الأربعاء 11 حزيران 2025

لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة السادسة

د. محمود عباس

حين تتمدد القوة بلا حدود جغرافية، وتُمارس السيادة بلا علم ولا نشيد وطني، فإننا لا نكون أمام دولة، بل أمام كيان ميتافيزيقي جديد، إمبراطورية بلا جغرافيا، بلا قومية، بلا مركز، وقد تكون أمريكا، اليوم، آخر اسم يُطلق على شيء لم يعد يشبه أمريكا.

في الحلقات السابقة، تتبعنا كيف كان اغتيال ترامب المحتمل سيكشف عن التحول العميق في طبيعة السلطة، من دولة إلى شبكة، من مؤسسات إلى خوارزميات، من التمثيل الديمقراطي إلى التوجيه الذكي، ولكن، هل يمكن لهذا النظام الجديد أن ينقلب على نفسه؟ وهل تستطيع هذه الإمبراطوريات الرقمية، التي باتت تمسك بعصب العالم، أن تسقط أو تنفجر من داخلها؟

تاريخ الإمبراطوريات يخبرنا أن التوسع بلا هوية ينتهي إلى التآكل، ولعل أخطر ما يواجهه هذا النموذج الجديد للسيطرة هو غياب الرابط الوجداني، لا بين الحاكم والمحكوم، بل بين المشروع ومن يُفترض أنه يخدمهم، فإمبراطورية الذكاء الصناعي والهيمنة الرقمية، التي تتحدث بلغة الكفاءة لا الأخلاق، والتي لا تُعلن عن نفسها، بل تمارس سلطتها بصمت، قد تجد نفسها ذات يوم بلا مَن يُدافع عنها، لأن أحدًا لم يشعر يومًا أنه ينتمي إليها.

والسؤال الأهم: هل يظهر في الأفق قطب منافس قادر على التصدي لهذا الشكل الجديد من الهيمنة؟ الصين تبدو مرشحة بوضوح، لكنها لم تعد تقدم نموذجًا بديلًا، بل نسخة أخرى من الرقابة الرقمية المركزية، ولكن بلون قومي واضح. روسيا، رغم خطابها السيادي، تبدو أكثر انشغالًا بإعادة ترتيب إمبراطوريتها ما قبل الرقمية، أكثر من بنائها لنموذج عالمي جديد. أما الاتحاد الأوروبي، فقد أضاع زمام المبادرة، مكتفيًا بدور المنسق الأخلاقي لمجتمع لم يعد يصغي له.

في هذا السياق، تبدو أمريكا وكأنها تخلّت عن دورها التاريخي بوصفها دولة، لتُعيد تشكيل ذاتها كواجهة لإمبراطورية غير وطنية، لا تحكم باسم الشعب الأمريكي، بل باسم منظومة مصالح تتجاوز الجغرافيا، وتكتب قوانينها في وادي السيليكون، وتنفذ قراراتها عبر خوادم موزعة بين عواصم لا تحمل سوى صفة المضيف،

لكن، كما في كل كيان مفرط في الاتساع، هناك دوماً لحظة ارتداد، وقد بدأت مؤشرات هذا الارتداد بالظهور، من رفض المجتمعات الغربية للرقابة الرقمية، إلى دعوات تفكيك الشركات العملاقة، وصولًا إلى تنامي الوعي بخطورة تحويل البشر إلى بيانات، والمجتمعات إلى أسواق خوارزمية.

ولعل أخطر التحديات ليست من خارج هذه الإمبراطوريات، بل من داخلها، تضارب المصالح بين الشركات نفسها، صراعات على مَن يحتكر البيانات، مَن يضع الخوارزمية، ومن يملك حق تعديلها، ففي هذا العالم الذي لا تحكمه سلطة واحدة، بل كتل من النفوذ الخفي، قد يتحول كل مركز سيطرة إلى عدو لمركز آخر، ويبدأ التآكل من داخل النظام لا من خارجه.

أحد كبار منظري الجغرافيا السياسية، زبيغنيو بريجينسكي، حذّر قبل عقدين من أن العالم سيتحول إلى فضاء لا يحكمه توازن القوى، بل توازن “الانكشاف”، حيث الكل يراقب الكل، والجميع مهدد من الجميع، هذا التحول قد يجعل المواجهة القادمة لا بين أمريكا والصين، بل بين شبكات السيطرة ذاتها، إمبراطوريات خفاء تتصارع على من يمتلك العقل البشري، لا الأرض.

ومن هنا، لا يعود السؤال، هل تنهار أمريكا؟ بل، هل تنهار أمريكا بصفتها دولة، وتستمر بصفتها إمبراطورية بلا قومية؟ هل يتحول اسمها إلى ترميز لقوة لا تمثل حتى مواطنيها؟

في هذا السيناريو، تتراجع فكرة الأمة، ويُستبدل بها مشروع لا يُنسب لأحد، لكنه يهيمن على الجميع، وما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا أن هذه الإمبراطورية، بلا هوية واضحة، لا يمكن مهاجمتها، لأنها لا تُعلِن نفسها كخصم، بل تظهر كخدمة، كمنصة، كواجهة سهلة، بينما مركزها الحقيقي يبتعد أكثر فأكثر عن كل ما هو إنساني.

ومع كل هذا المشهد المُركّب، يبقى الباب مواربًا أمام احتمالات المقاومة؛ مقاومة فكرية، أخلاقية، قانونية، تتشبّث برفض تحويل الإنسان إلى مجرّد أداة في نظام تشغيل ضخم لا يرحم. لكنها مقاومة هشّة، ما لم تجد حاملاً سياسيًا ومجتمعيًا صلبًا، فبلا بنية تتجسّد فيها، قد تظل مجرد صرخة في الفراغ الرقمي، لأن من يملك الخوارزمية، يملك الميكروفون، والمرآة، والسردية التي نروي بها العالم لأنفسنا.

والدولة الأمريكية العميقة العصرية تمسك اليوم بمفاتيح تلك الخوارزمية؛ إنها الإمبراطورية التي لا ملامح لها، لا تُرى، لكنها ترى كل شيء، وتُقرّر كل شيء، لقد تحوّلت الإمبراطورية الكلاسيكية، ذات الجيوش والحدود، إلى أخرى عصرية، خوارزمية، تُمارس هيمنتها لا من فوق العرش، بل من داخل الشيفرة.

الولايات المتحدة الأمريكية

mamokurda@gmail.com

11/4/2025م