شورش درويش
عكس الانتخابات السابقة، يهيمن في هذه الأثناء على المشهد التركي احتمال خسارة أردوغان الانتخابات الرئاسية، وهو احتمال وازن وقائم على ما تقوله شركات الاستطلاعات التركية، لكن التركيز على فوز أو خسارة أردوغان واعتبار الانتخابات أقرب لاستفتاء على شخصه يضيّق النقاش حول هوية منافسه كمال كليجدار أوغلو، البيروقراطي المجتهد و”غاندي التركي” أو “غاندي كمال” على ما يقوله المعجبون بنمط حياة الرجل المتواضعة.
ولئن كان الجانب الشخصي في حياة كليجدار أوغلو مكشوفاً للجمهور التركي، فإن إصرار الرجل على إعادة التذكير بهويته الدينية وإعلانه بأنه “علويّ” قبل بضعة أيام، يدخل في حسابات صياغة كاريزمته الخاصة على هدي التحديات التي ذهبت إلى أن علويّة أوغلو هي كعب أخيل ونقطة ضعفه المكشوفة.
هكذا سيجعل أوغلو من هويته مناط استفتاء تركيّ أيضاً، ذلك أن السؤال بات أوسع من: هل تقبل أو ترفض بتجديد رئاسة أردوغان، إلى حيث: هل تقبل برئاسة مواطن علويّ.
الحقيقة أن كليجدار أوغلو خاض تجربتي فوز مؤثّرتين بعيداً عن فوزه بالمقاعد البرلمانية منذ عام 2002، إذ خلف دينيز بايكال في رئاسة حزب الشعب الجمهوري حين خرج بايكال من الحياة السياسية بعد فضيحة جنسية مصوّرة. ولعل تسنّم زعامة أقدم الأحزاب في الجمهورية الذي يرى في الفضاء التركي العام مساحة غير قابلة للتقاسم على القوميات والطوائف ويعارض فكرة المجتمع التعددي لصالح مفاهيم الأمّة واللغة والعلم الواحد، قد مثّل جرعة ثقة لأوغلو القادم ليس فقط من داخل الطائفة العلوية بل من قرية الناظمية بولاية ديرسم (تونجلي)، إذ يحتفظ شأن كثيرين بذكرى الإبادة التي تعرّض لها علويو ديرسم في سنوات الإرهاب 1937-1938، ذلك أن ذكريات القتل العميم في دياره والجثث الطافية على سطح نهر مونزور والعائلات المحترقة في كهوف جبال ديرسم ورائحة الغازات السامّة لا يمكن أن ينساها كليجدار أوغلو المولود بعد عقد على حدوث المجازر شأنه في ذلك شأن أجيال من العلويين والعلويين الكرد الذين ما برحوا يستذكرون الحدث الإباديّ غير القابل للنسيان أو للسقوط بالتقادم.
فيما مثّل إصرار أوغلو على أن يكون مرشح المعارضة (طاولة الستة) فوزه الثاني، رغم إصرار زعيمة حزب الجيد ميريل أكشنار على الحؤول دون ترشحه عبر الطلب إليه بترشيح إحدى الشخصيتين الكارزميتين عن حزبه وهما أكرم إمام أوغلو ومنصور ياواش، ذلك أن أكشنار التي تعرف مزاج الناخب التركي، وباعتبارها الابنة النجيبة للدولة العميقة، فهي لا تكاد ترى في زعيم طاولة الستة أبعد من كونه معارضاً علوياً آيلاً للسقوط حال ترشّحه في مواجهة أردوغان الممثل الأهم للجماعة السنية – القومية، وبالتالي فإن الأمثل والأسلم لها هو عدم التفكير حتى في شرف المحاولة التي يسعى إليها كليجدار أوغلو.
وبطبيعة الحال تمثّل أكشنار في محاولتها تلك الوجه اليميني المحافظ لتركيا، وفكرة المحافظة هنا مدعاة للسخرية كما أنها تجري في دائرة مغلقة، إذ إن الكمالية في لحظتها التاريخية كانت تسعى إلى تكسير السائد وتطمح لحداثة شكلانية على الأقل، فيما يمثّل جنوحها نحو المحافظة ذروة الانحطاط في مخيال اليمين القومي غير القابل لتحديث نفسه. بذا وبتحدٍ كبير رفض كليجدار أن يتحوّل إلى “ذمّي” آخر تبتلعه قيم الجمهورية المتهافتة.
ثمة تحدٍ آخر يخوضه “كمال بيه” عبر اقترابه من ملامسة القضية الكردية، وإذا كان صحيحاً أن احتمالات فوزه معقودة في المحصلة على دور الناخب الكردي، ونيل بركة حزب الشعوب الديمقراطي “صانع الملوك”، وهو بعد براغماتيّ لا يمكن التقليل من شأنه، إلّا أن نجاحه لاحقاً، في حال فوزه بالانتخابات، مرهون بدرجة كبيرة باستعادة عملية السلام التي فرّط بها أردوغان لصالح تطلّعات فاشية وانتهاج سياسات إنكار لوجود قضية كردية مزمنة. ولعل تقارب كليجدار من حزب الشعوب شدّ من عصب أردوغان خلال حملته الانتخابية؛ فهو يسوق للرأي العام ولناخبيه بدرجة أساسيّة أن أوغلو بات حليف “الإرهابيين” في إشارة إلى تحالفه المضمر مع الكرد، ومع من يسميهم “المنظّمات الإرهابية في البرلمان” و”نوّاب قنديل”، في نبرة تخلط بين الشعبوية ونوبات الهستيريا والخوف من الخسارة.
قد يخسر كليجدار أوغلو الانتخابات، هذا وارد قياساً إلى تقارب نسب فوزه وخصمه أردوغان، لكن فوزه كما خسارته أسست لفكرة تصدّي مواطن “أسود” لممثّل “الأتراك البيض”، واحدٌ يطمح إلى تغيير وجه تركيا، وآخر غيّرها حقّاً إلى كيان تسلّطي، بهذا المعنى قد ينقل كليجدار أوغلو فكرة المجتمع التعددي من الظل إلى النور، مثلما حصل في تولّي باراك أوباما رئاسة الولايات المتحدة كأول رئيس أسود البشرة حكم البلاد، وأغلو إن نجح في أن يصبح الرئيس الثالث عشر فإنه سيترك الباب موارباً لمواطنين أتراك آخرين، كرد وأرمن وروم وعرب، يحلمون بالوصول إلى سدّة الرئاسة بوصفهم منتمين لهويات فرعية وأبناءً لفكرة المواطنة.
يضعنا افتراض نجاح كليجدار أوغلو، أمام استحقاق جديد في تركيا والمنطقة، حيث فرصة تقليص حدة العداء والاتهامات بين الأكثريات والأقليات، والتوقّف عن مزاحمة رئيس دولة رؤساء آخرين في المنطقة على أحقية تزعّم العالم الإسلامي، وسنكون أمام رئيس ينحدر من أقلية تصل لرأس السلطة ديمقراطياً دون الحاجة لإحداث إنقلاب عسكري أو تقاسم للسلطة، هذا يعني الكثير بعد الاستقطاب الإقليمي الذي أحدثه أردوغان، وبعد جولات طويلة من “الانتفاخ الأمبراطوري” الذي عانته تركيا جراء السعي وراء التوسّع.
ولئن كان كليجدار أوغلو من المولعين بالحسابات على ما تقوله وظيفته قبل أن يتحوّل من بيروقراطي إلى سياسيّ مؤثّر، فإن كل تفاؤل لاحق متوقّف على ما سيقوله الناخبون الأتراك، ومن ثم، وبافتراض فوز أوغلو، يبقى أن يلتزم الرجل بالعقل الرياضيّ القائم على الحسابات والأرقام، وما تقوله الأرقام لا يكذّب وهذا ما يعرفه كمال بيه كما عرفه في وقت أسبق تورغوت أوزال الذي حاول تخفيض أرقام المشكلات في بلاده ومن ضمنها القضية الكردية ومسائل الحريات والدمقرطة.
ولعل السؤال الأهم هو ماذا لو فاز كليجدار أوغلو؟ بدل السؤال التقليدي: ماذا لو خسر أردوغان؟ على ما يتفرّع عن كلا السؤالين من أجوبة تطول ولا تنتهي.
المصدر: نورث برس
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=22344