جليل إبراهيم المندلاوي
لم يكن يبحث عنها ولا عن الحب، فقد كان ككل الذين خاضوا الحرب ضد العواطف، وعاش السنوات الماضية من عمره الذي ناهز الخمسين في هدوء مطلق، بعيداً عن صخب المشاعر وعواصف القلب، كان اختار العزلة كملاذ آمن بعد تجارب مؤلمة تركت في روحه ندوباً لا تُمحى، ليلوذ بالحذر ولا يُسلّم قلبه بسهولة، ولا يقيم وزناً للهفوات العابرة.. فكان يقضي أمسياته في مكتبه الصغير، يكتب مقالاته ويراجع أوراقه، وقد اعتاد على الصمت حتى صار جزءاً من شخصيته.. لكنها أتت، لا من باب، بل من تردّد خافت في سماعة الهاتف النقال، من تنهيدة عبر الأثير، من ارتجافة صامتة بين سطر وسطر، ففي إحدى ليالي الربيع الهادئة، رن هاتفه النقال برقم غريب، تردد للحظة، ثم أجاب بصوت متعب: “نعم؟”
كان الصوت الذي وصل إليه عبر الخط أشبه بنغمة موسيقية، صوت امرأة يحمل في طياته نبرة حزن خفيف مخلوط بقوة داخلية، اعتذرت عن الإزعاج، قالت إنها حصلت على رقمه من صديق مشترك، وأنها تود مناقشة موضوع عمل معه، قالت بهدوء: “كنت أعمل في مجال الإعلام، وقد قرأت بعض مقالاتك.”
ساد صمتٌ قصير بين جملتها الأخيرة وصوته، صمت لم يكن من النوع المُحرج، بل أشبه بفاصل موسيقي بين مقطوعتين، كأنه كان يصغي لما بين الكلمات، لا لها.
– أهوَ إعجاب بكتاباتي؟ أم بحث عن شيءٍ آخر؟
سألها بنبرة لا تخلو من سخرية ناعمة، كأنه يضع مسافة خفيفة بينه وبين الاحتمالات.
ضحكت، ضحكة قصيرة، أقرب لارتعاشة هواء، ثم قالت: “لا تقلق، لا أبحث عن الحب، ولا أبيع الإعجاب، فقط شيء أردت أن أناقشه معك، كتاباتك لامست شيئا داخلي”.
توقف لحظة، تردد أن يطلب منها أن تشرح، لكنه تراجع، لم يكن ممن يلاحق الكلمات إلى جحورها، كان يفضل أن تأتي إليه طوعًت:” تفضلي، أنا أستمع”.
قالها وهو يُغلق ملفات على سطح مكتبه بعناية، كأنه يفسح لها مكانا في مساحة لا يقتحمها أحد عادة.
– “منذ أشهر، أفكر في مشروع وثائقي عن التحولات الاجتماعية في المنطقة بعد الحروب… أردت أن أبدأه من زاوية مختلفة، ليست سياسية بحتة، بل إنسانية، شعورية”.
كان يصغي إليها بكامل انتباهه، نبرة صوتها الهادئة، تلك التي تسير على حافة البوح، أثارت فيه شيئا نائما، سأل بنبرة غير متفاجئة، لكن فيها مسحة اهتمام صادق: “وثائقي؟”
– “نعم، لكن ليس وثائقيا تقليديا، أريد أن أُدخل فيه شيئا من الشعر، من النَفَس السردي، لا أعرف بعد، الأمر غامض في رأسي، وأنت بارع في صياغة الغموض كأنه حقيقة”.
ابتسم، لا ابتسامة فرح، بل تلك التي تأتي حين تكتشف أن أحدهم قرأك كما تقرأ أنت نفسك: ببطء، وبحذر، وبعاطفة مكبوحة وقال بهدوء: “وماذا تريدين مني؟”
ترددت، ثم أجابت بصوت أكثر خفوتا، لكن بنبرة أكثر قربا: “أريدك أن تكتب معي، أو تكتب لي، أو ربما، فقط تساعدني في أن أرى الصورة من عينيك”.
صمت. لم يجب. شيء ما في داخله بدأ يتحرك، شيء يشبه أول قطرة مطر على نافذة مُغلقة منذ سنين.. استمرت المكالمة لوقت قصير، تحدثا عن البداية، ثم انزلقا تدريجياً إلى مواضيع أخرى، كان هناك شيء مميز في طريقة حديثها، في صمتها بين الجمل، في طريقة ضحكها الخفيف حين يقول شيئاً طريفاً، وعندما انتهت المكالمة، بقي جالساً في مكتبه لساعات، يحدق في الهاتف، لم يكن يتوقع أن صوتاً واحداً قادر على أن يهز كيانه بهذه الطريقة، وأن مكالمة واحدة كانت كافية لخلخلة توازن كائن اعتاد الصمت، فارتجّت فيه الأزمنة، وانقلبت عليه الجدران التي شيّدها بعرق الوجع، فلم تكن مكالمة عادية، بل كانت طقساً صوفياً، تعميداً بالكلمات في معبد الوجد، حيث كان صوتها كنغمة عود قديم يعزف لحناً منسياً في روح رجل ظن أنه نسي معنى الحب منذ أمد بعيد، ففي البدء كان الصوت.. صوت يتسلل عبر الأثير كنهر من ضوء القمر، يشق عباءة الليل، بل وكأنه رياح تعصف بخرائب قلبه المهجور، لتنفخ في رماد الذكريات فتشعل ناراً لم يعرف أنها كانت تحت الرماد تنتظر، ليسقط في تلك اللحظة الأولى في بئر عميق اسمه الحب، وكان السقوط أشبه بالطيران، فحين سمع صوتها لأول مرة، انكسرت فيه كل الحصون التي بناها من قسوة التجارب القديمة، كانت الكلمة منها تعادل قصيدة، وكان الصمت بين الجمل أشبه بسطر خفيّ من صلاة لم تُكتب بعد، لم تكن سوى مكالمة، ومع ذلك أحسّ أن الحياة بدأت تُعاد تشكيلها في خلاياه، مكالمة تشبه النور حين يتسلل من شقّ في جدار كهف قديم، لا يضيء فقط، بل يكشف عن الظلال الكامنة، يعرّي النفس من سُباتها.
أصبحت المكالمات المسائية طقساً يومياً بينهما، تحدثا عن كل شيء: عن الطفولة والأحلام، عن الخيبات والآمال، واكتشف أنها أم اختارت العزلة العاطفية بعد تجربة زواج فاشلة، وأنها كانت تعمل بجد لتربية أطفالها وحدها، وقد بنت حول قلبها أسواراً عالية لحمايته من المزيد من الألم، شمم.. كانت اسماً بلا اسم، زهرة برية نبتت في حديقة مهجورة، جميلة ومتوحشة في آن واحد، امرأة نسجت من خيوط الغموض والنور، قد اختارت العزلة كراهبة في دير الأمومة، تحرس أطفالها كحارسة معبد تحمي الكنوز المقدسة، فلم تكن تغازل ولم تكن تتصنّع.. كامرأة تقف على حافة الغياب، بعد أن مرت بعواصف الحب فخرجت منها محطمة الأشرعة، فقررت أن ترسو في مرفأ الوحدة، وأن تنسحب من صخب العواطف لتطوي العالم حول أولادها كما تطوى الأم غطاءها على جسد نائم، وآمنت أن في الزهد عفة، وفي التربية حياة أكثر نُبلا من كل لذائذ العشق، هذا النُبل الذي ينهض من تحت رماد الخذلان.
ذات مساء، قالت له بصوتٍ يشبه نسمة على خدّ جرح: “لست أبحث عن الحب.. لقد تعبت من كل هذا.”
أجابها بصراحة رجلٍ سئم أيضا من الحرب، لكنه لم ينزع سلاح قلبه تماما: “ولا أنا…”
ثم صمت قليلاً، كمن يسمع قلبه لأول مرة منذ سنين، وأضاف: “لكن يبدو أن الحب يأتي أحيانا.. دون استئذان”.
سادت لحظة صمت بينهما بعد كلمته الأخيرة، لم تكن كسورا في الحديث، بل كأنها فسحة تأمل، مساحة صغيرة ليعيد كلٌّ منهما ترتيب ارتباكه.. قالت: “لم أعد أؤمن بذلك النوع من الحب الذي يُحدث ضجة”.
– “ولا أنا.. الحب الحقيقي لا يأتي كالعاصفة، بل كالمطر الخفيف، يتسلل بهدوء ثم يستوطن”.
ضحكت ضحكة قصيرة لكنها حقيقية، كأن شيئا من الحطب القديم اشتعل فيها دفئا لا نارا ورددت: “تقول كلاما يشبه القصائد، لكنك تخفي قلبك بين السطور”. قالت جملتها الأخيرة بنبرة لا تتهم، بل تلمس.
– “أنا فقط… حذر.. كما لو أن القلب قطعة خزف وقعت كثيرا، وصار عليه أن يتعلّم كيف يظل واقفا بلا أن يُلمَس”.
– “أفهمك…”
ثم أضافت همسا: “ربما لأنني مثلك، أمشي بحذر على أطراف الذاكرة”.
كان الليل يتسلل من نوافذ الصمت، والمكالمة بينهما صارت أشبه بجسر يمتد من روحٍ إلى أخرى، لا يحمل مواعيد، ولا وعودا، فقط هذا التواطؤ غير المعلن: أن شيئا ما يحدث، رغم النفي، ورغم الحذر.
-” أتعرف؟ أحيانا أفكر أن القلوب التي تنجو من الغرق، لا تنسى الطوفان، حتى وهي تبتسم للشاطئ”.
قالها وهو يغمض عينيه كأنما يرى وجهها دون أن يراه.
– “وأنا، أجابت، صرت أخاف من اليابسة أكثر من الغرق”، ثم تنهدت وتابعت: “على الأقل، الغرق واضح، أما اليابسة.. فهي التي تخدعنا بالأمان”.
تمنى في تلك اللحظة أن يراها، لا ليتأكد من ملامحها، بل ليرى إن كانت عيناها تشبه صوتها حين يتكلم عن الخوف.
– “أتسمحين لي بسؤال؟”
– “تفضّل”.
– “لماذا أنا؟ لماذا اخترتِ أن تشاركي هذا كله معي؟”.
سكتت. ثم قالت بصوت يجرح بلطف: لأنك الوحيد الذي لا يصرخ حين يتكلم.. الوحيد الذي يُشبه الصمت الذي أفهمه”.
لم يطلب منها أكثر من صوتها، وكانت تستجيب له كأنها كانت تنتظره منذ زمن بعيد، لا تدري متى بدأ، ولا إلى أين يسير.. وكان هو، الرجل الذي يكتب كلماته كما يتنفس، ويحفر حروفه في صخر الصدق، ، فقد كان عاشقاً للصدق إلى حد الجنون، إلى حد أن يحفر قبره بيديه، ويعبد الحقيقة كما يعبد المتصوفة النور، فلم يكن كاذبا، لم يُخفِ، لم يُجمّل، لم يتقمّص دورا، أتى إليها كما هو: رجلاً مثقلاً بالبدايات القصيرة والنهايات الحادة، حاملاً اعترافاته كأوسمة خيبات على صدره، ناسفا كل احتياط العشّاق، ظانّا أن في الصدق طمأنينة، وفي الاعتراف خلاص، فكان شفافاً حتى وجعه، في أمسيات مضيئة بالكلمات، شرع في طقوس الاعتراف المقدسةن فكان صادقاً معها في كل شيء، وحكى لها عن ماضيه، عن نساء اللواتي مررن في حياته كفصول في كتاب لم يكتمل، عن لحظات ضعف وخوف وعطش قديم للحب الذي ظنه حباً فاكتشف أنه كان مجرد بروفات لمسرحية لم تُعرض بعد.. لم يجمل الحقائق، لم يرتدِ أقنعةن واعترف لها بكل شيء، بالحب الذي ظن أنه حب وتبين أنه مجرد عادة، بالليالي التي قضاها يبحث عن نفسه في عيون أخريات، فكان اعترافه كمن ينثر الملح على جراحه، مؤلماً لكنه مطهر، وكانت تستمع إليه كمن تستمع إلى اعترافات روح في المطهر، تشعر بالألم والحنان معاً، وفي قلبها السري، كانت تعرف أنها وجدت في كلماته ما لم تجده في صمت السنين، وظنّ أن الصدق سينقذه من الكذب، فإذا به يصير لعنة تطارده في دهاليز القدر، فالصدق، حين يهبط في قلب مثقوب بالخذلان، يتحوّل إلى خنجر.
وخلال ثلاثين يوماً، تحولت حياتهما، كانا يتحدثان لساعات كل مساء، وكأن الزمن يتوقف عندما يسمع كل منهما صوت الآخر، لم يلتقيا وجهاً لوجه، لكن قلبيهما تلاقيا في عالم خاص بهما، عالم من الكلمات والمشاعر والأحلام المشتركة، ثلاثون يوماً كانت كعمر كامل، كحياة موازية انزلقت إليها روحه دون استئذان، ففي تلك الأيام، كان الزمن يسير بإيقاع مختلف، كأن الساعات تتمدد مثل عجينة ذهبية تحت أصابع خباز ماهر، وكان كل حرف تكتبه، كل كلمة تنطقها، يتحول إلى جسر يعبر عليه قلبه نحو عالمها المحاط بأسوار الحذر، إلا إن صدقه كان كسيف ذي حدين، يقطع الأكاذيب لكنه يجرح القلوب أيضاً، فسرعان ما تسلّلت إليها الظنون، لا من قلبها فقط، بل من ظلٍ ممثل لم يُدعَ إلى العرض، صديق، أو ادعى أنه كذلك، يلبس قناع الود ويخفي وراءه قلباً أسود كليل بلا نجوم، كان يراقب كيف تنمو المشاعر بين الاثنين، وكيف أنها بدأت تميل بقلبها نحو الرجل، حيث تحول الحديث بينهما إلى شعر، والصمت إلى موسيقى.. يراقب نمو هذا الحب كمن يراقب وردة تتفتح، لكن بدلاً من أن يسقيها، قرر أن يسقيها بالسم، ويغرس الشكوك كما تُزرع الألغام في حدائق الكلام، فقد كان يتسلل بينهما مثل دخان لا يُرى، يُخبرها بما يريد لها أن تصدق، يحرّض وساوسها كما تُحرّك الريح خيوط الغبار في غرف الروح المهجورة، همس في أذنها كالشيطان يوسوس وبدأ يروي لها قصصاً مختلقة عن حبيبها، عن امرأة أخرى في حياته، عن علاقات سرية، عن كذبات وخيانات لم تحدث أبداً، وإن قصتها معه ليست إلا محطة قبل أن يعود إلى حب قديم لم ينطفئ، وإنها، مهما نَبَض قلبها، لن تكون إلا عتبة بينه وبين امرأة أخرى يخبّئها في الظل:
– “أعرفه جيداً”، قال لها بنبرة مشفق، “إنه رجل جيد، لكنه لا يستطيع أن يكون صادقاً تماماً مع النساء، هناك امرأة أخرى في حياته، يخفيها عنك.”
لم تُجبه مباشرة، كان صوته يتردد في رأسها كصدى قادم من مغارة الشك، فقد كانت الأكاذيب تتساقط من فمه كقطرات السم، وتتسرب إلى روح المرأة التي كانت تحب بصدق لكنها تخاف بصدق أيضاً، حيث تحولت كلماته الى سهام مسمومة اخترقت قلب تلك التي تشبه الشمم، لتزرع فيه بذور الشك التي تنمو في الظلام مثل الفطر السام، وتتراكم في قلبها مثل الغيوم الداكنة قبل العاصفة.
نظرت إلى الهاتف بعد أن أغلقت المكالمة، كأنها تتفحصه بحثا عن الحقيقة، لكن الحقيقة لا تسكن الشاشات، بل ترتجف في أعماقنا حين يهتز اليقين.
في تلك الليلة، لم تتصل بحبيبها كعادتها، فظل ينتظر، دقائق، ثم ساعات، وكل دقيقة كانت تمرّ عليه كسؤالٍ بلا جواب، كتب لها رسالة قصيرة: “هل أنتِ بخير؟”
لكنها لم ترد.. ليغمض عينيه ويستند على الكرسي، حيث شعر بشيء يتغير، ليست المسافة ما يؤلم، بل تلك المسافة الجديدة بين قلبين كانا يقتربان، فصار أحدهما يتراجع فجأة بلا سبب مفهوم.
أما هي، فكانت جالسة أمام نافذتها، تحدّق في الظلام، وتعيد كلمات الصديق مرارا، شيء فيها رفض التصديق، لكن شيئا آخر، أضعف، بدأ يتشكك، كأن قلبها عاد طفلا يخاف أن يُلدغ، سألت نفسها: “لماذا قال هذا؟ ولماذا الآن؟”
لكن السؤال الأعمق ظل يرتجف خلف الجفن: “وماذا لو كان محقا؟”
في اليوم التالي، كسر هو الصمت مجددا، بصوتٍ هادئ لا يحمل عتبا بل يحمل خوفا أن يكون قد خسر شيئا لم يمتلكه بعد، فقال: “لم أسمع صوتك أمس… حدث شيء؟”
جاءها صوته كما يأتي الضوء بعد ليلة ثقيلة، لكن الوساوس كانت قد حفرت مكانا في صدرها، فردت: ” لا شيء، فقط كنتُ متعبة قليلاً”.
عرف من نبرة صوتها أنها ليست متعبة فقط، بل مترددة، مرتبكة، وكأن جدارا خفيا قد ارتفع بينهما: “إذا كنتِ قد سمعتِ شيئا عني، فأفضّل أن تسأليني بدل أن تصدقيه”.
صمَتت، كأنها لم تتوقع صراحته، أو كأنه سبقها إلى نفيٍ لم تعترف به بعد، فقالت: “لم أسمع شيئا”.
– “حبيبتي…” قال اسمها كمن يستدعيها من مكان بعيد، ثم أضاف: “أنا لا أجيد الكذب، وهذه ليست فضيلة، بل ضعف، لكنني أضعف من أن أبدأ علاقة بكذبة، ما بيننا حقيقي، حتى وإن لم نعترف به بعد”.
أغمضت عينيها، شعرت بدمعة تسقط بلا صوت، لم تكن دمعة حزن، بل ذلك النوع من الدموع التي تنهمر حين يُفسد الخوف لحظة جميلة، ثم رددت أخيرا: “لا أعرف لماذا أشعر بالخوف”.
– “لأنكِ حقيقية”، صمت لبرهة ثم تابع: “والخوف ملاك الحقيقة، لا شيطانها”.
سكتت قليلاً، كأنها تخشى أن تنكسر إن فتحت فمها، ثم قالت بصوتٍ خافت يشبه الندم: “أحياناً.. أخاف من أن أصدق، أكثر من خوفي من أن أُكذَّب”.
ردّ بعد برهة، بصوتٍ يحمل الحنان أكثر مما يحمل الدفاع: “وهذا أخطر ما قد يفعله بنا الخوف.. يجعلنا نهرب من ما نريده حقاً، لأننا لا نحتمل خسارته”.
رفعت رأسها، كأنها تنظر من خلال الهاتف إلى عينيه: “أنا لا أريد أن أكون مجرد قصة عابرة في حياتك، ولا جسرا نحو امرأة أخرى”.
تنهّد، لم يكن يتنهد ضعفا، بل كمن ينفخ الغبار عن جرحٍ قديم: “وأنا لا أريدكِ أن تكوني جداراً أتكئ عليه لأنني تعبت، أنتِ فصلٌ جديد، لا هامش في نهاية كتاب”.
صمتت مجددا… ثم قالت، كأنها تعترف لمرآتها: “لكني حين أحب، أضع قلبي كلّه.. ولا أعرف كيف أحبّ بنصف يقين”.
ردّ بلطفٍ لا يخلو من رجاء: “وإن خذلك قلبك مرة، فلا تجعليه يتوقف عن الخفقان، دعيه يتعثر، لكن لا تسجنيه خلف القضبان”.
ترددت قليلاً، ثم سألت، بسؤالٍ لا يُراد له جواب: “ولو كنتُ أنا مكان تلك المرأة التي سمعت عنها… هل كنتَ ستُصدّق؟”
ابتسم بصمت، لم تكن ابتسامة تهكّم، بل تلك التي يبتسمها من يعرف مرارة التشكيك، ثم قال: “أنا لا أصدّق الكلام، بل أصدّق ما يقوله القلب حين يخاف أن يفقدك”.
تبعثرت الكلمات في حلقها كأوراق لم تُرتب بعد، ثم همست: “أنا فقط.. خفت أن أكون وحيدة في هذا الحب”.
فأجابها بهدوء يشبه حضنا دافئا في ليلٍ موحش: “الوحدة هي أن نحيا في قلبٍ لا نُرى فيه، وأنتِ مرآتي، لا ظلّي”.
لحظة طويلة مرت دون صوت، كانت تمسك الهاتف بقوة، كأنها تخشى أن تسقط منه المسافة التي عادت تنكمش بينهما، ثم كتبت له، دون أن تتكلم: “أنا هنا.. فقط، لا تتركني وسط هذا الصمت وحدي”.
حاول الرجل بكل الطرق أن يُقنعها، بلا دموع، بلا مناشدات، بأن ما تسمعه غير صحيح، وأقسم ببراءته، لا على مذبح العشق، بل على صليب كلماته، بأنه لم تكن هناك امرأة مفقودة في الحكاية، لم يُخفِ شيئاً، لم يخن قلبها ولا لحظة، لكنها، وقد سكنها الشك مثل نبتة سامة، لم تصدّقه وأرادت منه أن يعترف بكذبة لم يقترفها، أن يسلّم لها بأن خيانته حدثت، كي ترتاح، وكان هو قد قرر، في لحظة عناد نبيل، أن لا يفرّط بصدقه من أجل إرضائها، فهو لا يتقن دور المتهم، ولا يعرف كيف يراوغ في الظلال، رجل يُشبه الصمت حين يكون أبلغ من كل الكلمات، ويُشبه الكبرياء حين لا يعلو صوته، يرفض صناعة وهم كي يُرضيها، حتى لو كان ثمنه أن يفقدها..
– “كيف أعترف بشيء لم أفعله؟” كان يسألها بألم، “كيف تريدين مني أن أدمر صدقي من أجل وهم؟”
صمتت طويلاً، كانت تحدّق في الهاتف كما لو أنه مرآة، تبحث فيها عن ملامح قلبه، لكنها لم تجد سوى صدى صوتها المرتبك، وحده الصوت ظل يتردد داخلها، ممتزجا بما قاله ذلك الذي ادعى أنه صديق، وبما لم يقله هو.. قالت أخيرا، بصوت متعب، يشبه من يُشعل شمعة في غرفة خانقة: “لكنك لا تفهم.. الألم ليس فقط في الشك، بل في أني لا أستطيع أن أُثبت العكس أيضاً.. وكأن الحب صار محكمة، ونحن شهود بلا دليل”.
ردّ، وقد تجمعت في صوته حرارة غريبة، مزيج من الحزن والكرامة: “لأنكِ صدقتِ صوتاً غير صوتي، وأدنتِ قلبي قبل أن تسمعي دقاته كاملة”.
ثم أضاف، بشيء من الرقة الجارحة: “كنتُ مستعداً أن أكون مرآتكِ، أن أحتمل صمتكِ، ومخاوفكِ، وحتى شكوككِ، لكني لستُ مستعداً أن أكون كاذباً لأُشعركِ بالأمان”.
هزّت رأسها ببطء، كما لو أنها ترفض شيئاً لم تَعِ تماما أنها قبلته دون وعي، ثم همست: “هل يعني هذا أنك سترحل؟”
أجاب، دون تردد، لكن بصوت خافت، كأنه يضع قلبه على الطاولة ثم يبتعد: “لن أرحل.. لكني لن أزيف الحب كي أبقى”.
أرادت أن تصرخ، أن تقول له إن كل ما فيها يصدقه، لكنها كانت قد شربت كثيراً من كأس الشك، ولم تعد تملك الشجاعة لتتقيأه، فبقيت صامتة، وكأن اعترافها الوحيد هو هذا الصمت ذاته.
ثم كتب لها رسالة أخيرة، لم يُرسلها، فقط كتبها وتركها تنام في هاتفه، مثل صلاة لا يُقال لها “آمين”: “أنا لم أخنكِ، لكنكِ خذلتِ صدقي”.
وفي المساء، جلس وحده، كعادته، وأشعل سيجارة لم يكن يريدها، فقط ليملأ الفراغ، ينفث دخانها كما لو أنه ينفث كل ما لم يُقل، ثم نظر إلى الأعلى، وقال في سرّه: “يا الله.. ما أصعب أن تُحبّ امرأة تشكّ في كل شيء… حتى حين تُقسم لها بقلبك”.
وفي وسط هذه العاصفة الجهنمية، تدخّل صوت آخر، صديق نقي القلب، حمل في صدره نية طيّبة، حاول أن يزيل الغشاوة عن عينيها، وأن يُصلح ويوقظ الحكمة لعله يردم الهوّة قبل أن تتسع، ويُقيم جسراً فوق هوة الشك، ليكافح كفارس يحارب تنيناً خرافياً، ويدافع عن الحقيقة بسيف الكلمة وترس الإخلاص، لكن الوسواس كان قد تجذر في قلبها كشجرة شيطانية جذورها تمتد إلى أعماق الخوف البدائي، فقد كانت قد ركبت غرورها وآمنت بوهمها، وأدمنت وساوسها، صارت تتنفس من رئة الشك، وتسمع بقلبٍ تُلي عليه الوشايات مرارا حتى تشكّل على هيئة يقين، فقد كانت تظن أنها تعرف كل شيء، وأن قلبها جهاز استشعار لا يخطئ، ونسيت أن القلوب حين تمتلئ بالخوف، ترى الحقائق على هيئة أشباح، وهي تطالبه بالاعتراف بعلاقة لم تكن موجودة أصلاً، بخطيئة لم يرتكبها، بحب لم يعشه، بامرأة لم توجد إلا في خيال الشيطان الهامس، وكان هو يقسم بكل المقدسات أنه لم يكذب عليها، أن صدقه معها كان ديناً يؤمن به، لكن كيف تثبت عدم وجود شيء؟ كيف تحارب وهماً تحول إلى حقيقة في عقل من تحب؟ كيف تثبت عدم وجود ظل في العتمة؟ وكيف تقنع امرأة أن الصوت الذي تسمعه في رأسها ليس إلا صدى خوفها من الحب؟
مضى كل شيء، كما لو أن الحب كان حلماً بخيلاً، لا يمنح أكثر من ثلاثين يوماً.. ثلاثون يوماً بالضبط انقضت كفراشة تحترق في ضوء الشمعة التي تعشقها.. كحلم جميل يتحول إلى كابوس، أو شريط ناعم يُلفّ حول جرح قديم ثم يُنتزع فجأة.. ثلاثون يوما كانت كافية ليُعاد تشكيل الذاكرة، ويُعاد نحت الروح من جديد.. ثلاثون يوما ظنّ فيها أنه لم يحب من قبل، وأن كل النساء كنّ محطات، وأنها، هي، تلك المرأة التي يطل من وجهها الليل ويغيب في عينيها الوطن.. كانت البداية والنهاية في آن واحد.. فقد كانت هي، في لحظات الصدق النادرة، تعترف أنها لم تحب رجلاً مثله، وأن قلبها لم يرقص من قبل على إيقاع صوت كصوته، لكن الغيرة تحولت إلى تنين ينفث النار في حديقة قلبها، يحرق الورود ويترك الأشواك، حتى صارت جلاده، وهو الذي لم يعشق امرأة بهذا النقاء من قبل، صار ضحيّتها، فالغيرة حين تتحول إلى شك، تتحول إلى وحش يأكل قلبها من الداخل وتذبح الحب كما يُذبح الحمل في أول العيد، بلا رحمة، بلا ندم، حيث أعدمت الرجل لا بخيانة، بل بحُكم لا يقبل استئنافا، صاغه خيالٌ مسموم، لم يكن هناك وداع، فقط نهاية بلا صوت، كالموت الذي يحدث أثناء النوم، حيث لم يقل وداعا، ولم تسمع رجاءً، رحل كلٌّ منهما إلى صمته، كأن الثلاثين يوماً كانت جنونا جميلاً أفاقا منه دفعة واحدة، ففي النهاية انتصر الباطل على الحق، والكذب على الصدق، والوسواس على الحب، والخوف على الثقة، وانتصرت الأوهام على الحقائق كما ينتصر الليل على النهار في الشتاء الأبدي للروح، لتنتهي أجمل قصة حب بلا وداع، كما تنتهي الأحلام الجميلة دون إنذار، وتنتهي أجمل سيمفونية كما تنتهي الموسيقى عندما ينكسر الوتر الأخير، حيث انسحب الصديق الطيب كجندي مهزوم من معركة خاسرة، وغادر في صمت العارفين، كمن ينفض يديه بعد صلاة في معبد خاوٍ، بينما الشيطان الهامس استمر في العزف على أوتار الشك، وبقي هناك، يُحدّثها باسم الحرص ويطعنها بالخوف، ويحوم كطيفٍ يتغذى على غطرسة امرأة ظنّت أنها تعرف كل شيء، وأن الحُب لا يعميها بل يمنحها بصيرةً لا تخطئ، لكنها في الحقيقة، اتبعت غرورها كمن يتبع قطارا بلا وجهة، رافضةً أن تصغي لصوت القلب، أو أن تمنح الحكمة فرصة واحدة.
أما هو، فقد انسحب من العالم إلى عزلته ودخل في طقوس الحداد الأبدي وأقفل نوافذ قلبه، وقرر ألا يكتب إلا لها ولذكراها، ليكتب قصصاً وقصائد عن المرأة التي أحبها لثلاثين يوماً، والتي علمته أن الحب الحقيقي لا يحتاج إلى زمن طويل ليترك أثراً عميقاً، فكان كل حرف ينزف، كل كلمة تحمل ألماً جميلاً، كل نص يروي قصة حب انتهت قبل أن تبدأ حقاً.. ومع هذا، فإنها رغم الغياب، ستبقى الحبر والورق، والجرح الذي لا يلتئم، فلم يعد يريد الحب، كما لم يعد يريدها، فكان قراره في أن يخلّدها، لا أن يستعيدها، وراح يعيش بين السطور، يقضي أيامه مع كلماته في محراب الألم، يصلي بحروفه لإله الحب الذي خذله، ويُشعل نيرانه في النصوص، ينام داخل الفواصل ويستفيق في آخر السطور، ويغرق في بُحيرةٍ من وجع لم يعرفه في حياته، فقد كان كل حرف نزفا، وكل فاصلة قبرا، وكل نقطة آخر الطريق، وكل يوم، كان يتمنى الموت، لا عن يأس، بل عن ذبول، لأنه نسي بسببها معنى الحياة، و لعله اكتشف معنى الحياة بسببها فصار الموت بدونها لا معنى له، كان ألمه مقدساً كألم العشاق الصوفيين، وجعاً جميلاً يطهر الروح بالنار، كما تمنى أن ينسى الحياة كما يُنسى الحلم الذي لا يُروى، لكنه لا ينسى صوتها، ذاك الصوت، الذي سكن فيه كآية غير مكتوبة، فقد كانت هي.. المرأة التي لم تحمل اسما، لكنها حملت في طيفها شمما هزّه من الداخل حتى انفصمت فيه العروق، بينما كانت هي تعيش مع قرارها، تحاول أن تقنع نفسها أنها اتخذت القرار الصائب، واختارت الطريق الصحيح، بينما قلبها ينزف في صمت على حب ضاع بين كبرياء امرأة ووساوس شيطان، ففي لحظات صمتها النادرة، كانت تسمع صدى صوته في قلبها، وتتساءل أحياناً إن كانت قد ضيعت شيئاً جميلاً بسبب خوفها من أن تؤذى مرة أخرى.. فيما بقي هو يحوم حولها كطيف، يتغذى على انتصاره الصغير، دون أن يدرك أنه دمر شيئاً جميلاً كان بإمكانه أن ينمو ويزدهر.
وهكذا انتهت حكاية الثلاثين يوماً بلا نهاية حقيقية، أو لعلها لم تنته أبداً، فقد انتهت بلا مشهد أخير، بلا تصفيق، بلا ستارة تُسدل على العشّاق، انتهت كما بدأت: بلا أسماء، بلا وداع، بلا ندمٍ يُجدي، لكنها لم تُمحَ من الذاكرة، بل تحوّلت إلى ظلٍ دائم، يمر كل ثلاثين يوماً، يوقظ الوجع، ثم يرحل دون استئذان، وبقيت تتردّد كصدى في قلب رجل لم يعد يؤمن بالحب، لكنه لم يستطع التخلّص منه، لأن الحب الحقيقي لا ينتهي، بل يتحول إلى ألم جميل يسكن في زوايا القلب، ينبض مع كل دقة، ويذكر الروح بأنها عرفت يوماً معنى أن تحب بصدق، حتى لو كان هذا الصدق هو السبب في ضياع كل شيء.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=70626