الجمعة 06 حزيران 2025

مهمة الكاتب: من اثينا الى اليوم

نير باسليوس

تختلف مهمة الكاتب المثقف من مرحلة الى اخرى، ويتحدد موضوعه وفقا للعصر الذي يعيش فيه. فقد فتح الكتاب الاغريق الابواب أمام نمط معين من التفكير، ارسي الجذور الاساسية للتقاليد الفكرية الغربية تحديدا، والإنسانية عموما، حتى يومنا هذا. كتبوا عن العقل والفكر العقلاني، وقدموا التفسيرات العلمية المادية للعالم الطبيعي. ويمكن القول ان التفوق الغربي بدأ من هناك، من أثينا، وليس من الحداثة الأوروبية كما يشاع. نحن لم نخسر هذا الارث، بل تجاهلناه، وكأن شيئا من هذا الضوء لم يصل الينا، رغم انه طرق ابوابنا بلغاتٍ متعددة.

لقد مثلث الكتابة اليونانية التزاما بالعقل، وتميزت بفضول عميق تجاه الكون، وبحث دائم عن الحقيقة. ولم يتوقف إبداعهم عند الفلسفة، بل امتد إلى الادب: الشعر، القصة، المأساة، والكوميديا. وكان تاثيرهم على الوعي البشري شاملًا وعميقًا، ولا يزال حيا حتى الآن، بطريقة لم ولن يحققها اي شعب آخر.

اما الرومان، فقد واصل كتابهم ما بدأه الاغريق. لم تكن لهم بصمة فلسفية مستقلة بذات العمق، بقدر ما التزموا بالعقلانية اليونانية. كتّاب مثل شيشرون وسينيكا يجسدون هذا التيار. لكن في العصر الروماني حدث ما يمكن وصفه بأول نكبة كبرى للعقل البشري، مع صعود المسيحية كديانة غيبية بديلة للعقلانية الكلاسيكية.

في الصين، شكلت كتابات موتزو وكونفوشيوس، ثم ماو لاحقًا، تيارا فكريًا محوره الإنسان. قدم هؤلاء مساهمات اخلاقية عظيمة، لكنهم وقعوا ، كما فعلت معظم الثقافات القديمة ، في المزج بين العقلاني والميتافيزيقي، او ذلك الايحاء بأن هناك ما يتجاوز الواقع المادي. إلى ان جاء ماو، فقام بقطع حاسم، وأعاد الفلسفة الصينية نحو العقلانية الكاملة.

اما الهنود، فبالرغم من براعتهم في الرياضيات، لم تكن لهم مساهمات عقلانية متماسكة. جل ما قدموه (تقريبا ) يتمثل في الكتب الفيدية الاربعة، وهي كتب دينية لا عقلانية في جوهرها. ولهذا السبب، ربما، غرقت الهند في الظلام والضعف لقرون، مقارنة بالشعوب الأخرى.

الفرس، في المقابل، كان تاريخهم في معظمه شفهيا، لا كتابيا. ولهذا لا يبدو انهم خلفوا ارثا فلسفيا مكتوبا ذا اهمية كبرى في تاريخ العقل، على الاقل برأيي.

اما العرب، فقد كانت اهم الكتابات العقلانية عندهم امتدادا مباشرا للسلف اليوناني، لكنها حوربت بقسوة. كفر اغلب الكتاب، واتهموا بالزندقة، وقتل بعضهم، وحرقت كتبهم. خنقت الروح العقلانية في مهدها، وما زال اثر هذا الخنق حاضرا إلى اليوم. ورغم ابن رشد، بل ربما بسببه، تجاهلنا هذا الارث وتبرأنا منه، في حين التفتت إليه اوروبا، واعتبرته جسرا نحو الحداثة. لقد اخفينا مفتاحا كان في يدنا، واغلقنا عليه الباب بإرادتنا.

وكما نلاحظ، فإن مهمة الكاتب كانت دائما تتغير من عصر إلى عصر، ومن حضارة الى حضارة.

لكن ما هي مهمة الكاتب اليوم؟

ان مهمة الكاتب اليوم، ببساطة، هي تعزيز العقلانية العلمانية، وترسيخ الأفكار الحداثية والتنويري، لا كترف نخبوي، بل كفعل مقاومة في وجه الانهيار؛ لان البديل هو العودة إلى ظلام نعرفه جيدا، ولا عذر لنا فيه بعد الآن.
هي مواصلة مشروع الكتاب الغريق، والفلاسفة العقلانيين العرب، والصينيين، والرومان.
إن مهمته ان يركز، ويحفز، ويدافع عن هذه الغاية فقط ، باعتبارها خط الدفاع الاخير ضد الانهيار المعرفي والارتكاس الغيبي.