سوريا ما بعد التغيير.. نموذج الإدارة الذاتية ومستقبل الحوار الوطني
بقلم: حسين عثمان
إن الأحداث الجارية والمتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط ابتداء بحرب غزة وليس انتهاء بسقوط النظام البعثي المستبد في سوريا تعبر عن توجهاتٍ في إعادة هندسة الشرق الأوسط بوجهٍ جديد تحدده القوى العالمية ، وماحدث في سوريا جزء من هذه الخارطة خاصة بعد الحرب على حزب الله اللبناني، وكانت دائما المعضلة السورية هي من أهم المسائل التي أرّقت المجتمع الدولي بعد 14 عاما من الصراع الداخلي نتيجة تعنت النظام السابق وعدم اعترافه بوجود ثورة وانتفاضه تسعى للتغير الشامل ورفضه لكل أشكال الحوار أو التنازل رغم أنه لا يفرض سيطرته إلّا على جزء من الأراضي وكانت سوريا مقسّمه على أرض الواقع.
مع انطلاق الحراك في سوريا عمد النظام على الحفاظ على بعض المناطق التي يُبسط سلطته عليها لضمان بقائه واستمراريته ومع بداية تمدد الحركات الراديكالية في سوريا وبعد انتشار “داعش” قام النظام بسحب كل قواته ليعزز أماكن استمراره وترك المنطقة لتواجه مصيرها أمام زحف “داعش” التي تمددت وسيطرت على مساحات واسعه من سوريا بين عامي 2014-2017 وأمام الفظائع التي جرت اتّحدت مكونات المنطقة والتي كانت تعاني من القتل أو التهجير على تشكيل قوة جامعة وطنية سورية وكانت نواتها وحدات حماية الشعب والمرأة، وانضمام المكونات الأخرى من عرب وسريان وكل الأطياف التي نظّمت نفسها بهدف حماية وجودها والخطر الذي هدّد إبادتها.
وبعد الهجوم على مدينه كوباني من قبل “داعش” في عام 2015 تم الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية والتي عرّفت عن نفسها في بيان رسمي في 11أكتوبر2015 في مدينة قامشلي على أنها تكتل عسكري وطني لكل السوريين يضم كل مكونات الشعب السوري وهدفها هو دحر تنظيم “داعش” واستعادة جميع الأراضي التي سيطر عليها واجتاحها التنظيم بالإضافة إلى مهمة حفظ الأمن والاستقرار في مناطق الإدارة الذاتية وملاحقة الخلايا التي تحاول بين الفينه والأخرى أن تعيد تنظيم صفوفها وانتعاش ظهورها من جديد، وكانت مهمة حفظ الحدود لزاما على قوات سوريا الديمقراطية نتيجة للاعتداءات أو الخروقات التي تستهدف سيادة الأراضي السورية والتي عملت منذ تأسيسها على حماية الحدود انطلاقا من هويتها الوطنية السورية التي أجمع عليها كل مكونات المنطقة بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم .
لكن طوال هذه السنين التي انقضت من عمر الثورة السورية ا٥ثبتت قوات سوريا الديمقراطية وفي كثير من المناسبات وفي كل تصريحاتها ومنشوراتها واجتماعاتها على أنها قوى سورية فاعلة استطاعت منذ تأسيسها على الحفاظ على المكتسبات التي تحققت من خلال تعاضد جميع مكوناتها وحافظت على الأمن والاستقرار في حين كان الوطن السوري غارقاً في الفوضى وفقدان الأمن والأمل بنفس الوقت.
ومع استمرارية تعنت النظام الهارب في فهم الواقع والمتغيرات التي كانت تحدث وعدم تقبّله لأي تنازلات تحفظ سوريا من الضياع وتؤسس لحالة تتماشى مع متطلبات الشعب السوري الذي خرج مناديا بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أيضا حافظت مناطق الإدارة الذاتية على توفير بيئة إدارية ومؤسساتية تنظم المجتمع وتدير شؤونها عقب القضاء على تنظيم “داعش” وانطلقت التجربة بداية منذ عام2014 في مدينة عامودا وبعد تحرير المناطق الأخرى على أيادي قوات سوريا الديمقراطية تم تشكيل الإدارات التي ستعنى بالشؤون الإدارية والخدمية في كل منطقة ولتعزيز التنسيق بين هذه الإدارات وفق مبدأ اللامركزية تم في عام 2018 الإعلان عن الإدارة الذاتية، وهي جسم إداري سياسي يربط هذه الإدارات وفق مبدأ عمودي و وافقي ولتكون أول حالة منظمة على مستوى سوريا ومن خلال هذا التنظيم الذي عكس الرؤية المستقبلية لحل المعضلة السورية استطاع جميع مكونات المنطقة في الحفاظ على إرثهم وثقافتهم وحقوقهم، والأهم من مشاركتهم في إدارة مناطقهم عن طريق الفكر التشاركي وتكريس لواقع السلم الأهلي والعيش المشترك من خلال إشراك الجميع بالتمثيل وقدّمت انموذجا قابل للتطبيق ويمكن دراسته، وهو مشروع ممكن للنقاش والتطبيق.
