د. محمود عباس
حين يحكم الأمير من المحراب.
خطابُ أحمد الشرع، الجولاني، في المسجد الأموي في الذكرى الأولى لزوال الطاغية المجرم بشار الأسد لم يكن حدثًا عابرًا ولا مناسبة بروتوكولية؛ كان إنذارًا، فقد أعاد إلى الذاكرة، بلا أي مواربة، خطاب أبي بكر البغدادي في جامع النوري الكبير بالموصل، حين اعتلى المنبر خطيبًا لا حاكمًا، ومُفتِيًا لا سياسيًا، معلنًا “دولة” لا علاقة لها بمفهوم الدولة، بل بسطوة العقيدة حين تتنكر لحدود السياسة وتستعير لغة الوحي لإدارة المجتمع.
مشهدان من زمنين مختلفين، لكنهما يصدحان بالرسالة نفسها، حين يتحوّل المنبر إلى عرش، والمحراب إلى منصة حكم، والدين إلى هوية سياسية مُطلقة، تصبح الدولة مجرّد ظلّ باهت، وتصبح السلطة امتدادًا لخطابٍ سماويّ مُصادَر، لا عقدًا اجتماعيًا بين المواطنين.
هذه ليست مصادفة في الرمزية، بل إعلانٌ واضح بأن سلطة أحمد الشرع هي سلطةُ المسجد لا سلطةُ الدولة، وأن مشروعه يقوم على منبر الفقيه لا منصة السياسي، وعلى قداسة العمامة لا مسؤولية القانون. فالمنبر الديني، حين يتحوّل إلى مقعدٍ للحاكم، يصبح تلقائيًا أداةً للطاعة لا مساحةً للنقد، ومنصّة تفويضٍ غيبي لا عقدًا اجتماعيًا بين الحاكم والمحكوم.
وارتقاءُ “رئيس دولة”، أو من يقدّم نفسه كذلك، منبرَ الجامع ليخطب بدل إمام المسجد، يعني أنّ الدولة أُلحقت بالدين، وأن السياسة ذابت في فقه الطاعة، وأن القانون صار حاشيةً في دفتر العقيدة. إنه إعلان غير مكتوب بأن شرعية الحكم لا تأتي من الشعب، بل من النص، ولا من صناديق الاقتراع، بل من منصة الخطبة.
تخيّل، فقط تخيّل، لو أن دونالد ترامب ظهر في صدر كنيسة سانت جون في واشنطن، واعتلى المنبر مكان الكاهن، وخطب بالأمريكيين باسم المسيحية.
ماذا سيحدث؟
تهتزّ المؤسسات، تقوم الدنيا ولا تقعد، يهبّ القضاء، وتستنفر الصحافة، ويُفتح الدستور على مصراعيه. سيُقال فورًا إن الرئيس تجاوز حدوده، وإنه خلط الدين بالدولة، وإنه يحاول تأسيس لاهوتٍ سياسي مرفوض في أميركا من جذوره.
لماذا؟
لأن الغرب تعلّم أن الدولة تُدار من المؤسسات لا من المعابد، وأن المنبر مكانه رجال الدين لا رجال السلطة، وأن الخلط بين المقدّس والسياسي هو أول الطريق نحو الاستبداد.
أمّا حين يفعلها الجولاني، فالمشهد مختلف تمامًا:
يُراد لاعتلائه المنبر أن يبدو “تواضعًا”، أو “قربًا من الناس”، أو “تماهيًا مع هوية المجتمع”، بينما هو، في جوهره، تثبيتٌ لشرعية دينية تعلو على الشرعية السياسية، وإعادةُ إنتاجٍ لنموذج الحاكم-الداعية، حيث لا يعود الناس مواطنين، بل أتباعًا، ولا يعود المجتمع مشاركًا، بل مُلتزِمًا، ولا تعود السياسة فنّ الممكن، بل امتدادًا للعقيدة.
والمشكلة ليست في المسجد نفسه، فهو مكانٌ روحيّ محترم، بل في تحويله إلى منصة حكم، وفي نقل السلطة من البرلمان إلى المحراب، ومن السياسة إلى العقيدة، ومن الشعب إلى الأمير. وهكذا يرسل الجولاني رسالة واحدة لا تقبل التأويل.
الدولة التي يحلم بها ليست جمهورية ولا مدنية ولا سياسية، بل دولة منبر.
منبر يشبه تمامًا المنبر الذي وقف عليه البغدادي في جامع النوري.
وبين المنبرين، يضيع الوطن.
الولايات المتحدة الأمريكية
8/12/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=81140





