بعد مرحلة الفوضى الخلاقة التي يشهدها العالم، وبشكل خاص منطقة الشرق الأوسط نخص بالذكر تلك الدول التي شهدت اندلاع ثورات ربيع الشعوب مخلفة أزمات مستعصية على الحل وعقد كداء، أزمات متجاوزة إطارها المحلي نحو التدّويل بعد أن تحولت إلى ساحات للعديد من القوى والدول والجهات التي ركبت تلك الثورات لتمرير أجنداتها ومشاريعها الاحتلالية التوسعية والاقتصادية مخلفة أزمات جديدة ومحققة مكاسب ولو كانت جزئية على حساب مصالح شعوبها.
أزمات ألقت بظلالها على الأمن والسلم العالمي، ومعرقلة لمصالح قوى الهيمنة باتت مسألة الخروج من هذه الأزمات بعد عقد من الزمن ضرورة حتمية لابد منها بعد مرحلة غياب متعمد من أولويات الأجندات الدولية وخاصة الفاعلين الأساسيين منها تاركت الساحة مفتوحة أمام القوى والدول الإقليمية الباب مفتوحاً للعبث بها فاتحة شهيتهم لتمرير أكبر قدر ممكن من أجنداتهم ومشاريعهم التوسعية الاحتلالية عبر إبادة شعوبها ونهب ثرواتها واستنزاف مقدراتها لقاء أداء بعض الوظائف الموكلة لها أو ربما لتوريطهم في مستنقعات تلك الأزمات بعد أن تحولت حكومات تلك الدول إلى عقبة أمام مصالح قوى الهيمنة العالمية وانتهت صلاحيتها وضرورة التخلص منها. وبات تفعيل دور قوى ودول أخرى إقليمية تفرض نفسها وقيادتها للمرحلة المقبلة بما يساهم في استباب الأمن والاستقرار وخاصة تلك الدول ليس لديها أية مشاريع توسعية وتحظى بترحيب من قبل شريحة لا بأس بها.
انطلاقاً من ذلك شهد العالم خلال الأيام المنصرمة مرحلة مفصلية من تاريخ البشرية عبر عقد قمم مصيرية واستراتيجية حيث وضعت بموجبها خارطة تحالفات، والإعلان عن استراتيجيات جديدة لقيادة وإدارة العالم مستقبلاً.
وتركيا بقيادة حكومة العدالة والتنمية وبحكم سياساتها البراغماتية كانت حاضرة بقوة في تلك القمم وأن كانت بشكل مباشر أو غير مباشر ملوحة بأوراق القوة التي بحوزتها لفرض أجنداتها وإلزام المجتمع الدولي الخضوع لمطالبها لاستكمال مشاريعها في المنطقة وعثمنتها.
قمة مدريد كأي قمة دورية لناتو تعقد كل أربع سنوات في أحد الدول المنضوية فيه، ولكن هذه المرة تميزت بأهمية قصوى وخاصة أنها جاءت بعد الحرب الأوكرانية وكان الهدف منها الإعلان عن استراتيجية الحلف الجديدة في مواجهة روسيا كتهديد والصين كتحدي وإيصال رسالتها للعالم واجماع ووحدة الناتو في الهدف والاستراتيجية والإسراع في انضمام السويد وفلندا في الحلف.
بالرغم كانت مسألة انضمام السويد وفلندا إلى الناتو مفروغة منها إلا أن تركيا سعت إلى استغلال ذلك للحصول على بعض التنازلات وإرضاخ الدولتين لبعض شروطها ضاربين معاييرهما وقيمهما عرض الحائط.
مكاسب حصلت عليها تركيا لحفظ ماء وجهها بعد تهديدات شديدة اللهجة واصرارها بشن عملية عسكرية على مناطق الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا والاكتفاء بتسليم الدولتين لبعض الشخصيات تعتبرها تركيا إرهابية، وقطع دعم الدولتين عن وحدات حماية الشعب وحزب الاتحاد الديمقراطي.
بالعودة إلى مكاسب تركيا من قمة مدريد عبر سحب السويد وفلندا دعمهما لمناطق شمال وشرق سوريا لن يؤثر على تغير المعادلة على الأرض وأن كان لها بعض التأثير من الناحية المعنوية كونهما ليستا من الفاعلين الأساسيين في الأزمة السورية، وخاصة بعد أن أعلنت أمريكا صراحة بأنها غير ملزمة بما جرى من اتفاقيات بين الدولتين وتركيا.
كما أن سويد أعلنت بأنها لن تسلم الشخصيات أو تدرجهم على قوائم الإرهاب وفق المعايير التركية إنما سيكون استناداً إلى قضاءها.
كما أن تركيا في هذه القمة إلى حد كبير خسرت فرص اللعب على المتناقضات بين روسيا وأمريكا والبقاء على الحياد بعد اجتماع أردوغان مع بايدن على هامش قمة مدريد وإصدار البيت الأبيض بياناً يؤكد فيه مواجهة تركيا وأمريكا لروسيا.