وكان المنهج السياسي الذي اعتمدته الإدارة الذاتية منذ تأسيسها يرتكز على مبدأ الحوار بين جميع السوريين للوصول إلى سوريا ديمقراطية تمثل جميع التطلعات وانطلاقا من هذا المبدأ أطلقت مبادرتها في نيسان/ أبريل 2023 التي جاءت ردّا على الأصوات التي كانت تحاول تشويه صورة الإدارة ومحاربتها تحت تسميات متعددة وذلك لعدم فهم حقيقه هذا المشروع أو نتيجة صراعات إقليمية تقف ورائها العديد من الدول وعلى رأسها تركيا.
وكانت تلك المبادرة جوابا واضحا لكل المشككين بهوية هذه الإدارة والتي كانت من أولى بنودها الحفاظ على وحدة الأراضي السورية وغيرها من البنود التي ناقشت جميع القضايا من جانب وطني سوري بحت، ورفض أي مساس بسيادة الأراضي السورية ورفض التقسيم الذي كانت بعض الدول الإقليمية تحاول تكريسه والترويج له من خلال عمليات التغير الديمغرافي التي شاهدها العالم أجمع ولم يحرّك ساكنا.
هذا النموذج الإداري الذي بنته الإدارة الذاتية في إطار وطني ضمن الدولة السورية يحترم التنوع المجتمعي ويعزز الوحدة الوطنية، وكل النقاشات أصبحت الآن متاحة بعد التخلص من النظام الذي دمّر سوريا وحاول زرع التفرقة بين أبنائها ومحاولة تمزيق نسيجها المجتمعي الذي يُعتبر غنى لسوريا وقوه ويجب أن تكون هذه اللوحة الجميلة مصدرا لقوة الدولة السورية الجديدة
إن المرحلة الجديدة في تاريخ سوريا بعد الإطاحة بمنظومة الاستبداد والاقصاء تتطلب حسّا وطنيا عاليا والاستفادة من الأخطاء السابقة لنستطيع رسم مستقبل يلبي طموحات السوريين في تكويناتهم واعراقهم وطوائفهم في العيش في دولة الكرامة والعدالة والقانون.
الكل مُطالب اليوم أن يكون سورّياً ويعبّر عن هويته السورية ووطنيته بالأفعال وبعيداً عن الارتهان للخارج فـ سوريا خرجت من تحت الوصاية الإيرانية وهي ليست بحاجة وصاية لدول أخرى فالشعب السوري بكل مكوناته قادرٌ بالحوار البنّاء أن يرسم مستقبل بلاده ويحدد مصيره.
نحن اليوم بأمسّ الحاجة لعقد مؤتمر وطني سوري شامل جامع يمثل الجميع لأن سوريا لكل السوريين
وإيقاف العمل بالدستور الحالي، وإعلان مبادئ دستورية متّفق عليها إلى حين تشكيل هيئة تأسيسية لصياغه دستور جديد بما يتماشى مع تطلعات السوريين بكل مكوناتهم.
أمام السوريين اليوم فرصة حقيقة لبناء دولتهم المنشودة والتي تمثّل الجميع ونحن أمام لحظات تاريخية حاسمة في خضم الصراع الإقليمي والدولي وتغير وجه الشرق الأوسط وبنيته.
فيجب أن يعي جميع السوريين أن هذه المرحلة تتطلب تكاتف الجميع والابتعاد عن التجاذبات ورسم ملامح مستقبل سوريا الجديدة وفق رؤى وعقلية منفتحة، والتخلص من الآثار السلبية التي أورثها حزب البعث لعقول السوريين.
حسين عثمان
الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي في الإدارة الذاتية الديمقراطية لإقليم شمال وشرق سوريا
المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=59213