د. عبد الإله المصطفى – باحث في مركز الفرات للدراسات
تسير الأحداث بشكل متسارع نحو محاولة تطبيع العلاقات بين سوريا وتركيا وإعادتها إلى سيرتها ما قبل الأزمة السورية، وتتوالى الأنباء حول قرب عقد قمة بين الرئيسين بشار الأسد ورجب طيب أردوغان بعد عدة إشارات إعلامية إلى وجود لقاءات تركية- سورية على مستوى اللجان للتحضير والتمهيد للقاء الرئيسين.
بعد أن اختلفت الآراء حول إمكانية حدوث هذا اللقاء، في ضوء البرود الذي أبدته سوريا حيال الاستجداء التركي والرغبة الشديدة لرجب طيب أردوغان في لقاء الأسد، ومع بعض الليونة التي أبدتها دمشق من خلال تخفيف “الشروط” إلى “مطالب”، فقد ظهرت مؤشرات جديدة تدفع إلى الاعتقاد بقرب حدوث هذا اللقاء، ومنها الزيارة المفاجئة التي قام بها الأسد لموسكو في الثلث الأخير من الشهر الماضي، وكان أبرز ما طفى على السطح من تفاصيل هذه الزيارة هو إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إقبال المنطقة على مرحلة تصعيد قد تتأثّر سوريا بها، وقد صدق إلى حد كبير، وكان التصعيد سريعاً جداً وفاق كل التوقعات، فمن حادثة “مجدل شمس” إلى اغتيال قادة حزب الله -فؤاد شكر- وحركة حماس -إسماعيل هنية- لذا باتت المنطقة الآن على صفيح ساخن، وتقترب أكثر من أيّ وقت مضى، من نشوب حرب إقليميّة ليس مستبعداً أن تكون سوريا جزءاً منها. وعليه، فإن المخاطر الإقليمية التي أشار إليها بوتين وحذّر منها قد تدفع بتسريع الخطى نحو عقد هذا اللقاء في شهر آب الجاري، التوقيت الذي ألمح إليه وزير الخارجية التركي.
كثرت الرؤى والتنظيرات حول دوافع الطرفين للتقارب، ولم يعد هذا الأمر الآن محوراً مهمّاً في النقاش، وباتت القضية الأهم هي التساؤل عن كيفية معالجة كل تلك الملفات العالقة والشائكة بين الطرفين فيما إذا تم اللقاء، وما إذا كان هذا التطبيع سيؤدي إلى حلّ الأزمة السورية؟
من الصعب جداً التكهن بمسار المفاوضات السورية-التركية وحيثياتها ونتائجها، ولكن بمحاولة للنظر في أهم الملفات التي تشغل الفريقين، يمكن فرز بعض القضايا وطرحها للنقاش، فتركيا تعاني من أزمة اللاجئين السوريين وما ينبثق عنها من مشاكل اجتماعية وسياسية واقتصادية في تركيا، فضلاً عن خوفها الأكبر من تحول مناطق الإدارة الذاتية إلى أمر واقع وكيان معترف به، ودخولها بشكل رسمي في مسارات حل الأزمة السورية. في حين أنّ مخاوف سوريا تتمثل في استدامة الاحتلال التركي لأراضيها، إلى جانب تقديم أنقرة الدعم السياسي واللوجستي للمعارضة السورية والفصائل المسلحة، ومخاوفها أيضاً من تحول الإدارة الذاتية إلى أمر واقع بالتقادم، فضلاً عن تفاقم مشاكلها الاقتصادية إلى حد كبير.
ليس من المفترض أنْ يناقش الرئيسان هذه الملفات بشكل مباشر في القمة التي ستنعقد بينهما، بل سيكون اللقاء نتيجة للاتفاقات التي ستتوصل إليها اللجان المختصة التي يُعتقد بأنها تعمل على قدم وساق في مناقشة ومعالجة الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية.
سيتعين على هذه اللجان البحث في اتجاهين؛ الأول هو البحث في مخاوف الجانبين والمخاطر المحدقة المشتركة والبحث عن الحلول الممكنة لها، والثاني هو حجم التنازلات التي سيقدمها كل طرف لإنجاح هذه المفاوضات وصولاً إلى تطبيع العلاقات.
يركن في الاتجاه الأول العديد من الملفات من أبرزها:
الأوضاع الاقتصادية المتردّية التي يعاني منها الطرفان، وضرورة التعاون لفكّ الحصار الذي فرضه طوق العقوبات الدولية وإيجاد حلول مشتركة من خلال فتح المعابر الدولية وتنشيط الحركة المرورية والتجارية خلالها.
تحديث قائمة الإرهاب بالنسبة للطرفين، وضرورة الاتفاق على وضع قائمة مشتركة، وفيه سيتم تحديد الجهات الإرهابية وتسميتها ووضعها في “الترتيب المناسب” في هذه القائمة.
مناقشة أوضاع المناطق التي تخضع للفصائل المسلّحة وفرزها إلى مناطق خاضعة للإرهابين، وأخرى للفصائل المعتدلة، مع الاعتقاد بعدم وجود صعوبة كبيرة في معالجتها لأنّ الفصائل المسلحة (الإرهابية والمعتدلة) هي رهن إشارة تركيا، والمشكلة الوحيدة والحقيقية التي ستواجه الطرفين تكمن فقط في الرفض الشعبي لهذا التطبيع وهذا التقارب. وكل ما سبق سيتم مقابل عمليات مصالحة واسعة بضمانات محدّدة ربما، أو المساومة في “إحياء” العملية السياسية.
أما الملف الأهمّ في هذا الركن، والذي يرتبط بشكل ما بالمشكلة السابقة، هو نمو وتطور الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا التي يرى فيها الجانبان التركي والسوري مشكلة مزدوجة؛ الأولى سياسية تتعلق بالوجود الكردي الذي بات حقيقة طالما أخفاها الطرفان وحارباها بكل ما أوتيا من قوة، والثانية اقتصادية تتعلق بكون مناطق الإدارة خزائن غنية للنفط والحبوب، إلى جانب وجود معابر دولية مهمة، ووقوفها حجر عثرة ربما أمام مشروع “طريق التنمية” التركي الذي قد تسعى أنقرة إلى رشوة دمشق للاشتراك فيه من خلال الربط بين الموصل ونصيبين بشكل مباشر مروراً بأراضي شمال وشرق سوريا.
إنّ معالجة الملفات سابقة الذكر تدفع باتجاه واحد، وهو محاربة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية عن طريق دفع الفصائل المسلحة إلى الاعتقاد بضرورة محاربة “الانفصاليين” جنباً إلى جنب مع قوات النظام السوري، وهو ما أشار إليه وزير خارجية تركيا في أوقاتٍ سابقة، بل إنّ الأمر يبدو كأنه كان مُعدّاً له منذ “شحن” هذه الفصائل (بالباصات الخضر) من خطوط المواجهة الداخلية مع النظام باتجاه الشمال السوري.
ولكنْ، ليس الأمر بهذه السهولة؛ إذ إنّ ملفاتٍ كثيرةً ستظل عالقة وستقف عائقاً أمام المضي نحو هذا الاحتمال، ومنها مصير اللاجئين (داخلياً وخارجياً)، والمفقودين والغائبين، والمعتقلين، وعمق الشرخ الاجتماعي الناتج عن الأزمة السورية وذكريات القتل المتبادلة والمؤلمة ورغبات الثأر والانتقام؛ فضلاً عن اتساع الشرخ المذهبي بين طرفي النزاع الداخلي في سوريا.
فيما يتعلق بالاتجاه الثاني في المباحثات السورية- التركية، أي حجم التنازلات التي سيقدمها كل طرف، فمن البديهي أنّ الطرف الأكثر إلحاحاً في تحقيق التطبيع والتقارب هو الأكثر استعداداً لتقديم التنازلات، وبشكل أكبر، وهو الجانب التركي بالطبع، الأمر الذي يعكس الحاجة الملحّة لتركيا، وربما لأردوغان بشكل خاص، إلى عودة تلك العلاقات، وهي ضرورات اقتصادية وانتخابية وما شابه. وفي الجهة المقابلة كانت الرّدود الباردة لدمشق واضحة في التعامل مع استجداءات أردوغان الداعية للعودة إلى العلاقات الدافئة، الرسمية والعائلية.
