منبج: تصاعد الانتهاكات الحقوقية على يد فصائل الجيش الوطني السوري
مقدمة:
شهدت مدينة منبج وريفها تصعيداً خطيراً وغير مسبوق في انتهاكات حقوق الإنسان على يد فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا، منذ إعلانها السيطرة على المدينة في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، عقب معارك عنيفة مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضمن العملية العسكرية المُسمّاة “فجر الحرية”.
أدى الهجوم الذي شنته فصائل “الجيش الوطني ” على منبج إلى مقتل العشرات، بينهم مدنيين، وسط تصاعد العنف والانتهاكات الموثقة التي شملت الإعدامات الميدانية، الاعتقالات التعسفية، التعذيب، ونهب الممتلكات. كما شهدت المدينة استهدافاً واسعاً للممتلكات الكردية، مما دفع السكان إلى النزوح الجماعي هرباً من التهديد المستمر.
من جهة أخرى، تستمر هجمات “الجيش الوطني السوري” بغطاء تركي على مناطق شمال شرق سوريا، وسط تزايد مخاوف الشعب الكُردي وغيره من شعوب وأقليات المنطقة، التي تحتضن أكثر من مليون نازح داخلي، بينهم عشرات الآلاف المهجرين من ضحايا جرائم وانتهاكات الفصائل ذاتها.
ويجري ذلك في لحظات تاريخية تنفّس فيها ملايين السوريين/ات الصعداء مع سقوط نظام الأسد، يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، ودعت الأمم المتحدة جميع الأطراف المسلحة إلى وقف التصعيد وإعطاء الأولوية للحوار واحترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان كخطوة أساسية لإعادة بناء المجتمع السوري.
خلفية:
في سياق سقوط نظام بشار الأسد بعد عملية “ردع العدوان” التي أطلقتها مجموعات مسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، منذ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، أطلقت فصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة من تركيا عملية “فجر الحرية”.
منذ 30 نوفمبر/تشرين الثاني، سيطرت هذه الفصائل على مناطق تل رفعت والشهباء شمالي حلب، ثم منبج، التي كانت رمزاً للتعايش بين الكُرد والعرب، وسط تصاعد انتهاكات حقوق الإنسان، من إعدامات ميدانية، اعتقالات تعسفية، تعذيب، ونهب ممتلكات.
يقود قوات الجيش الوطني التي أطلقت العملية المُسمّاة “فجر الحرية” مجرمين وفصائل مدرجة سابقاً في قوائم العقوبات الصادرة عن “وزارة الخزانة الأمريكية” بسبب تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك القتل والاختفاء القسري، ونهب الممتلكات، أبرزها فرقة الحمزة (الحمزات) وقائدها “سيف بولاد أبو بكر”، وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات) وقائدها “محمد الجاسم” المعروف باسم “أبو عمشة”[1]، بالإضافة إلى تجمع “أحرار الشرقية” وقائدها “أحمد إحسان فياض الهايس” المعروف باسم “أبو حاتم شقرا” الذي أعدمت مجموعته السياسية الكُردية “هفرين خلف” وسائقها ومرافقيها خلال الأيام الأولى من عملية “نبع السلام” التركية.[2]
الإعدامات الميدانية:
كانت الإعدامات الميدانية من أبرز الانتهاكات المروعة التي شهدتها مدينة منبج، حيث شهدت إعدام أكثر من 15 أسيراً، بينهم جرحى، وكان الضحايا عناصر في وقوات سوريا الديمقراطية وقوى الأمن الداخلي “الأسايش”، بالإضافة إلى مجندين قسراً من قوات الدفاع الذاتي.
تظهر الأدلة المصورة مقاطع فيديو لعمليات إعدام ميداني متعددة، بما في ذلك إعدام ميداني لجريحين من قوات “مجلس منبج العسكري” كانا يتلقيان العلاج داخل مستشفى قرب دوار المطاحن، بعد محاصرة المستشفى ومنع إجلاء المصابين. بالإضافة إلى إعدام عدد من الأسرى بالرصاص في مواقع مختلفة ضمن المدينة، بما في ذلك من ألقوا أسلحتهم ولم يشاركوا في القتال.
وقالت لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا في بيان بتاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر، إنه يجب على جميع أطراف النزاع في سوريا حماية المدنيين ومعاملة الذين ألقوا أسلحتهم معاملة إنسانية وحماية الأدلة على الجرائم للمساعدة في ضمان المساءلة في المستقبل.