قمة جدة التي أنهت الجدال الدائر حول الانسحاب الأمريكي من منطقة شرق الأوسط وأكدت مدى استراتيجية موقعها الجيوستراتيجي لها، والإعلان عن استراتيجيتها الجديدة استكمالاً لاستراتيجياتها العالمية (قمة مدريد) وتأكيدها على أهمية ودور السعودية في قيادة المنطقة على الصعيد الإقليمي على حساب دول أخرى وخاصة تركيا وهذا ما أغضب أردوغان وسرعان ما خرج بخطاب ممزوجاً بلغة التهديد والوعيد وبأنه لن يسمح بأن يكون هناك أي مساعي على حساب دور تركيا الإقليمي.
إلى جانب التغيير في الاستراتيجيات الإقليمية عبر الانفتاح الإسرائيلي العربي والعمل في خندق واحد في مواجهة إيران، إلى جانب بأن يصبح الغاز العربي بديلاً عن الروسي، إذ هناك ملامح واضحة تؤكد قيادة العرب لمنطقة الشرق الأوسط والتعويل عليهم في المستقبل على حساب تحجيم الدور الإيراني والتركي.
قمة طهران كانت تركيا تتأمل فيها على الأقل تعويض الخسائر من القمتين السابقتين واضعة ثقلها على هذه القمة لعلها تحصل على البعض من المكاسب من إيران وروسيا في ظل حالة العزلة والحصار اللتان تتعرض لها الدولتين.
كان الواضح من هذه القمة أيضاً بحسب المثل العربي المعروف “عاد بخفي حنين” وخاصة بعد معارضة الدولتين لأية عملية عسكرية على مناطق شمال وشرق سوريا مؤكدين ضررها على الجميع وضرورة الالتزام باتفاقية 2019 وأضنة.
معارضات من ثالوث القمم لم تضع حداً لأطماع حكومة العدالة والتنمية وسلوكياتها العدوانية ضد شعوب المنطقة حيث أنها قصفت منتجع سياحي في إقليم كردستان العراق مخلفة عشرات الجرحى والشهداء ربما لتوجيه رسالة لإيران لعدم الاستجابة لمطالبها وأيضا لقوى الهيمنة العالمية.
وأنها بسلوكها تضرب جميع الأعراف والمواثيق الدولية عرض الحائط كما أنها تهدف من وراء ذلك ترويع وترهيب سكان المنطقة ودفعهم للهجرة والإبقاء على الفوضى مما يسهل عليها عملية التمدد وقضم المزيد من الأراضي وبالتزامن مع عملها الإجرامي في زاخو استهدفت بطائرة مسيرة قرية قيرا التابعة لناحية عامودا في شمال وشرق سوريا.
تركيا وبعد فقدانها لأوراقها بعض الشيء والأخطار المحدقة بها وعدم حصولها على الضوء الأخضر بشن عملية عسكرية جديدة على مناطق شمال وشرق سوريا، وكان لقوات سوريا الديمقراطية دور كبير في ذلك ببحث المسألة بالسبل الدبلوماسية مع حلفاءها والدول الفاعلة الأساسية في الأزمة السورية أمريكا وروسيا. صرحت تركيا عن تأجيلها للعملية وليس أنهاءها متذّرعة بحسب ما صرحت به بعض الوسائل الإعلامية بوجود مؤامرة دولية تستهدف أمنها واحتمالية نشوب حرب بينها وبين اليونان لإلهاء الشعب التركي مرة أخرى. وطالما لجأت إلى تلك الأساليب للتغطية على فشل سياساتها الداخلية والخارجية وخاصة أنها تعيش أوضاع اقتصادية متأزمة ومعارضات داخلية شديدة.
كما أنها وبعد فشل عقد اللجنة الدستورية السورية جولتها الاعتيادية، إحدى مخرجات آستانا واحدة من ضمانات استمرارية تركيا كفاعل أساسي في الأزمة السورية، خرج أردوغان بضرورة التمسك بهذه اللجنة وإلا سيؤثر ذلك على مصير آستانا وربما سيؤثر على جميع المكتسبات التركية الاحتلالية وتهددها التي حصلت عليها بموجب مخرجات آستانا وسوتشي.
بالرغم من الرود الدولية حيال العمل الإجرامي الأخير لتركيا بحق السياح العراقيين عبر بيان التنديد إلا أن غالبيتها تجنبت ذكر تركيا حفاظاً على مصالحهم معها واكتفت بالإدانة، وبينما كانت رود الأفعال الشعبية واضحة بأنها ترفض جميع التدخلات التركية، وربما تشكل الحادثة الأخيرة في سلسلة الأفعال الإجرامية لحكومة العدالة والتنمية كالقشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال.
فمع ثبات واستمرارية المطالبات الشعبية بوضع حد لتدخلات التركية المنافية لجميع الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية، وضرورة إخراجها من دولهم عبر ممارسة الضغوط على حكوماتهم والمجتمع الدولي بوضع لحد للتدخلات التركية.
طالما كانت ورقة تركيا الأقوى نظراً لأهمية موقعها الجيواستراتيجي لقوى الهيمنة العالمية ستظل ماضية في سياساتها المناهضة لمصالح الشعوب وإبادتهم عبر غض الطرف عنها، وستستمر في سياساتها القائمة على الإبادة لإلهاء الداخل التركي عبر خلق ذرائع بوجود تهديد على أمنها القومي.
ليلى موسى
ممثلة مجلس سوريا الديمقراطية بمصر
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=6187