إذاً، ما هي هذه التنازلات، وما حجمها؟
في الحقيقة، تمتلك تركيا ورقتي ضغط ستساوم عليهما في لعبة التنازلات؛ الأولى احتلالها للأراضي السورية والتنازل بالانسحاب منها مقابل بعض الخطوات من الطرف السوري، والثانية دعم ومساندة المعارضة السورية السياسية والعسكرية، وإمكانية وقف هذا الدعم مقابل خطوات سورية أخرى، برغم محاولات أنقرة تخفيف الصدمة على المعارضة السورية الموالية لها.
أمّا في الجانب السوري، وبعد تحويل الشروط إلى مطالب، تبقى ورقة الضغط الوحيدة لدمشق في مجابهة تركيا هي المحافظة على العلاقات الرّاكدة مع الإدارة الذاتية، وإمكانية التحوّل والقبول بمجابهة قوات سوريا الديمقراطية فيما لو بات التنازل ملحّاً بالنسبة لها في هذا الاتجاه.
هل هذا ما هو عليه الأمر فقط؟
بالطبع لا.. فثمّة الكثير من القضايا الهامة جداً فيما يخص الوضع العام في سوريا وأزمتها، وفيما يتعلق بتنفيذ التقارب والتطبيع السوري- التركي فيما لو تم الاتفاق فعلاً بين الطرفين، وعلى رأسها دور المجتمع الدولي ومؤسساته الرسمية والقرارات الدولية الصادرة عنها؛ فضلاً عن التحالف الدولي ضد داعش بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى التوافق بين مصالح القوى العظمى الغربية ونتائج هذا التطبيع؛ لاسيّما في خضم إقبال الشرق الأوسط على مخاطر نشوب حرب إقليمية من شأنها تهديد كيانات الدول القائمة الآن.
على الرغم من المواقف الدولية، ورغم الخصومة الشديدة، قد يلتقي الرجلان ويتصافحان وربما يتعانقان، وقد يتم التطبيع والتقارب على أكمل وجه، ولكن الاعتقاد الطاغي في هذه الحالة أنّ اللقاء سيكون مجرد نسخة جديدة من لقاءات “آستانه” العديدة، ولكن على مستوى القمّة هذه المرّة، وفقط. والجدير بالذكر أنّ لقاءات “آستانه”، التي تجاوزت العشرين لقاءً، لم تحرز أيّ تقدم حقيقي في حلّ الأزمة السورية، وكانت معظم تلك اللقاءات تدعو إلى ضرورة عودة العلاقات بين سوريا وتركيا، وضرورة الحفاظ على استقلال ووحدة أراضي سوريا وسيادتها، والعودة الآمنة للّاجئين، وإحياء العملية السياسية، والدعوة المباشرة إلى ضرورة رفض أي شكل من أشكال الحكم الذاتي ومحاربة “المساعي الانفصالية” في إشارة إلى الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية.
إنّ السّر في فشل لقاءات “آستانه” العديدة أو عدم إحرازها أي تقدم يذكر، يكمن في التغاضي أو التّعامي عن أنّ الأزمة السورية خرجت عن كونها مجرد أزمة محلية أو إقليمية، وبأنها باتت مسألة دولية، وعليه فإن محاولات البحث عن الحلول بمعزل عن القوى الدولية الأخرى الفاعلة في الأزمة السورية سيكون مصيرها الفشل، وليس من المستبعد أنْ يكون مصير هذا التقارب الجديد مشابهاً لمصير لقاءات “آستانه”، وللسبب نفسه. فقد كانت “آستانه” عبارة عن تكتلٍ جمعَ الفرقاء والمتخاصمين في محاولة للبحث عن الحلول بمعزل عن القوى الغربية أو أنها كانت تكتلاً غير متّسق الأعضاء في وجه هذه القوى. ومسار التطبيع الحالي لا يحيد، على ما يبدو، عن مسارات “آستانه” في تجاهل القوى الدولية الفاعلة، والمناهضة بمعظمها لهذا التطبيع.
إذاً؛ يجدر بأنقرة ودمشق البحث عن التوافق الدولي العام وفق القرار 2245 للتوصل إلى الحلّ النهائي لأزماتهما، السياسية والاقتصادية، وليس بمعزل عنه.
المصدر: مركز الفرات للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=48101