سوريا الجديدة تعمق الأزمة.. دولة مركزية وجيش عقائدي
د.طارق حمو

في كلمته التي ألقاها في افتتاح مؤتمر الحوار الوطني في دمشق بتاريخ 25 فبراير/شباط 2025، ركزّ الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع على موضوعين اثنين هما، من وجهة نظره، عائقين أساسييّن أمام توطيد حكم هيئة تحرير الشام وتسهيل ابتلاعها للدولة السورية. قال الشرع إن سوريا «لا تقبل القسمة»، وإن «السلاح يجب أن يبقى في يد الدولة»، بمعنى أن السلطة (المفترض إنها انتقالية) ترفض النظام اللامركزي بل وتجرّمه عندما تعادله بالتقسيم ولا تقبل بضم الهياكل العسكرية ككتل إلى الجيش السوري القادم، بل تهدف لحل هذه الهياكل وصهرها داخل الجيش الذي تؤسسه الآن على عقيدتها السلفية الجهادية، حيث وكلت مهمة تشكيله إلى قادتها الميدانيين، السوريين منهم والأجانب.
انطلق الشرع من سردية جديدة/قديمة تصف صيغة اللامركزية بأنها مقدمة للانفصال والتقسيم. وهذه الصيغة في فهم السلطة السورية الجديدة هي «أنظمة لا تتلاءم وحال البلد»، وإلا فإن «المجتمعات ستتحول إلى حقول تجارب لتنفيذ أحلام سياسية». يعني هذا الكلام أن الشرع ومن معه في هيئة تحرير الشام، التي جاءت عبر عملية عسكرية ما زالت الظروف المحيطة بها والمسببة لها غامضة ومبهمة، يرفضون صيغة اللامركزية ويريدون دولة مركزية يمسكون فيها على كل مفاصل السلطة ويتحكمون بالقرار ويشكلون السياسات والعلاقات ويديرون البلاد حسب مفهومهم وحسب رؤاهم هم، بدون أخذ أي اعتبار للتعددية والتنوع ولا للواقع الذي تبلوّر بعد 14 عاماً من الحرب الداخلية التي أسفرت عن تدمير البلاد وتهجير ملايين السوريين وبروز تنظيمات جهادية عابرة للحدود وحدوث احتلال تركي لمناطق سورية تتعرض الآن لتتريك ممنهج يمسح ويلغي الهوية الوطنية السورية.
يريد الشرع وتنظيمه الجهادي، الذي يبتلع الدولة اليوم بإسم الوطنية والشرعية والقبول الخارجي، دولة شديدة المركزية لا وجود فيها للمكونات والهويات الوطنية. لا صيغ إدارية فيها تدير الشؤون المحلية وتراعي مصالح الأطراف، بعيداً عن احتكار المركز للقرار. يدور في ذهن الشرع وتنظيمه فكرة العودة إلى المربع السوري الأول، أي سوريا ما قبل 2011، يكون هو فيها الرئيس الأبدي وهيئته تكون هي «الحزب القائد للدولة والمجتمع». سوريا الدولة المركزية التي تقصي فيها السلطة، بحسب القانون والدستور، كل رأي مخالف، ويتصرف فيها الحاكم والحزب والأجهزة الأمنية بشكل فردي من غير مراقبة قانونية وبرلمانية ودون أخذ مصلحة السوريين بالاعتبار. يظن الرئيس الانتقالي بأن هكذا دولة ستكون كلاً واحداً في يده، يفرض رجاله كحكام محليين على الأطراف/اللامركزيات الإدارية فيها، يبت من خلالهم في شؤون أهلها، ويقرر بحسب ما يراه مناسباً، فيقصي من يقصي ويقرّب من يقرّب (على شاكلة ما حدث في مؤتمر الحوار الوطني).
وصف الشرع صيغة اللامركزية التي يطالب بها سكان شمال وشرق سوريا، والآن أهل السويداء، وربما قريباً وبشكل أكثر بروزاً وتنظيماً أهل الساحل، بأنها «أنظمة لا تتلاءم وحال البلد ستحول المجتمعات إلى حقول تجارب». يخفي هذا الوصف وراءه موقفاً عقائدياً ورفضاً مبدئياً للاعتراف بالواقع وبحقيقة الشعب السوري في كونه شعباً يتكون من مكونات عرقية ودينية وطائفية. تشبه الاتهامات التي تطال اللامركزية وتخون طلابها في محتواها ومراميها السياسية الاتهامات التي كان بشار الأسد ونظامه وحزبه يكيلونها للقوى المعارضة التي كانت تطالب بالديمقراطية والحريات ودولة القانون. يظن الشرع بأن هذا المنحى سيطمئن الدولة التركية التي ترفض كل أشكال اللامركزية الإدارية وتؤيد إقامة دولة شديدة مركزية تبقى في يد تنظيم يواليها يقدم لها كل ما تريد فرضه وتمريره في سوريا. إنها رسالة للداخل تظهر رفضاً وتصلباً في وجه إدارة شمال وشرق سوريا ولدعوات أهل السويداء، وأخرى موجهة للخارج تنشد نيل رضا تركيا التي تريد سوريا نظاماً تابعاً يرسم خريطة الداخل السوري ويحدد العلاقات وأنماط الإدارة والحوكمة بما يراعي ويتوافق مع حساسيات الأمن القومي التركي لا الأمن القومي السوري.
