الجمعة, نوفمبر 22, 2024

محمد عفيف الحسيني : ظلالُ الله على قلعةِ آمَدْ (دياربكر)

ـ 1 ـ

لم يكنْ من بُدٍّ، غيرَ أنْ أنزلقَ من فندق “كاروان” إلى روحي وهي تذوبُ في حَنايا شفقِ القلعةِ وغَسقِها الظالمِ.

خرجتُ من الفندقِ، وثمّت حمحمةُ أحصنة وبغال وبوليس مدني أرتعد منه، لا أعرفه، لكنْ، بإحساسٍ عتيقٍ، يشبه حجراً مسودّاً رهيفاً، أخاف؛ أدلفُ من السرادقِ الطويلِ، وأنا أشعرُ بالاختناقِ من الغرفةِ القديمةِ العصريةِ. أخرج منها مقذوفاً، وأسمع نزقَ الكراسي الصغيرة، وهي تتلاطم لبضعةِ مئاتٍ من رجالِ والي دياربكر، وهم يدلفون بمعيِّته إلى ساحةِ الفندقِ الفسيحةِ. ارتمتْ على شفتي فراشةٌ كبيرةٌ، فأزلتها، فنزلتُ، فكنتُ في بهو الحجرِ الحكيمِ الصامتِ ـ الحجرِ اللذيذِ: طبقتان منه، يتوالفان في القرون. فيروز سماء دياربكر، ذلك اليوم المتشنّج بين خطويَ، وخطو العينين القلقتين تبحثان عن ذكرى التاريخ: كيف أشمّه دون قلق، التاريخ الكوردي المهزوم؟. ثمت نافورات في حوشِ الفندقِ، هي في عصب قلقي، نزقةً مثلي، ينفر منها الماءُ متوتراً ـ ربما غصباً ـ، أكان هناك شرفخان؟ ثمت صديقي بائع الساعات الجيبية الفضية الجليلة، أقف أمامها متعثراً، أضع واحدة منها على كف يدي اليسرى المرتعشة، أهو القلب يبتغيها؟ أم رغبة فضية قديمة؟ أشتري واحدة على غطائها نقش أنذهل منه: ضريح “مَمْ وزِيِنْ”!، هناك في مسافات الجندرمة، مم وزين، يتواريان في مسجد (مير عفدال) بأحرف عربية، منحوتة على رخام غبار، رخام أن أكون في هدير حجر قلعة دياربكر، يستوحده الزمنُ، ويغيّبه التاريخُ القسوةُ، التاريخُ الدواءُ، التاريخُ البنفسجُ. ما لون التاريخ؟ ما لون حجر دياربكر؟

لا أعرف. لكنْ، أعرف الحجرَ المهمَلَ والدرجَ المهملَ والحَمَامَ المهملَ على قبةِ العاشقيْن الذليلين هناك: أنزل الدَّرجاتِ المظلمةَ إلى حيث يرقدان في نومهما السرمديّ الطويل. ليس من ضوءٍ، فقط مشكاة منيرة تترى على الصمت: قبرٌ حجريٌّ في القبو كبير نسبياً: هو “مَمْ”. قبرٌ حجريٌّ صغير نسبياً: هي “زِينْ”. حجرٌ حنونٌ هنا يغمرهما بلونٍ معتمٍ من الوَلَهِ والحرمانِ. أشار “المُجاوِرْ” ألاّ آخذ مِزقاً من خرقة الضريح، عندما رآني أشقّ القماشَ القليلَ، لأتبركَ به في الرحيل: مِزْقةٌ بيضاءُ باهتةٌ، عليها نجمات صغيرة بأحمرها الكثيف. هي معي أبداً، مع مزقة خضراء من آلِ “بافي كال”.

أين ينام مَمْ؟ من أعطاه الحقَّ ليكونَ شفيفاً هكذاً، مثل صلاة الظهيرة في جامع “مير عفدال”؟.

من أعطى “زين” كلَّ هذا الشفق، وكلّ هذا النحول الألم الدوخة الخروج من مزار التاريخ قبل قرون، وأحمد خاني يدون رحيقاً منسياً، رحيقاً حجراً مهملاً، على أطرافِ جزيرة “بوتان” القليلة ـ أطرافِ ظلالِ الله على قلبي.

ـ 2 ـ

ما بين الفندقِ والحجرِ الكورديّ، رمية ماهر، رمية طلقة قَتَلة، لم أكنْ ماهراً، ولم أكنْ صاحب طلقة قتلة، كنتُ مستوحشَ المكانِ (وهو مكاني)، ومكان أهلي القدماء، نزحوا من بدليس قبل ألف عام وسكنوا في جهاتِ أمَلهم، فالأرض أرضهم، واللغة هي نفسها، والخراف تلثغ بالعشب والحليب والندى المريض لفجرٍ باردٍ قاسٍ أليمٍ هادىٍء بسيطٍ عميقٍ كثيرٍ طيبٍ قليلٍ. ساعةٌ فضيةٌ، اشتريتها في دياربكر، وفيها أضعتها، على حجرٍ عالٍ، أنزلقُ منه ببطءٍ، إلى ظلال جدي وهو يناديني: “ألنْ تزورَني يا جاحدُ”؟. لكنْ، لا أسمعه. بيننا ألف عام. ألف عام، هو ناقص لي، هو كثير لي، هو جهلي، لم أهتدِ إلى روحِه تشفُّ وترقُّ وتنحلُ، فتجلسُ على حجرِ قلعةِ دياربكر، تتأمل هباباً كثيراً قادماً من حفيدِه ولن يعرفَه، لنْ يهتديَ إليه، لأنَّه يجهلُ تاريخَه. تاريخٌ يتمدد على تلك الأحجارِ الحنونةِ، مثل شبح معدني.

ـ 3 ـ

قلعةُ النسيانِ، إذن، هي هذه الأحجار المركونة كحيوان اسطوري نافق. نام بين جنباتِها أمراءُ الشدائدِ. خلقوا منها بَذَخاً بعيداً، عندما تلّوح لهم من بعيد، وهي تلفُّ المدينة بحنوٍ وتقشّفٍ، فتهدأ دوابُهم، ومن لهاثِها، تَنْدى المعالفُ. في الفندقِ ـ الخانِ القديمِ، يجتمع أمراءُ جهاتِ كردستان، يرافقهم بضعة عشرات من الغلمان المردة، ونسائهم المكتنزات الشقراوات، نساء أمراء التاريخ الفائض على سراويلهن، وعلى أخفافهنَّ المرنةِ اللينةِ بفجورٍ، من صُنْعِ مَهَرة أقبية دياربكر، وأطرافها الغبار، ثمت أسأل نفسي ـ أنا الحفيد الضائع ـ وأنا أتسلق درجاً حجرياً إلى الأعلى المتهور، النصف المتهدم: “كيف كانتْ أنفاسُ أجدادي؟ كيف تقلبوا في الزمن، وأمضوا بأشجارِهم وأحجارِهم وغضبِهم وليونةِ نسائِهم في المخادعِ، وهم ناشفون، بليغون في رميهم الضائع أبداً، رمية ماهر مهزوم؟”. حجرٌ حجرٌ مذبوحٌ بالأسودِ الخرافيِّ، الأسود في ظلام الكورد المنكودين أبداً، بشفاههم المتورمة المزرقّة في قبو ما من أقبيةِ دياربكر، في كل الأزمنةِ، في مكانٍ، يحتشد الجبلُ ببنادقهم وبغالهم وأعلامهم وثوراتهم وانتفاضاتهم وخسرانهم الأبدي، ليناموا في بردِ الحجرِ الأسودِ المتشققِ، فيتشقق التاريخُ الكورديُّ على أطرافِ أرديتهم وعماماتهم، وهم يتولّهون، وهم ينحنون من الخيطِ الرفيعِ، يشدُّ على رقابهم، فتتدلى ألسنتُهم بنفسجيةً طاهرةً، لكنَّها ميتةً تحت رحابِ حجر قلعة دياربكر الأسود.

ـ 4 ـ

كانتْ ظلالُ الله تستلقي على غروبِ القلعةِ.

كانتْ ظلالُ الغريب تستلقي على غروبِ القلعةِ.

كانتْ ظلالُ أصابعي رجفةً ذلك اليوم وأنا أسرق من الزمن حمحمةَ بغال تتهادى من الجبلِ إلى السهلِ، تنقل الحجرَ لبناء قلعة دياربكر: نفسها أحجار قلعة دياربكر القديمة، تُسرق، وتُعرض في فندق كاروان، الفندق الذي نمتُ فيه، وحطّتْ فراشةٌ كبيرةٌ بوبرِها المرتعشِ على شفتي، وأنا أتحدث مع جهةِ أبي وأمي.

ما الزمن بين عامودا ودياربكر؟

ما الذي جعلني أن أرى الشابَّ الملتحيَ مثلي في الطائرةِ من دياربكر إلى استانبول، يلتفت إليَّ ثلاثَ مراتٍ، وهو يبتسم لي، فأبتسمُ له، كنتُ حراً خائفاً، وكان وهو المبتسم، ترسف رسغاه الشابتان في قيدٍ فضيٍّ، وهو جالس بين اثنين أنيقين، شفيفين، وقاتلين.

ـ 5 ـ

أطفالُ دياربكر، بأحذيتهم المشقوقة، يلعبون أسفل القلعة، ويشتمون بلغةٍ كاشفةٍ، ألتقطها، وأفهم أنني كنتُ مثلهم، لكنْ، في جهة أخرى من كردستان. جهة عامودا، جهة أنْ أكونَ هناك سرمدياً، وصموتاً مثل مزقة قماش مم وزين، بين صحائف كتاب “أحمد خاني”.

* قلعة آمد (دياربكر)

كان الإمبراطور الروماني “قسطنطين” قد حصّن هذه القلعة تحصيناً عظيماً، وأنشأ فيها داراً للصناعات الحربية من العجلات العسكرية والعرّادات الحربية، وكان بها أيضاً ترسانة عظيمة للسفن الحربية. ولاتزال آثار تلك التحصينات باقية للآن، من سور متين عريض يحيط بكامل المدينة، ومن قلعة داخلية تحتوي على أبراج وحصون وطوابي على غاية من المتانة.

​المصدر: اتحاد مثقفي روجآفايي كردستان

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية