتى إعلان تصورات مسبقة عن شكل الدولة ودستورها، وتنفيذ مهام ليست من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، مثل التعيينات في المراكز الأساسية للدولة والترقيات على صعيد الجيش والأمن وتسريح جموع من العاملين في الدولة…الخ.

وما كان مفاجئاً لكلّ السوريين، عقد ما سمي بـ»مؤتمر خطاب النصر»، مساء الأربعاء 29 كانون الثاني 2025م في قصر الشعب بدمشق، دون إعلان مسبق أو تغطية إعلامية مباشرة، وبطابع عسكري بحت، بحضور مسؤولي «هيئة تحرير الشّام» وفصائل متحالفة معها ومسؤولي معظم ميليشيات «الجيش الوطني السوري» التي تلطخت أيادي قادتها بدماء الكُـرد السوريين، حيث أعلنت إدارة العمليات العسكرية «بيان إعلان انتصار الثورة السورية» الذي تضمن إلغاء العمل بدستور عام 2012م، وحلّ مجلس الشعب، وحلّ الجيش والمؤسسات الأمنية، وحلَ حزب البعث وأحزاب الجبهة، وحلّ «جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية السياسية والمدنية»، وتولي أحمد الشرع رئاسة البلاد وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت للمرحلة المؤقتة، وقد أيّد الحضور مضمون البيان بطريقةٍ شبيهة بالمبايعة؛ كما أنّ متزعمين للميليشيات (محمد الجاسم/أبو عمشة، سيف أبو بكر، أحمد إحسان فياض الهايس/أبو حاتم شقرا، فهيم عيسى…) مشهورين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ثلاثة منهم معاقبين من أمريكا، ألقوا خطابات في المؤتمر، ودعا أحدهم ضمنياً لشن حرب جديدة ضد مناطق الإدارة الذاتية بشمال شرقي البلاد.

وفي خطابه كرئيس للبلاد في اليوم التالي، أعلن أحمد الشرع أنه تسلّم مسؤولية البلاد، وسيقوم بتشكيل «حكومة انتقالية شاملة»، ولجنة تحضيرية لاختيار «مجلس تشريعي مصغّر»، ولجنة تحضيرية لـ»مؤتمر الحوار الوطني»، وسيعلن «الإعلان الدستوري» كمرجع قانوني للمرحلة الانتقالية؛ وسيركز على «تحقيق السّلم الأهلي» و «عدالة انتقالية» و»إتمام وحدة الأراضي السورية وفرض سيادتها تحت سلطة واحدة» و «بناء مؤسسات قوية» و»إرساء دعائم اقتصادٍ قوي واستعادة الخدمات الأساسية المفقودة»، ودعا السوريين لـ»المشاركة في بناء وطن جديد يحكم فيه بالعدل والشورى»، دون تحديد مدد زمنية وآليات تنفيذية واضحة لهذه المهام، وقد أصبح رئيساً بمطلق الصلاحيات وبيده كافة السلطات إلى أجلٍ غير مسمى.

إذاً تمّ رسم المرحلة الانتقالية من خلال السيناريو العسكري المستند إلى ما تسمى بـ»الشرعية الثورية»، دون أيّ سيناريو سياسي آخر أو مؤتمر وطني سوري الذي أعلنت إدارة الشرع نية عقده بألف ومئتي شخص وتراجعت عنه أو وفق مضامين القرار /2254/ المجمع عليه وبإشراف الأمم المتحدة.

ما يقلق أغلب السوريين، أن يتحول الرئيس المؤقت إلى مستبدٍ جديد يستأثر بالسلطة وبكامل الصلاحيات وبكافة المؤسسات، خاصةً وأنه لا يبدي أي اهتمام بمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعددية والدولة المدنية أو اللامركزية وغيرها، أو بدور المرأة وحقوق مكونات الشعب السوري والأقليات على نحوٍ صريح، وأنه سيسعى لعقد مؤتمرٍ سوري كحوارات واستشارات وفق مبدأ الشورى، أي بمخرجات غير ملزمة، ولم يطالب بإنهاء الحروب في البلاد، من جهة العلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية في شمال وشرقي سوريا ومع قوات الجنوب في محافظتي درعا والسويداء؛ وهناك خشية من التضييق على الحياة السياسية، والذي بدأ بقرار حلّ أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية»، أو أن تتخذ الحكومة المؤقتة قرارات مصيرية سلبية تؤثر على حاضر ومستقبل البلاد؛ ثمة مخاطر حقيقية تهدد راهن ومستقبل البلاد، لا سيّما انتهاكات وسلوكيات لجماعات محسوبة على الإدارة الجديدة، وضعف قدرتها على استتباب الأمن في جميع مناطق سيطرتها من حيث العدد والإمكانات، وكذلك ظهور جماعات متطرفة من بين صفوف «هيئة تحرير الشام» وتلك الجهادية الخارجية التي رافقتها وتسعى لتأسيس خلافةٍ إسلامية، أو استمرار الميليشياوية وتجدد الاقتتال الداخلي وبروز حالة انقلابية؛ والأخطر من ذلك هجمات الاحتلال التركي والميليشيات السورية الموالية له على مناطق الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ولا تزال مستمرّة، وارتكاب الانتهاكات والجرائم في مناطق عفرين وكري سبي/تل أبيض وسريه كانيه/رأس العين؛ وفي هذا السياق يبقى التواصل والمفاوضات بين (قسد) والإدارة الجديدة ضرورة قصوى، تنعكس بشكل إيجابي على مجمل الأوضاع.

وهناك أهمية قصوى أن يحظى «المجلس التشريعي المؤقت» و «الإعلان الدستوري» المرتقبين بإجماع وتوافقٍ سوري عام، وأن تعمل سلطات المرحلة الانتقالية على إنهاء الصراع والعنف ومحاربة الإرهاب والأيديولوجيات المتطرفة العنيفة، ووقف إطلاق النار وأي هجمات موجهة ضد المدنيين والأهداف المدنية في حدّ ذاتها، والإفراج عن المحتجزين بشكل تعسفي أينما كانوا، وحماية السكّان وتهيئة الظروف المواتية للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخلياً إلى مناطقهم الأصلية وتأهيل المناطق المتضررة، وأن تتخذ تدابير بناء الثقة بين المواطنين وكافة شرائح ومكونات الشعب السوري، وتشجع على مشاركة المرأة على نحو هادف في العملية السياسية، وتتيح الفرص لوصول المساعدات الإنسانية إلى جميع من هم بحاجة إليها، وتؤسس حكماً ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدّد جدولاً زمنياً وعملياً لصياغة دستور جديد، ومن ثم تجري انتخابات حرّة ونزيهة بموجبه، بما ينسجم مع شرعة حقوق الإنسان والقانون الدولي.

بعد إلغاء فكرة عقد مؤتمر وطني سوري ذي صلاحيات ومؤسس للمرحلة الانتقالية، يبقى لعقد مؤتمرٍ حواري سوري – سوري شامل ضرورة ملحة ودون تأخير، ودون إقصاء أي مكوّن من الشعب السوري، عسى أن يفتح آفاقاً وطنية جامعة، تشكّل حالة سياسية واسعة، تنبذ العنف والكراهية، تطمئن الجميع، لا أن يكون مؤتمراً على مقاس رؤية السلطة لوحدها أو ما يشبه مهرجان للتصفيق ورفع الأيادي وتطييب الخواطر والإرضاء عنها؛ فلابد للمؤتمر أن يكون على مقاس الوطن والشعب السوري بكلّ مكوناته.

إنّ السلطة القائمة تتحمل مسؤوليات واسعة وتواجه تحديات كبيرة، وبحاجة للعمل المشترك والجاد وفق مقتضيات المصلحة الوطنية العليا، الأمر الذي يفرض عليها الانفتاح على الشعب والإنصات إليه وقبول المبادرات بمنطقٍ ديمقراطي شفّاف، وضمان الحريات العامة؛ وهنا لا بد من تعاونٍ دولي وعربي وثيق مع سوريا في كافة المجالات، وهو ما نتلمسه حالياً، بحيث يقطع الطريق على التدخلات التركية السلبية، علاوةً على مراقبة الأمم المتحدة ومساعدة كافة هيئاتها التخصصية للعمل في المرحلة الانتقالية، لأجل تعافي سوريا وإيصالها إلى برّ الاستقرار والأمان.

لنمنح الأمل بالتغيير نحو الأفضل ووضع حدٍّ للمآسي فرصةً ووقتاً، على هدى خطابات ومفردات إيجابية وتطمينات ساقتها الإدارة الجديدة والرئيس أحمد الشرع، والتي جاءت مقبولة على الصعيد الوطني ومتوازنة تجاه الدول الإقليمية والعالمية، ولنحكم على الأفعال والنتائج أكثر مما نحكم على الأقوال.

———–

* جريدة “الوحـدة” – العدد /346/ – 1 شباط 2025م – الجريدة المركزية لحزب الوحـدة الديمقراطي الكردي في سوريا (يكيتي).

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية