قراءة في كتاب “صفحات من التاريخ الأخلاقي بمصر” للدكتور محمد فتحي عبد العال

كوردأونلاين |

د. مريم كمال (دكتورة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة)_
طالعت باهتمام بالغ الكتاب، وقد جذبني للوهلة الأولى عنوانه الطريف، وعلى الرغم من عنوانه، الذي قد يوحي بالإجمال والاختصار، إلا أن مضمونه يحمل بين ثناياه حصاد سنوات عدة، وبين طياته محطات فارقة من عصور مضت من تاريخنا المصري التليد.
 استطاع الكاتب كما عودنا أن يطوف بنا في رحلة ممتعة، عبر سبر أغوار الماضي والغوص في أزمنته، وتحليل أحداثه غير المعروفة للعامة، في كثير من الأحيان، كاشفا عما تحمله بطون الكتب النادرة، وعناوين الصحف القديمة من خبايا وأسرار وتفسيرات قد آن الوقت لنطلع عليها معا، عبر هذا الكتاب المليء بالأحداث الواقعية والمثيرة، سطرها الكاتب وسلط عليها دائرة الضوء وبؤرة الاهتمام، خاصة فيما يتعلق بتاريخ الأخلاق في مصر، وما مر به من قضايا وأزمات في محاولة لفهم ماذا حدث للمصريين، وهل داهمهم التغيير حقا؟!..وقد مثل هذا الكتاب لي إضافة حقيقية في هذا المضمار وفي وضع تصور حقيقي لإجابة هذا السؤال…
أماط الكتاب اللثام عن جوانب شتى، وأقسام مختلفة من جوانب تاريخ الاخلاق في المجتمع المصري، بين الماضي والحاضر، كالمعاملات اليومية مثلا، في وسائل المواصلات فضلا عن دور التعليم المتراجع، ومهمة المعلم المفترضة في تهذيب أخلاقيات المجتمع وتأثيره إيجابا وسلبا في إيقاع منظومة الأخلاق داخل العملية التعليمية، عبر استجلاء صور مضطربة من الماضي وربطها بالواقع، وفي سبيل تحقيق غاية النهوض يتحدث الكاتب عن ضرورة إعداد المعلم وتدريبه وتأهيله للاضطلاع بمهمته التربوية العظيمة لخلق جيل ناجح أخلاقيا، وعلميا، وعمليا، وفعالا في قضايا أمته، وبناء وطنه.
كما أظهر الكاتب تباين المنظور الأخلاقي بين الماضي والحاضر، عبر استعراض أحداث واقعية، واستدعاء مشاهد من الماضي تبرز مدى الإخفاق المتراكم في دعم تطور الاخلاق ومستوى الانحدار الذي طالها.
ويتعرض الكاتب للدور الكبير، الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي، في كشف عورات المجتمع المعاصر وانفراط عرى نسيجه الأخلاقي، وليس هذا فحسب بل وأظهر في جلاء أن المثالية الأخلاقية في الماضي ليست سوى محض أوهام، وذلك عبر رصد محطات من الفساد الأخلاقي في الماضي بين شرائح مجتمعية شتي، كالأدباء مثلا، وتطرق إلى الخلاف بين الرافعي والعقاد كمثال على ذلك، وكيف تطور شكل الخلاف إلى سباب على صفحات الجرائد، وما كان يفترض أن يكون عليه الحال من أساليب للسيطرة وضبط النفس في مثل هذه القضايا، وذلك تحت عنوان (إنما الأمم الأخلاق).
وانتقل بنا الكاتب بطريقته السردية الرائعة كعادته من قسم لآخر في الكتاب بأسلوب شيق، وتناول طريف، يحرك فضول القارئ، ويثير شغفه لمطالعة المزيد من فصول الكتاب دون ملل، وفي وقت قياسي، فهو كتاب تاريخي في ثوب أدبي أنيق أقرب لفن الرواية التاريخية.
يلتقط الكاتب الخيوط الرفيعة، التي تربط قضايا الحاضر بجذورها من الماضي مؤكدا أن ما نعنيه في كثير من قضايا اليوم كانت وليد إهمال الماضي، الذي غض عنه الطرف فتعاظم أمره واستفحل دوره وتضخم تأثيره، حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم فعرض لنا الأحداث الواقعية في الماضي، وما يشابهها في الحاضر عبر صور، ونماذج تناسب كل فترة زمنية من التاريخ المصري كبداية ظهور البلطجة قديما، وانعكاساتها في الحاضر كما يلفت النظر إلى تناقضات كبيرة في حياة بعض الشخصيات الفنية، والتي كانت مختلفة في واقعها كل الاختلاف عن المثالية، التي كنا نراها علي الشاشة ويظهرونها طوال الوقت في أعمالهم؛ ما خلق فجوة في انعدام القدوة الحسنة، والسوية لدى الشباب.
كما أن الكاتب لم ينس دور الدين في تاريخ الأخلاق، فتحدث عن تاريخ البغاء في مصر، وظهوره في وقت الاحتلال البريطاني على مصر، وتضافر الجهود المخلصة، التي مارسها رجال الدين أقباطا ومسلمين في سبيل استئصال شوكته، كما وضع فصلا من كتابه تحت عنوان (نقطه حوار) حث من خلاله على إطلاق حرية العبادة، واختيار العقيدة باقتناع تام، ومستعرضا مدي التأثير السلبي لبعض رجال الدين والآباء، في إدارة الحوار الديني من منطلق الوصاية أو تبادل المناقشات العنيفة، وغياب التواصل الفعال داخل المجتمع، خاصة مع أوساط الشباب في وقت من المفترض فيه حمايتهم من السقوط بين براثن الإلحاد وترك الدين بالكلية، بسبب النقص المعرفي والتأهيلي لإدارة مثل هذه الحوارات والنقاشات لدى رجال الدين وأولياء أمور الشباب.
وتصل متعة القراءة في فصول الكتاب ذروتها مع ما ساقه الكاتب من أحداث طريفة وممتعة خاصة المتعلقة بالخرافات الموروثة، والمنتشرة منذ الأزمنة السابقة، ولازالت تغزو ثقافتنا في عصرنا الحالي، وتطل على تقاليدنا بين الحين والآخر، وكذلك ثقافة التريندات، والتي لابد وأن نمارس سياجا منيعا من العقلانية في تمييز ما هو هام ومؤثر منها، وما هو عبثي ويحط من أخلاق المجتمع وتماسكه، وأن الماضي ربما كان أكثر نضوجا في التعامل مع هذه الظاهرة.
وبحكم تخصص الكاتب كما يتضح من سيرته الذاتية المدرجة بالكتاب فهو ينبه لضرورة الارتفاع بالقطاع الصحي، وصقل مهارات أعضائه، وتنمية معارفهم وتحديد الواجبات المنوطة بكل تخصص بشكل يذيب مناطق الخلاف بينهم بشكل حاسم، وأن الحاضر لابد وأن ينتبه لما غاب عن أذهان الماضي من أن الصحة ضرورة من ضروريات التقدم والبناء.
والكتاب ليس رحلة في دروب الماضي بقدر ما هو إطلالة فريدة تحتوي الماضي المقصر والواقع الحائر، والمستقبل الغائم، وأن بقراءة الماضي بشيء من الشفافية، وبتبني دروسه في إصلاح الحاضر، نستطيع أن نشيد مستقبلا يعيد لبلادنا نهضتها ولمجتمعنا الحياة السوية.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية