كفاح الزهاوي
في ركن الحجرة حيث هناك كان قابعًا بلا حراك كشبح يختبئ في الظلال، مركزًا على نقطة غير مرئية، يحدق بعينين ثاقبتين خاويتين من الأحاسيس.
منذ نعومة أظفاره قد أُرسيَّت على مرافئ فكره يقينًا، بأن عجلة الوقت توقفت عند ذلك الحين. تساوره مشاعر مبهمة، وكأنه يرى سرابًا ينتظر بهدوء ليعاكسه في الجهة الأخرى، يمارس لُعْبَة الموت.
ينهمك في تحديد زاوية رؤيته نحو تلك النقطة، التي تبدو كصورة مشوشة ترسل ذبذبات مترددة تفضي إلى حالة الانكسار والتلاشي. ومع ذلك لا يعتريه الشك ولكن عامل الخوف يرافقه كظله. فهو يرمق تلك النقطة دون غيرها. الغرفة معتمة وليست كبيرة. إنه يشعر بالحصار المحيط به، على الرغم من انعدام علامة تشير إلى حالة حصار قائمة. كلّما يشعر به ويتحسس بوجوده هو ظنونًا وأوهامًابعيدة عن نطاق العقل.
على أرضية الحجرة العارية فرش في وسطها رداء أسود فحيم، ما زاد من كثافة خناقها.
عيناه ما زالتا مفتوحتين مثبتتين لا حركة فيهما البتة ويوحي ذلك المشهد- وكأن فنان يمارس مهنة النحت في صقل الحدث كالحقيقة – مسدّدتان على شاشة وهمية. تبث منها أصوات مُتلفةً لخلايا الدماغ ومهدئة للنفس:
- لا تفكر كثيرًا، لا تجهد عقلك، فأنت فانٍ لا محال، فطريقك سراج منير.
تلك الكلمات المشجعة التي تحمل في جوهرها رسائل محبطة، كانت كدوامات مياه البحر تغرق قارب الوعي وتحبس الأنفاس وتجنب رؤية الضوء الساطع تحت سماء صافية، فيغوص في العمق كائنًا معدومًا.
يقاوم بشدة عالم النزوات، ولكن الرغبة العميقة في امتصاص تلك النزوات، لم يكن بوسعه الاستسلام تمامًا أمامها. فالشهوات ومغريات العصر أشد ثقلًا وتأثيرًا من وزن المقاومة.
ينظر إلى الأشياء بعيون الحيرةوالإرباك، وكأنه يبحث عن مكونات الهواء التي تهيم في الضباب، عن معانٍ لا يجد سرهاسبيلًا في حلها، ملامح قاسية تتطلب الغور في عمق طياتها والكشف عن معالمها الواسعة، بعد أن ظلت ساكنة كصخرة منسية لآلاف السنين في أعماق بحر التوارث.
انتابه شعور بأن الحائط يتقوس والزوايا تتقارب وبضغط مجهول الدفع يثقل ظهره. ظل رأسه منتصبًا متطلعًا إلى الأمام. يتخيل النافذة المفتوحة طريقًا يؤدي إلى عالم غامض، عالم غير محسوس لا نهاية له. يسمع صوتًا قادمًا من النافذة، لا يشبه أي صوت، يدوي في أجواء الحجرة، كموجات في وَسَط الهواء تحمل جزيئات مخدرة.
يستنشق رائحة ثقيلة خانقة تفوح من مكان ما مجهول لا يعرف حقيقة مصدرها، فهو ليس مؤهلًا لمعرفة ذلك. ينساب في ذهنه شعوراً كمن يعيش حلمًا رهيبًا مفزعًا، وَسَط فوضى عارمة ينداح صداها من أتون الزمن السحيق، زمن يلاحقه رغمًا عنه دون أن يدرك الأسباب الحقيقية الكامنة من وراء ذلك.
راحت الأسئلة تنهمر عليه كمطر الصيف:
- لماذا لا يشبه أحلامي؟ لماذا يتصادم مع طموحاتي؟ أليس من حقي الفوز برغباتي؟ لماذا لا يميز الأشياء بوضوح؟ لماذا يعتقد أنه يمضي نحو آفاق صحيحة لا يقبل الخطأ، وكل ما يراه هو مطلق؟ لماذا لا يعترف بأنه في أزمة خانقة؟
كانت الأسئلة تتبدد كرماد الورق في مهب الريح، دون أن يكلف نفسه جهدًا إضافيًا كي يحرك عقله الخامد للبحث عن الأجوبة.
وهناك أسئلة أخرى يخشى البوح بها أو يرخي الأذن لسماعها. منذ أن فتح عينيه على الحياة، وهو يخزن في دهاليز مخه ذات الأفكار والنصوص التي تضفي عليها ألوان القدسية، تُفَسَرُ بطرق مختلفة تخالف منطق العقل. يرى نفسه في نهاية القافلة ويخال له أنه المنتصر لأنه يستطيع أن يخدع ذاته وأن يقطع الطريق المعاكس ويرمي بسنارته المحمولة برواسب الزمن العتيق عبر أجياله وتستمر لمسافات بعيدة وكأن الزمن القديم يعيش معنا. وبسبب هذا الفراغ الكبير في دورة حياته، لا يشعر إلا بالخوف القادم من المجهول الوهمي. الصوت المُفتَعل يتردد صداه في أذنيه كزئير الموج في لحظة الهياج.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=30943