نتائج عبثية الحكومة السورية الانتقالية وتحول مواقف الدول الكبرى

د. محمود عباس

العلاقة بين كونفرانس الحسكة و”حوارات باريس” ليست تفصيلًا عابرًا في المشهد السوري، بل هي خيط جدلي متين يرسم ملامح مرحلة سياسية جديدة كان يمكن أن تضع سوريا على طريق إقامة سلطة لا مركزية سياسية عصرية، تُبعدها عن شبح التقسيم والتدخلات الإقليمية، وتفتح أبواب النهوض أمام جميع المكونات لتكون سوريا وطنًا للجميع، هذه خطوة وطنية بامتياز، أدركت تركيا أبعادها جيدًا، ولم تتأخر في الانقضاض عليها وهي في مهدها.

فبمجرد تبلور مخرجات كونفرانس الحسكة، والتي لا يُستبعد أنها عقدت بضوء أخضر فرنسي وأمريكي، أرسلت أنقرة وزير خارجيتها هاكان فيدان بخطوة متسارعة، فارضة ليس فقط تأجيل حوارات باريس، بل إلغاءها. ولم تكتفِ بذلك، بل جنّدت شخصيات من الحكومة السورية الانتقالية، وحتى من أروقة الحكومة الرسمية، للتحريض على تصعيد الخطاب العنصري، ونشر الكراهية بين شرائح من التكفيريين وفلول داعش وأيتام البعث، مستهدفة الشعب الكوردي، والطعن في الحراك الكوردي وقوى الإدارة الذاتية، وتشويه صورة الكونفرانس الوطني تحت ذرائع واهية، والغاية واضحة، الانتقاص من الرسالة الوطنية القوية التي كشف بها كونفرانس الحسكة هشاشة “المؤتمر الوطني السوري” الذي انعقد في دمشق، وتعريته أمام الداخل والخارج.

ولمزيد من التشويه، كثّفت هذه الأطراف حملاتها الإعلامية ضد الكورد ونشاطات الإدارة الذاتية الوطنية، بالتوازي مع محاولات عسكرية محدودة، تجنبت فيها المواجهة الواسعة كما فعلت في الساحل والسويداء، ليس درءً لحرب أهلية، بل رهبة من مواجهة قوات قسد وهي تعني مواجهة المصالح الأمريكية.

 سوريا اليوم تقف على مفترق طريق حاسم، بين اتجاهين متناقضين يُدرسان في كواليس دمشق، ليس من قبل الحكومة الانتقالية فحسب، بل من وفود القوى الإقليمية، وفي مقدمتهم تركيا التي تركز على البعدين السياسي والعسكري، فيما تتحرك السعودية ومعها بعض دول الخليج في البعد الاقتصادي والإيديولوجي، خاصة نحو الوهابية، بهدفين رئيسيين، الحد من التمدد العثماني التركي في سوريا بوصفها بوابة للعالمين العربي والإسلامي، والحد من احتمال عودة أدوات إيران إلى الداخل السوري عبر البوابة العراقي، ومن الغرابة أن الإعلام السعودي بدأت تدعم الحكومة السورية الانتقالية على حساب الوطنية الكوردية، وهذه تصب في مصلحة وطموحات تركيا.

علماً، إن ما أقدمت عليه حكومة الإدارة الذاتية في غربي كوردستان هو محاولة استراتيجية جريئة لإنقاذ سوريا من براثن تركيا وإيران، وتهيئة الأرضية للاستثمارات العربية والدولية لإعادة البناء، ولأجل ذلك جاء مؤتمر وحدة الشعوب في مدينة الحسكة بتاريخ 8/8/2025 ليُظهر للعالم وجه سوريا السلمي الطامح للتنمية والاستقرار، وليطرح مشروع بناء سوريا على أساس لا مركزي وفيدرالي، بإعادة هيكلة البلاد إلى أربع أو خمس مناطق، بما يتيح بيئة ملائمة للاستثمار والتعامل المشترك مع إدارات دمشق والمناطق الأخرى.

لكن هذه المساعي تحتاج إلى زمن وصبر، خاصة بعد أن كشفت المنظمات التكفيرية، المرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بهيئة تحرير الشام أو الخاضعة لقيادتها، عن وجهها الإرهابي القاتم أمام العالم، وأرعبت الشركات الكبرى من دخول سوريا. فمعظم ما يُقال عن عقود الاستثمار ليس أكثر من دعاية إعلامية، حتى ما عرضته شركات خليجية لا يزال قيد البحث، فيما تتحرك جميع الفصائل العابثة التي أجرمت في الساحل ضد الموحدين الدروز، أو تلك التي غُلّفت بغطاء العشائر، بأوامر تركية وتخطيط منها، فمن خلال تحركاتها الدبلوماسية تتبين أنها هي الطرف الأعمق تورطًا في كل الجرائم التي وقعت وتحدث في سوريا، لأنه بمقدورها إيقافها بجملة أو إشارة واحدة.

كما تتحكم تركيا في علاقات الحكومة السورية الانتقالية مع الخارج، ومن بينها إدارتها لخيوط حوارات باريس، إذ سبق أن أخّرتها ثم ألغتها الآن، لتمنع أي بُعد وطني جامع لمكونات سوريا، وبالتوازي، تصعّد خطاب الكراهية بوتيرة مرعبة في الوسط السوري، وتدفع باتجاه صدام مكونات الشعب، مستهدفة الكورد وحراكهم الوطني بشكل خاص.

ومن المتوقع أن الإملاءات التركية هذه، وتجاوزها لمصالح الولايات المتحدة، لن تمر دون تبعات، إذ من المرجح أن تؤدي إلى تصعيد مباشر بين أنقرة من جهة، وباريس وواشنطن من جهة أخرى، خاصة إذا استمرت تركيا في فرض رؤيتها على مسار الحل السوري على حساب التفاهمات الدولية، ولا يُستبعد أن تنسف هذه السياسة التركية ما تبقى من محاولات المبعوث الأمريكي (توم باراك) إلى سوريا، وتُفشل جهوده بالتوافق مع المصالح التركية في المنطقة، مما يزيد من تعقيد المشهد ويدفع الأزمة السورية إلى مزيد من الانسداد السياسي.

إن هذه السياسة، التي تُدار بإملاءات القوى الإقليمية على الحكومة السورية الحالية، لن تكون قادرة على إنقاذ سوريا من التفتت والانهيار. فبدون نظام فيدرالي لا مركزي حقيقي، سيبقى مصير البلاد معلقًا على شفا التفكك، وقد تمحى ملامحها ليس فقط من الخرائط، بل من الذاكرة أيضًا.

الولايات المتحدة الأمريكية

9/8/2025م

Scroll to Top