ليلى موسى
بالتزامن مع الذكرى الأليمة لمجزرة “ليلة الغدر” في كوباني، التي راح ضحيتها عشرات المدنيين الأبرياء من نساء وأطفال ومسنين، أثناء نومهم الآمن بعد صلاة الفجر، نستحضر مأساةً لا تزال جراحها مفتوحة، رغم مرور عقدٍ من الزمن. كانت المجزرة علامة سوداء في تاريخ الإنسانية، كشفت حجم التواطؤ والدعم الذي تلقته قوى الإرهاب والتطرف من أطراف متعددة، سخّرت هذه الأدوات خدمة لأجنداتها التوسعية. وما جرى مؤخراً في كنيسة “مار إلياس” بحي الدويلعة بدمشق، ليس بعيداً عن تلك الذهنية؛ فالإرهاب ذاته، وإن اختلفت الأمكنة، ما زال يستهدف الأرواح البريئة بذات العقلية الإقصائية.
كوباني التي أصبحت رمزاً للمقاومة والانتصار على الإرهاب، تُمثل حقيقة الإرادة السورية في مواجهة الظلام والتكفير. هذه المدينة المنكوبة علمتنا أن الحق لا يسقط بالتقادم ما دام هناك من يدافع عنه، وأن العدالة الغائبة لا يمكن أن تُستعاد دون محاسبة عادلة ومنصفة لكل من تورط وساهم في صناعة الكارثة.
التفجير الذي استهدف الكنيسة، بعد عشر سنوات من مجزرة كوباني، يعيد التأكيد على أن غياب المساءلة والعدالة لا يزال هو القاعدة، وأن التعامل الدولي مع ملف الإرهاب لا يزال يفتقر إلى الجدّية. لو تمت محاسبة مرتكبي مجزرة كوباني وداعميهم حينها، لربما لم نكن لنشهد أحداث الساحل أو تفجير الدويلعة لاحقاً.
النهج القائم على المعالجات الأمنية والعسكرية في مواجهة الفكر الإرهابي، لا يمكن أن يحقق نجاحاً مستداماً. الفكر لا يُحاصر بالسلاح، إنما يُواجه بمشروع فكري بديل، يعالج الجذور العميقة التي أنتجت هذا التطرّف، ويقدّم تصوراً جديداً للعيش المشترك.
الثورة السورية، التي انطلقت بحثاً عن الحرية والكرامة، تعرّضت للاستغلال من قبل قوى حولتها إلى ساحة لصراعاتها، وفرضت أجنداتها الخاصة على حساب الشعب السوري. فالعقلية الإقصائية، التي تسببت في تفكيك الدولة والمجتمع، لا تزال تفرض نفسها عبر مشاريع تغذّيها النزعات القوموية أو الإسلاموية، وكلاهما يؤديان إلى ذات النتيجة من القمع والاستبداد، وإن اختلفت الواجهات والأدوات.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو استمرار محاولات إعادة تدوير بعض المجموعات التي ارتبطت بالإرهاب، ومنحها أدواراً ومواقع في مؤسسات مؤقتة، تُقدَّم كأنها تعبر عن مشروع وطني. هذه المقاربة، وإن بدت تكتيكية، إلا أنها تتجاهل حقيقة أن الفكر المتطرف يقوم على بنية ذهنية ترفض الآخر، وتُقصيه بالكامل، ما يجعل أي رهان على احتوائه ضرباً من التمني.
غياب إعلان الحداد الرسمي بعد تفجير الكنيسة يعكس إشكالية عميقة في الوعي السياسي والأخلاقي لبعض الجهات. ورغم أن الحكومة الانتقالية أصدرت بيان عزاء، إلا أن محدودية الموقف الرسمي دفعت البطريارك يوحنا العاشر لإعلان الحداد بنفسه، لا على الضحايا فحسب، بل في تعبير رمزي على عجز السلطة في حماية المدنيين.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس مجرد استجابات رمزية، بل تحولاً حقيقياً في منظومة الحكم، يضمن الحوكمة الرشيدة والمشاركة العادلة لكل السوريين، دون تمييز أو تهميش. ما لم تُفتح صفحة جديدة قائمة على العدالة والمحاسبة والديمقراطية، فإن الثورة ستبقى مستمرة، ولو بطرق مختلفة.
التغيير المنشود لن يتحقق إلا بإحداث ثورة فكرية وأخلاقية تسبق التحولات السياسية. يجب إعادة النظر في المفاهيم الراسخة، والقيام بمراجعة نقدية لكل ما أُنتج خلال السنوات الماضية، لتصحيح المسار، واستعادة سوريا لدورها ومكانتها الطبيعية إقليمياً ودولياً.
إن الخطوة الأولى تبدأ من الداخل، عبر حوار سوري-سوري جاد وشامل، ينتج عنه مشروع وطني يعبر عن جميع السوريين، ويقطع الطريق أمام كل أشكال التدخلات الخارجية. عندها فقط يمكننا القول إننا نسير فعلاً نحو سوريا جديدة، متحررة من بؤر التطرف ومنابر الكراهية.
لأن أمن سوريا هو حجر الأساس في استقرار المنطقة والعالم، ولا يمكن تجاهل هذه الحقيقة. وأي تهاون في قراءة الواقع السوري بعمق وصدق، سيُفضي إلى تكريس سياسة الأمر الواقع، وفتح الباب أمام عودة الاستبداد بصورة جديدة، تكون أكثر خطورة من ذي قبل، لأنها قد تأتي مغلّفة بذرائع محاربة الإرهاب، بينما تُعيد إنتاجه بطريقة أخرى.
المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=71216