خالد حسين

“لكنْ … لِمَ يتوجّب أن يكون هنالك شعراء في زمن المحنة”

هولدرلين/ هايدغر: دروب لا تفضي إلى أيّ مكان، ص313.

إنّ شــــــــــعرية جكرخوين مـــــرهونة في اســــــتـكشاف حدودها

وطاقاتها بالقـــــــــــــراءات المختلفة والمتنوعة من جمــــــــــــــالية

وســـــوســـــــــيولوجية وتاريخية وثقافية، لكن هذه الورقة لــــــن

تنشـــــــــغل بهذه الثيمة كونها تواجه هنا خطاباً مدفوعاً بغـواية

التكـــــــــــفير للحطّ من الأثر التنويري، وحتى الشّـــــــــــــــــــــــعري،

للشّـــاعر الكردي في مجتمعه في غضون مســـــــاحةٍ كبيرة مـن

القرن العشــــرين. وهو خطابٌ متهافتُ في مكمنِهِ يتوسّــــــــــل

مفاهيمَ دينية ابتغاء التأثير على القرّاء في مهاجمته للــــــــوعي

العَلماني/ الدنيوي الذي أشــــــــــــــاعَهُ الشّاعر قدر إمكانياته مع

آخرين في تقويض البنية التّصورية الأسطورية المهيمنة على

رؤية الفرد الكــــــــــــــردي للعَـالم والدين والانتماء وقتئذٍ.

I

يباغتنا الأرخبيلُ الكرديُّ بتمزقاته، في راهن هذا الوقت، بممارساتٍ خطابيةٍ غايةً في الخساسةِ تمثّلُ “الإسلام السياسي” بإيهابٍ كرديٍّ ملتبسٍ في جذوره؛ فهذه الممارسات الخطابية السّقيمة ــ التي تتوسّل شذراتٍ دينيةً وأغبرةً ووصايا تراثية من ثقافةٍ مغايرةٍ للثقافات الكردية وكل ما يضادُّ الفكر التنويري فيها، بل فُرضتْ على الكرد إكراهاً في غابر الزمن، ومنتزعة من سياقاتها النّصية ــ تستهدفُ الفكر العلماني بجذوره وعلى بساطته والممثّلين له في الثقافة الكردية.

وفي هذا الوقت يركّز اتجاه في “الإسلام السياسي” ــ في شخص أحد الكتبة الهُلاميين([1]) ــ خطابه الحاقد على الشّاعر الكرديّ الشهير جكرحوين (1903ــ 1984). وهذا الخطاب، الذي يعاني من فائض عفونةٍ، يُطبخُ، كما يتراءى للقارىء في مطابخ الفكر الإخواني الأجرب والترويج لفكر سلفيٍّ غثٍّ (يدّعي صاحبه أنه لم يتأثر بالثقافة الحلبية!!)، خطابٌ يُذكّر بأسوأ ما في خطاب الإسلام السياسي من اتجاهات معتمة فكراً وممارسةً، خطاب ينظرُ بخيلاء إلى نفسه على أنه مالكٌ وحيدٌ للحقيقة.

II

ولاريبَ في أَنّ المدوّنةَ النَّصيّةَ لجكرخوين مثلها مثلَ أيّ مدوّنةٍ نصيةٍ أُخرى يمكن أن تكونَ موضوعةً لأيّ قراءاتٍ جماليةٍ أو نقديةٍ أو ثقافيةٍ وحتى سياسية متباينة ومتغايرة في نتائجها وفقاً للرؤية والمناهج التأويلية؛ فالاقتراب من هذه المدوَّنة أمرٌ لازبٌ، لازمٌ إذا ما أردنا أَنْ نكشفَ عن الأنساق التصورية السوسيو ــ الثقافية، في ظاهرها ومضمرها، التي بزغَ فيها جكرخوين شاعراً وفاعلاً تنويرياً مؤثّراً. وهذا أمر تتطلبه الضرورة النقدية والسياسية وهو ما يمكن رؤيته في الدّراسات والأطاريح الأكاديمية التي تُنجز في الأكاديميات الكردية. وبخصوص هذه المدوّنة النّصية ثمة آراء متنوعة ومختلفة وحادة على الصعيد الجمالي وهي تتأسس كافّةً على الرؤى النقدية أو الجمالية أو السياسية التي ينطلق منها أصحابها.

لكن ما يذهب إليه الخطاب المتأسلم، القبيح في رثاثته، وعلى ضحالته، فيما يتعلّق بجكرخوين لا يمتُّ بصلةٍ للحقل النقدي وفق أصنافه المعروفة سوى أنه يرمي إلى محاكمة الشّاعر في فكره ووجدانه وضميره وفي دوره التنويري، فالغاية الأولى والأخيرة لأصحاب هذه القيح هو أسلمةُ المجتمع الكردي (سوريا) والقضاء على الاعتدال الديني لدى الكرد السنة وكذا التنوع الديني (إيزيديين، علويين) فيه، بجعله رهينةً لخطاب إرهابيٍّ في مواجهة الآخر الكردي المختلف.

لذلك، وفي هذا المنعطف الأول من القراءة، دعونا نتأمّل في المقال الأساسي لجمال حمه بعنوان: (الشّاعر الكوردي جكرخوين: في ميزان العقل والمنطق والأخلاق)([2])، فالمقال ــ وبوصفي أحد المشتغلين في النقد ــ أراه أبعد ما يكون عن الحقل النقدي وبغضّ النَّظر عن الصنف النقدي المقصود انتماءً، فضلاً عن كونه مغطّى بطبقةٍ سميكةٍ من السّماجةِ والفقر المعرفي ولا تتوفّرُ فيه أدنى أشكال التحليل المعرفي فهو، ونظراً لغلوّ صاحبه في الانتماء الديني، يحاول أساساً تصفية الحساب مع الفكر التنويري لدى الكرد، فالكاتب يستهدف شخصية الشّاعر وممارساته اليومية وليس الأثر النصيَّ الذي تركه، ولذلك تغطّي مساحة المقال كلمات بذيئة في توصيف شخصية جكرخوين (سيء الخلق والأدب، مستهزىء، رجل تافه…إلخ)([3])، ولعمري فإنّ أثرَ الشاعر (أو سيرته) في مجتمعه يُكذّب هذا التوصيف جملةً وتفصيلاً، فالشّاعر كان يتمتّع بشخصيةٍ قويةٍ ودمثةٍ وذكيةٍ، لها رنينُ الذهب، كما يُقَال، في نفوس الكرد مهما تنوعت الآراء الخاصة بنتاجه الشّعري من حيث التقييم.

ومن المضحك المبكي أنّ الكاتب ينهارُ في تناقض مريع؛ إذ يدّعي أنه لن يتدخّلَ في قناعات الشَّاعر فهذا أمر متروك للخالق، يقول “وهذا أمر مفروغ منه وغير قابل للمزاودة علينا فيها، ولا يجادل في هذا إلا جاهل أو أحمق”، وإذا كان ذلك كذلك، فلماذا يرتكب  تلك الجهالة والحماقة كلتيهما، اللتين حذّر منها، لينتدب من نفسه، من ثمّ، ممثلاً وحارساً ولسانَ حال الخالق: “قاتله الله ــ هكذا يكتب”، فهذا التعبير يحوز على خاصيته الدَّاعشية ويعكس عاصفة الحقد التي تحرّكُ المقال من مبتداه حتى منتهاه، لينتهي المقالُ المزعوم (نقداً)، وفق أحد مريديه، بآية من القرآن. إذ اللواذُ  بآياتٍ من القرآن، هنا، يكون بقصدِ إرساءِ آلية تعطيل الفهم والتدبُّر لدى القارىء؛ ليستسلم لغوايةِ المغالاةِ الدينية.