قتل المدنيين وإهمال الجثث:
مع تصاعد المعارك، انتشرت جثث القتلى، من جنود ومدنيين، في شوارع منبج، دون أي إجراءات لدفنها أو تسليمها لذويها. تضمنت الحالات المؤلمة مقتل عائلة كاملة داخل سياراتها أثناء الاشتباكات، إضافةً إلى مقتل ثلاث نساء من “تجمع نساء زنوبيا”.
إلى جانب ذلك، وُثقت حوادث نهب لأسلحة وهواتف محمولة من جثث القتلى. كما تمّ توثيق مقتل خمسة أشخاص، أربعة منهم بدافع السرقة وآخر بدافع الثأر.
الاعتقالات التعسفية والفدى المالية:
وثقت “تآزر” اعتقال ما لا يقل عن 52 مدنياً على يد فصائل “الجيش الوطني السوري”، وفيما تمّ الإفراج عن 16 محتجزاً بعد دفع فدى مالية، يظل مصير الآخرين مجهولاً.
أفاد المُفرج عنهم بأنهم تعرضوا للتعذيب الشديد، وتحققت “تآزر” من مقاطع فيديو أظهرت عمليات إذلال وامتهان لكرامة المحتجزين. أبرزها مقطعين يوثقان تعرض ثلاثة مدنيين، بينهم رجل مسن، لإهانات وتعذيب شديد على يد عناصر “الجيش الوطني السوري” في إحدى القرى في ريف مدينة منبج. يظهر في الفيديو الأول ثلاثة محتجزين، من بينهم رجل مسن يبلغ من العمر أكثر من 60 عاماً، كان يعمل ضمن لجنة خدمية محلية في القرية، إلى جانب شابين آخرين. ويظهر أحد العناصر وهو يرفع قدمه في وجه المحتجزين، ويوجّه لهم إهانات شديدة ويجبرهم على القيام بأفعال مهينة، مثل تقليد أصوات النباح، بينما ينهال عليهم بوابل من الشتائم والتحريض. أما الفيديو الثاني، الذي صُوّر في الموقع ذاته، فيُظهر 5 إلى 6 محتجزين، من بينهم الرجل المسن والشابان اللذان ظهرا في الفيديو الأول، وهم يتعرضون لتعذيب جسدي وإهانة مستمرة على يد نفس العناصر المسلحة.
استهداف الكُرد ونهب الممتلكات:
تعرضت منازل ومحلات المدنيين الكرد في منبج لعمليات نهب واسعة النطاق. شملت الانتهاكات أكثر من 20 منزلاً تعود ملكيتها لعائلات كردية، مع وضع علامة “مُصادر” على بعضها. دفع الخوف من القتل أو الاعتقال معظم المدنيين الكُرد إلى النزوح الجماعي، بينما ظل آخرون محاصرين داخل المدينة تحت تهديد دائم.
في ظل الفوضى، شهدت المدينة مظاهرات تطالب بتدخل “هيئة تحرير الشام” وطرد “الجيش الوطني”، كما دعت عشائر عربية حكومة دمشق لتحمل مسؤولياتها تجاه الانتهاكات المستمرة.
القصف التركي بالطائرات المسيّرة: المدنيون يدفعون الثمن
بين 8 و23 كانون الأول/ديسمبر، وثقت “تآزر” مقتل 45 شخصاً، بينهم 14 طفلاً، نتيجة قصف تركي بالطائرات المسيّرة والمدفعية على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، كما أصيب 14 مدنياً، بينهم 3 أطفال وامرأتين.
في إحدى الهجمات الأشد دموية، يوم 8 كانون الأول/ديسمبر، استهدفت طائرة مسيّرة تركية قرية “المستريحة” في ريف بلدة “عين عيسى” شمال الرقة، مما أسفر عن مقتل 12 مدنياً، بينهم 6 أطفال، وإصابة آخرين بجروح متفاوتة.
كما قُتل الصحفيان “جيهان بلكي” و “ناظم دشتان” نتيجة هجوم شنته طائرة مسيرة تركية بالقرب من سد تشرين، في هجوم وصفته منظمة “حرية الصحافة للنساء – Women Press Freedom” بأنه جريمة حرب تستوجب تحقيقاً مستقلاً.