أما الشق الثاني من حديث الشرع فكان عن «وحدة السلاح واحتكاره بيد الدولة». وهذا يعني رفض مطالب دمج قوات سوريا الديمقراطية والمجلس العسكري في السويداء والمجلس العسكري في حوران بقيادة أحمد العودة ككتل متماسكة إلى الجيش السوري النظامي. ويأتي هذا الموقف بناء على المنهجية التي يسير عليها الشرع والهيئة في جعل فصائلها هي «الجيش الوطني النظامي» وتصوير كل فصيل يرفض هذا الواقع خارجاً عن الصف الوطني، وبالتالي «ميليشيا» ترفض الانضمام إلى الجيش السوري الجديد. ومن هنا، يأتي حديث السلطة ومنظريها عن تذويب هذه الفصائل التابعة لمناطق الجنوب والشمال كأفراد في جيش الهيئة/جيش الدولة الذي يقوده جهاديون سوريين وأجانب. وتجهد الماكينة الإعلامية التابعة للهيئة أو تلك التي تدافع عن مشروعها في التمكين والسيطرة، بوصفه هو المشروع السوري المركزي، في اتهام كل الفصائل التي ترفض الانضمام وفق الصيغة المطروحة من السلطة بالخروج عن الصف الوطني والميل إلى الانعزال والتخندق الجهوي وبالانفصال. والحال أن رفض انضمام هذه القوات كهياكل وكتل، تحت تسميات عسكرية يتم الاتفاق عليها، ينم عن توجه غارق في السيطرة والمركزية ومنهجية واضحة في خلق دولة شمولية تمسك الهيئة بكل مفاصلها ومؤسساتها المدنية والعسكرية تحت حجة «الوطنية السورية» التي جعلتها الهيئة حكراً ورهناً بفصائلها وعناصرها فقط.
والحال أن موقف سلطة هيئة تحرير الشام في رفض اللامركزية والإصرار على دولة شمولية لا حياة سياسية ولا حريات فيها ورفض انضمام القوات العسكرية السورية في الأطراف كهياكل وكتل والخطاب السياسي والإعلامي الغارق في التحريض والتخوين، يعزز من مخاوف المكونات التي لا ترضى بالصبغة العقائدية للسلطة الحاكمة في دمشق وببرنامج الأسلمة ورفض الديمقراطية والتعددية القائمة في البلاد. وكلما زادت التصريحات المعادية للأطراف السورية وللهياكل العسكرية فيها، تزداد القناعة لدى هؤلاء في ترسيخ صيغة اللامركزية والاحتفاظ بهيكلية القوات ورفض الذوبان في جيش الدولة/الهيئة. ومن هنا، تتعزز التوجهات في توطيد المكتسبات المحلية والبحث عن القوى والفواعل الإقليمية والدولية القادرة على تقديم المساعدة والعون لهذه الأطراف لكي تبقى خارج السلطة العسكرية الشمولية غير الديمقراطية في دمشق. ومن هنا، فإن من يتخندق وينعزل هو المركز وليس الأطراف. من يرفض صيغة التعايش الوطني المتمثلة في اللامركزية التي تراعي خصوصيات المكونات السورية هو المركز وليس الأطراف. فالمركز الذي تسيطر عليه حكومة الأمر الواقع المتمثلة في هيئة تحرير الشام التي جاءت عبر القوة الغاشمة يرفض الحل الواقعي القائم على الاعتراف بالخصوصيات المحلية ويصر على سياسة الصهر والإذابة بما يعمّق الخلاف والأزمة ويعزز مخاوف الأطراف ويدفعها إلى البحث عن بدائل أخرى تحميها من سياسة السلطة الشمولية وبطشها. وما يحدث في الساحل السوري وفي حمص من انتهاكات بحق المكون العلوي، يدق جرس الإنذار ويطعن في كل حجج ومسوغات السلطة في الوحدة الوطنية.
ثمّة اعتقاد يتشكل لدى السوريين بأن من يتخلى عن السلاح ويسلم أمره لسلطة هيئة تحرير الشام والقائمين عليها، من المدنيين والعسكريين، فإنما يحكم على نفسه بالنفي والتلاشي والتحول إلى رقم منزوع الإرادة والموقف. وهناك أصوات باتت تحذر من نجاح السلطة في حملات «التطهير» التي تقوم بها ضد كل خصومها ومعارضيها والوصول بمشروع التمكين إلى نهايته المنشودة. كما تحذر من أن السلطة ستتجه بعد ذلك إلى قمع و«تأديب» كل الإرادات التي لم تقبل بحكمها ورفضت اختزال سوريا الوطن والشعب فيها. هناك معارضة ديمقراطية وطنية بدأت تتشكل حيال هذه السلطة التي تريد تغيير وجه سوريا للآبد. معارضة لمنع تحويل هذه السلطة سوريا إلى إمارة ظلامية يقمع فيها كل سوري رافض لفكرها وعقيدتها التي يٌراد لها أن تكون هي، وهي فقط، النسخة الوحيدة من «الوطنية السورية».
المصدر: المركز الكردي للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=64008