ومن جهةٍ أُخرى فإنّ اتهام الشاعر بالكفر أو الإلحاد لا يُعَدُّ إلا من ألعاب “الإسلام السياسي” الذميمة في ممارساته الخطابية ابتغاءَ عزل الشخصية المتهمة عن مجتمعها وهو ما يمارسه جمال حمه بحميةٍ ورعونةٍ، فغواية التّكفير تُعَدُّ حجرَ الرّحى في ترسيمات المتأسلمين لمحاصرةِ الآخر وتأليب المجتمع عليه. لكنْ أيُّ كائنٍ يمكنه الفصل بين الإيمان والإلحاد ويمنح نفسه الحقّ في هذا “الفصل المستحيل”، فليس ثمة على الإطلاق ما يسمّى الإيمان (أو الإلحاد) المحض، فلا إيمانَ إلا مشوب بالإلحاد ولا إلحاد إلا مدمغٌ بأثر من الإيمان([4])، فكلٌّ منهما مرتبط بالآخر ويحدّده من حيث يدركُ معتنقُهُ أم لا. ومن ثمّ فإنّ توصيفَ الكاتبِ للشاعر بالإلحاد يُعَدُّ ضَرْبَاً من الحماقةِ والسَّطحيّةِ في التفكير وتدخلاً فجاً في شأن “الخالق” ذاته، فَمَنْ أَعْطَى الكاتبَ هذا الحقَّ (الإلهي) في وهب (الإيمان) أو نزعه عن الإنسان حتى يتهم جيكرخوين بالإلحاد …!

III

وامتداداً لهذا المقال ينشر جمال حمه تعليقاً إضافياً، مكثّفاً للمقال أعلاه؛ فلننظر في هذه الفجاجة التي تذكّرنا بخطابات داعش على وجه الدّقة :[“آن الآوان للشعب الكوردي أن يعرفوا [الصواب: يعرف] حقيقة هُبَل الكورد (جكرخوين) ونقول لعبيده…إن كل الذين حاربوا الله ورسوله ودينه على مر التاريخ ماتوا وانقبروا وأكلهم الدود وأصبحوا ترابًا وبقي الإسلام شامخًا وسيبقى شامخًا إلى ما شاء الله ، وهذا وعد الله تعالى للمؤمنين في القرآن الكريم الذي قال : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ )[الآية] 8 [سورة] الصف، وها هو الإسلام يتربع اليوم على عرش أسرع الأديان انتشارًا حول العالم وبدون سيوف ورغمًا عن أنوف الحاقدين، والحمد لله رب العالمين /جمال الدين حمي]. وفي البداية يمكن القول إنّ حضور جكرخوين العميق في الوعي النفسي ــ الثقافي ـ القومي لدى الكرد هو حضورٌ يشتغل في حقل الاختلاف غير مرهون بسلطةٍ (ما) وهو حضورٌ حيٌّ ودالٌّ يتمثّل في النّظم الشّعري والدور التنويري في النهوض بالمجتمع الكردي(سوريا) بتفكيك العقلية الدينيةالاستغلالية وفضحها عصرئذ، وفي هذا الدور كان جكرخوين رائداً في ترسيخ الفكر العلماني حتى تحوّل إلى أسطورة منتجة للمواجهة، فمن هو (هُبل)؟ (أهو) مَنْ يحرّرُ الكرد من الثقافة المغبّرة وثقافة الغزو والنّهب والسّبي قديماً وحديثاً وراهناً (أحداث شنغال ليست بعيدة زمنياً) وأوهام الميتافيزيقيا ومن ثقافة العبودية للآخر (أم هو) مَنْ تجمّدَ في أفكار صفراء متوسّلاً بأوهام الميتافيزيقا الدينية ذاتها ليدفع بالمجتمع الكردي إلى مستنقع العجز بفعل النكوص التاريخي والبحث عن الفراديس المزعومة في السَّماء ليكبّل الكرد بهذه الثقافة الغريبة عنهم؟!

غالباً ما يكرّرُ الباحث العراقيُّ “محمد صالح”، المتبحّر في نصيّة النّص القرآني وعلوم الحديث والتاريخ الإسلامي إشارةً إلى أنه يحترم (العرب) الذين يدافعون عن الإسلام فالأخير قد حوّلهم (وهذه حقيقية تاريخية) إلى دولة ثم إلى امبراطورية امبريالية اعتمدت على الغزو والنهب واستعمار الشعوب الأخرى؛ لكنه، في الوقت ذاته والكلام لصالح، “يحتقر” أولئك “الكرد” الذين يدافعون عن “الإسلام” الذي قهرهم وسبى نساءهم ونهب بلادهم وجعلهم عبيداً حتى اللحظة. وفي هذا الشأن يشير إلى تواريح الطبري وابن كثير وابن الأثير في تذكير للكرد بقراءة تاريخ الغزوات الإسلامية لبلادهم حتى يدركوا فداحة دخولهم إلى الدين الإسلامي.

ويبدو أنَّ السيد جمال حمه لا يخرج عن “هؤلاء الكرد أو أولاد السبايا في روايةٍ أُخرى” الذين يعشقون العبودية في ظلّ الآخر، فهو يعلن “لعبيد جكرخوين” شموخ هذا الدين و”إقبار” الكفرة كما لو أنّ شيفرةَ الموتِ رهن أصابعه ووقفٌ على المناهضين للإسلام وحدهم فحسب دون مؤسّس هذا الدين وصحابته وتابعيه وتابعي تابعيه. لكن علينا أنّ نذكّر “حمه” أنّ جكرخوين، ومن دون سلطةٍ دينية أو دنيوية أو إرهابية سوى سلطة الجمال الشعري والأثر التنويري، تركَ حضوراً حيّاً “مكنوناً في مَغْرَزِهِ من قلوب” الكرد، فكثيراً يتلوى الكرد نصوص الشاعر عن ظهر قلبٍ للإشارة إلى حدثٍ ما، فهذه النصوص باتت جزءاً من الرأسمال الرمزي للثقافة الأدبية الكردية.

إنّ السيد حمه بهذا الضجيج المعروف عن الإسلام السياسي يكشف عن غباوة الاستنتاج في قراءة التاريخ، فالحقيقة التاريخية تعلن أنَّ إمبراطورية الله المحمية بالقرآن والسّنة وقوانين السَّماء قد انهارت مثل أيّ امبراطورية أخرى على وجه الأرض وتشتّت شذرَ مذرَ كعصفٍ مأكول، وبات المسلمون يتوسلون راهناً اللجوء والخبز والحماية والحرية من بلدان الغرب …! ولم يفرّخ “الإسلام السياسي المعاصر” سوى جماعات إرهابية مثل داعش والنُّصرة والقاعدة وطالبان والحمزات والعمشات وحماس ومماس وكلها تناسلت من جبّة حسن البنا وسيد قطب…هذا هو الإسلام الذي يشير إليه السيد جمال حمه ويبشّرنا به مفتخراً: أنه يتربّع على عرش الأديان الأكثر انتشاراً في معلومةٍ كاذبةٍ سوف تترنّح في أيّ إحصاء حقيقي…!  فما الذي منحه هذا الإسلام السياسي (وسيمنحه) للكرد وفق هذه الرؤية الرثيثة للسيد حمه؟

VI

لكنَّ خطورةَ هذا الخطاب النكوصي في حركته نحو ماضٍ ملتبسٍ في أصله وفصله يتسم بالامتداد والتعاطف ومحاولة التغطية عليه بالمراوغة والهروب كما هي عليه الحال لدى السيد “م. م “، الذي ينبري بمقدمةٍ سمجةٍ عن النقد ومشروعيتِهِ، ومتى يكون النقد نقداً عن طريق الأدلة وتهجُّماً من طريق التزوير والتلفيق إلى أنْ يُوصلنا إلى لعبة المراوغة والتخاتل التي يبتغي عن طريقهما الصّمت والسكوت عن الفعل التكفيري لصديقه جمال حمه بحق الشّاعر جكرخوين :

“لقد وصلتني بعض الرسائل والاتصالات متسائلين عن عدم ردي على الأستاذ جمال حمي بخصوص ما تطرق إليه حول شخصية الشاعر جكرخوين والفنان شفان برور، ولا أدري هل ما كتبه الأستاذ جمال حمي يعتبر نقدًا بالنسبة لكم أما لا؟  إذا كان الجواب: نعم هو نقد، فهذا حق مشروع له، والأستاذ جمال أيضًا يعرف من يكون الشاعر جكرخوين، لهذا ومن خلال وجهة نظره قام بإنتقاد جكرخوين الإنسان وليس جكرخوين الشاعر، وذلك عن طريق تقديم الأدلة التي تثبت وجهة نظره ولم يفتري عليه ولم يلفق له التهم جزافًا، إن كان بحق جكرخوين أو شفان، لهذا لا أجد أي مبرر لغضب البعض وانزعاجهم من هذا الموضوع، ولا أجد أي سبب يستوجب مني الرد (م. م)”. ومع سذاجة هذا المنشور/ الخطاب وتعثراته نحواً ولغةً وإملاءً في محاولةٍ للهروب من استحقاق الرّد؛ فصاحب المنشور إلى الآن لا يدرك إنْ كان ما اقترفه جمال حمه بحق (جكرخوين وشفان برور) هو نقدٌ أم لا؟ لكنه يحسمُ دون أدلة وبراهين (كالتي أشار إليها بنفسه في مقدمته) وبلا مناقشة تُذكر: أنَّ ما قدّمه جمال حمه من خطاب تكفيري بحق المشارين إليهما هو [نقد]!  وطالما أن هذا الخطاب التكفيري هو نقدٌ فهو بالمحصلة حقٌّ مشروع لجمال حمه في محاكمة ضمير الشَّاعر جكرخوين. وما يثير السُّخرية في منشور (م. م) قوله: (لهذا ومن خلال وجهة نظره قام بإنتقاد جكرخوين الإنسان وليس جكرخوين الشاعر)، لقد فاتَ صاحب (التغطية على عار صديقه) أن الأصل في النقد يتجه إلى ما يتركه الشّاعر أو الكاتب أو الفنان من أثر، نصوص، أعمالٍ تشكيليةٍ وموسيقيةٍ وليس البحث في الضمائر أو النفوس ما إذا كانت ملحدة أو مؤمنة؟ لكن الخطاب التكفيري لا يلتفت إلى (الأثر) وإنما يبحث في النفوس حيث غاياته وبغيته كونه يتكلّم باسم الحاكمية كوكيل عن (الإله) في محاسبة البشر، كما لو أنّ (الإله) قاصر عن أداء مهامه وهو كليُّ القدرة وفق (النص الديني المعتمد لدى السيد حمه ذاته)، فكيف لِمَنْ يتصف بالقدرة الكلية أن يسلّمَ محاسبة مخلوقاته لكائن خطّاء أو لجمال حمه لكي يتهم جكرخوين أو غيره بالإلحاد؟! ويضيف منال (ولم يفتر [جمال حمه] عليه ولم يلفق له التهم جزافًا). إنَّ مسألتي (الإيمان والإلحاد) في زمننا تخصُّ شرعة حقوق الإنسان (10ديسمبر 1948)، فمن حقّ الفرد البشري وفق هذه الشّرعة أن يختار الرؤيا الإيمانية أو الإلحادية التي يرتئيها وأيّ تدخّلٍ في فرض رؤية ما بالإكراه هي رفضٌ لشرعة حقوق الإنسان (وكلا الشخصين حمه و(م. م) يعيشان في دول ديمقراطية تستمدّ من الشرعة ذاتها دستورها الوضعي!!!)، ومن ثمّ فإنهّ لا يحقّ لأيّ كائنٍ كان ويكون أن يحاسب الفنانين والشُّعراء والكتّاب والناس أجمعين على إيمانهم من عدمه، فهذا حقٌّ مكفولٌ وفق شرعة حقوق الإنسان. فمن أعطى الحقّ لجمال حمه أو غيره أن يحكم على الشاعر جكرخوين بالإلحاد؟ أو كيف لكائن يعيش في ظلّ نظام ديمقراطي أن تُوَسْوسَ له نفسه المريضة أَنْ يحاكم الناس في ضمائرهم؟ ألم يسأل السّيد (م. م) هذا السّؤال لذاته قبل أن يغطيّ على تكفير هذا الكائن الدَّاعشي في الحكم على شَاعرِ حافظَ على اللغة الكردية وحرّرَ الشّعر الكردي من التقليد (تبعاً لقدراته وسياقه التاريخي) ودرّسَ الأدب الكردي في جامعة بغداد يوماً ما وأدّى دوراً تنويرياً كبيراً في النصف الأول وماتلاه من القرن العشرين.

إنَّ مشكلة جمال حمه هي مع العلمانية أولاً وأخيراً حيث مارسها جكرخوين في مغامرةٍ شعرية ــ فكرية لتحرير المجتمع الكردي من الأوهام، العلمانية التي تقضُّ مَضْجعَ المتأسلمين والإخونجية وشذاذ الآفاق، العلمانية التي ترسّخ من قيم الحرية والاعتقاد وحقوق المرأة وتؤسس للفضاء الديمقراطي وتضمن حقَّ الإيمان بوصفه حالة فردية تخصُّ الفرد ذاته، هذه العلمانية هي التي ترعبُ جمال حمه وأمثاله من الدواعش الكرد وجماعات الإسلام السياسي، لأتها تفصل الدولة عن الدين.

أليس من حقّ القارىء أن يتساءل: ماذا يفعل جمال حمه، الغيور على دينه وهو الذي لا يؤمن بشرعة حقوق الإنسان، أقول ماذا يفعل في دولة أوروبية، ديمقراطية، مثل ألمانيا، تضمنً حقوق الفرد في الاعتقاد إيماناً وفكراً وتحاسبُ على مَنْ ينتدب ذاته قاضياً يتكلم باسم الإله؟ فهل عرف الآن السيدّ (م . م) أنّ جمال حمه لم يدّخر جهداً للافتراء على شاعر الكرد ملفّقاً له التهم جزافاً انطلاقاً من رؤيته التكفيرية التي ترفض شرعة حقوق الإنسان جملةً وتفصيلاً؛ لذلك أتمنى له أن يجد ليس سبباً فحسب وإنما أسباباً للردّ على من يبتغي نشر الفكر الإخواني والتكفيري بين الكرد أو… إنَّ وراء الأكمة ما وراءها…!!!

V

بيد أنَّ ما فاجأني في غضون هذين اليومين فيما يخصُّ تُرَهات جمال حمه وهلاوسه هو منشور الكاتب ( ح. ج)، إذ تتبدّى قراءة التعليق عن ربط كوميدي بين خطاب جمال حمه وموقف الكاتب المعروف والمكرّر من “الإدارة الذاتية”، لكن لنتأمل المنشور بدايةً: “يبدو بأن أحدهم أساء القول بحق شاعر كُردي، فاستيقظت الغيرية والرجولة لدى جميع الأبطال الكُرد وانبروا له ذماً وشتماً وتخويناً وتحقيراً، وكذلك مدحاً وتبجيلاً لذلك الشاعر، ولو كان لدى ذلك المسيء عنصرين من جوانن شورشكر أو بيده مفاتيح زيارة المنطقة أو خيراتها مثل الإدارة الذاتية الآبوجية، للحسّ 99% من الأبطال الكُرد المتصدين له كلامهم، حتّى إذا أخرج شاعرهم من القبر ونكّل به وجنّد عظامه قسرياً، لا بل انكروا معرفتهم للشاعر، على مبدأ لا أرى لا أسمع لا أتكلم، أما البقية الباقية من الـ99%، فكان سيمدح فعل المسيء، ويجد له ألف تبرير وتبرير/ ح . ج” . في واقع الحال لا السّياق العام لهلاوس جمال حمه التكفيرية عن جكرخوين ولا الثيمة التي عالجتها هذه الهلاوس مرتبطة بموضوعة “الإدارة الذاتية”، لا من قريبٍ أو بعيدٍ؛ فما الذي دفعَ بكاتبٍ سياسيٍّ ذي خبرةٍ بمقصديات الخطاب أنْ يقفزَ على خَطابٍ لا يمتُّ بصلةٍ للنقد في أَصْنافِهِ برمّتِهِا، بل يصبُّ بمحتواه وأسلوبهِ وتلفيقاته في مَجْرى خطابٍ تكفيريٍّ جسيمٍ يتكلّم باسم “الإله” ويحاكم شاعراً وفاعلاً مؤثّراً في المجتمع الكردي؟ إن القفز على الخطاب التكفيري بعبارة خجولة “يبدو بأنَّ أحدهم أساء القول بحق شاعر كُردي” ثم الانعطاف مباشرةٍ نحو موضوع “الإدارة الذاتية” وجعله بؤرة المنشور يشكّلُ استراتيجيةً لتنْسيةِ القارىء “إساءة أحدهم أو القائم بالإساءة قولاً” والاستغراق في سوءات الإدارة الذاتية وعوراتها التي حفظها القارىء الكردي عن ظهر قلبٍ من كتابات جلبي الكثيفة في هذا المحور. بل إنَّ الكاتب يزيحُ أيَّ أثر دلاليٍّ لإشارته الأولى عن “إساءة أحدهم” بوضع “ردود المتابعين الكرد”، تقديراً للشاعر الكبير، موضعَ الإساءة مع إشارة قدحية في الشاعر ذاته” فاستيقظت الغيرية والرجولة لدى جميع الأبطال الكُرد وانبروا له ذماً وشتماً وتخويناً وتحقيراً، وكذلك مدحاً وتبجيلاً لذلك الشاعر”، لِيَلي ذلك تكرار الكاتب لخطابه المعتاد في انتقاد الإرادة كما أشرنا. وهو بهذا الفعل قد نَجَحَ في التملُّص من مواجهةِ خطابٍ تكفيريٍّ شموليٍّ يتكىءُ على مفاهيم “المقدّس” في محاسبةِ ضمائر الأفراد. لاشكّ أنَّ هذا الانسلالَ من مواجهةِ التكفير، والتواري خلف نقد الإدارة الذاتية، لم تتولّد عن براءةٍ أو عدم خبرةٍ بألعاب الخطاب وإنما بقصديةٍ فاضحةٍ للتغطية على أفعال جمال حمه بحقّ الشّاعر الكبير لأمور لا تحتاج إلى توضيح بشأنها من حيث إنها باتت مكشوفة. وهنا أسأل الكاتب: أيهما أشدُّ خطراً على الثقافة الكردية: ردود أفعال المتابعين الكرد أم منجم التكفير ممثلاً بمقالات جمال حمه؟

وعلى منوالٍ مماثلٍ ينسجُ لنا ( ع. د) مقدمة متاهية للالتفاف على جسامةِ ما نشره جمال حمه وينشره من مقالاتٍ يستسقي أفكارها من منابع دينية تكفيرية، يكتب تحت عنوان: (في ضيافة الجريمة والجريمة المضادة)  : [” أنا هنا لن أدخل في سجالات الدفاع عن الأخ ” جمال حمي “… فهو قادر بذات نفسه أن يدافع عن حاله وعن طروحاته وأفكاره ومعتقداته الدينية والفكرية والسياسية، لكنني أدافع وسأدافع عن حق الانسان في التعبير عن مكنوناته الفكرية والثقافية وبكل حرّية دون اهانة أو تجريج أو شخصنة“]. وهنا يحقُّ للقارىء أن يسال سؤالاً بسيطاً لماذا يحقُّ لجمال حمه أن يتهم الشّاعر جكرخوين بالكفر والإلحاد، أي لماذا من حقه أن يوزّع الناس إلى فسطاطي الإيمان والفكر وفق رؤية لا علاقة لها بالحقل النقدي، وليس من حقوق الآخرين أن يردوا عليه بالطريقة ذاتها؟ متى كان العبث بضمائر الكتّاب والفنانين والشعراء والناس يُعدُّ مجالاً نقدياً؟ إن الفكر النقدي قد تجاوز هذا التخلّف في القراءة، فما يقوم به جمال حمه هو ضربٌ من ممارسات محاكم التفتيش وهو ما يتطلّب من السيد (ع. د) وغيره، ليس بالالتفاف على هذه الأفكار الغريبة على الإسلام الكردي الشعبي المعروف باعتداله وبساطته وتَتّيهِ القارىء بجملٍ لغوية ونصائح، وإنما الرد على هذا الهذيان التكفيري وفق المنطق النقدي ودون هوادة. لا شك أن الفضاء الديمقراطي المفترض سيضمن “حق المرء في التعبير” ولكن على المرء أيضاً أن يحترم حدود هذا الفضاء ويؤمن به ولا يجعل نفسه حارساً للعقيدة يبحث في ضمائر الناس إن كانوا مؤمنين أو ملحدين!

(يتبع)

([1]) ـ يمارس المعتيُّ بهذه القراءة صنفاً من التدليس على القارىء، في مقالاته الأخيرة، حتّى يضمن عدم نفور القراء الكرد منه وذلك بإقحام أسماء شخصيات كردية تاريخية لها مكانتها في التاريخ الكردي المعاصر لتمرير إيديولوجيته الإخوانية.

([2])  ـــ الاقتباسات النصية كافةً منسوخة أو مصورة عن الأصول من صفحات الفيس الشخصية للمشارين إليهم في متن القراءة وصلتني عن طريق بعض الأصدقاء فلهم جزيل الشكر.

([3]) ــ يبدو أنَّ كاتب المقال لايزال رهين الذهنية المغلقة العجائبية التي لا تقبل بالقراءة التاريخية ولم يطّلع على القراءات البحثية المعاصرة التي تتناول السّردية الإسلامية فيما يتعلق بتاريخ “رموز المسلمين من الشخصيات الاعتبارية”، فالتاريخ السيري لهذه الشخصيات تنطوي على مفارقات غريبة، بل إن إشارات الشّاعر إلى الأحداث المتعلقة بهذه الشخصيات تدلُّ على ريادته في قراءته التاريخية لحدث الإسراء والمعراج أو غيره! ولكن مَنْ تعطّلت آلية التفكير لديه لا يجد أمامه إلا عبارات التكفير وقاتله الله!!!

([4]) ــ أحيل القارىء إلى كتاب مهم في هذا الشأن: ظاهرة الشّك في الفكر الإسلامي: لحظات من الحيرة: بول ل. هيك، ترجمة: محمود سلامة، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2021.

المصدر: مدارات كرد

شارك هذه المقالة على المنصات التالية