وقالت منظمة “حرية الصحافة للنساء” في بيان نشرته بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر، إنّ الصحفيان كانا يوثقان الهجمات على السد عندما تمّ استهداف سيارتهما “بشكل مباشر” من قبل طائرة تركية مسيّرة، كما أُصيب سائق المركبة في الهجوم. أدانت المنظمة الهجوم بشدة، ودعت إلى فتح تحقيق مستقل وفوري لتحديد ما إذا كان الصحفيان قد استُهدفوا بشكل متعمد.
إنّ استهداف الصحافة عمداً في مناطق النزاع يشكل جريمة حرب. ويجب محاسبة تركيا على العدد المتزايد من الصحفيين الكُرد الذين قُتلوا أو أُصيبوا في ضرباتها الجوية، حيث تُعد “جيهان بلكي” ثالث صحفية تُقتل بضربة تركية هذا العام، بعد مقتل كل من “كلستان تارا” و”هيرو بهاء الدين” في كُردستان العراق في آب/أغسطس الفائت.
سد تشرين: كارثة إنسانية محتملة
بتاريخ 12 كانون الأول/ديسمبر وجهت “تآزر” نداءً عاجلاً إلى المجتمع الدولي لتحذيرهم من المخاطر الوشيكة التي تهدد “سد تشرين” نتيجة الأعمال القتالية في محيطه. يمثل السد شريان حياة لملايين السكان في شمال سوريا، حيث يوفر المياه والكهرباء الضروريتين للمنطقة، لكن الهجمات المستمرة تُهدد بانهياره، مما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وبيئية واسعة النطاق.
بتاريخ 14 كانون الأول/ديسمبر، قالت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سورية، إنها قدمت بالتعاون مع الهلال الأحمر العربي السوري، دعماً مهماً لإجراء تقييمات وصيانة عاجلة لسد تشرين، بهدف ضمان سلامته واستمراره في العمل بأمان، وحماية سكان القرى المجاورة من أي مخاطر محتملة.
رغم ذلك، تلقت “تآزر” تقارير تؤكد استمرار الأعمال القتالية في محيط سد تشرين، ما يُعرض السد وسكان المناطق المحيطة لخطر حقيقي.
المسؤولية القانونية:
وفقاً للقانون الدولي الإنساني، تشكل الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” بدعم مباشر من تركيا، انتهاكات صريحة لاتفاقيات جنيف لعام 1949. تندرج الاعتقالات التعسفية والتعذيب ضمن الانتهاكات المحظورة بموجب المادة الثالثة المشتركة من اتفاقيات جنيف، التي تلزم جميع الأطراف في النزاعات المسلحة غير الدولية باحترام وحماية الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية، وتحظر بشكل قاطع ممارسة التعذيب والمعاملة القاسية أو اللاإنسانية.
وتتحمل تركيا، باعتبارها القوة الداعمة والمُشرفة على فصائل “الجيش الوطني السوري” مسؤولية قانونية عن هذه الانتهاكات، ما يُلزمها بضمان امتثال الفصائل المسلحة للقوانين الدولية، ووقف الانتهاكات، ومحاسبة مرتكبيها. كما أن الفشل في اتخاذ إجراءات فعّالة لمنع هذه الجرائم أو معاقبة مرتكبيها يُعد تواطؤاً ضمنياً، مما يعرضها للمساءلة أمام الهيئات والمحاكم الدولية.
التوصيات:
يتطلب تصاعد الانتهاكات في مدينة منبج تحركاً عاجلاً من قبل المجتمع الدولي لضمان حماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، من خلال:
- إجراء تحقيقات مستقلة وشفافة لمحاسبة المتورطين في هذه الانتهاكات، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
- الضغط على جميع الأطراف المتورطة في النزاع السوري لضمان احترام حقوق الإنسان وحماية المدنيين.
- توفير الدعم اللازم للضحايا، وتعزيز آليات المساءلة المحلية والدولية، لضمان تقديم الجناة إلى العدالة وتحقيق العدالة للضحايا.
[1] U.S. Department of the Treasury, Treasury Sanctions Two Syria-Based Militias Responsible for Serious Human Rights Abuses in Northern Syria, 17 August 2023 (Available at: https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy1699).
[2] U.S. Department of the Treasury, Treasury Sanctions Syrian Regime Prisons, Officials, and Syrian Armed Group, 28 July 2021 (Available at: https://home.treasury.gov/news/press-releases/jy0292).
تآزر
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=59010