إبراهيم كابان
منذ أن برز اسم أحمد الشرع كـ “رئيس مؤقت للمناطق العربية السنية” في المشهد السوري المعقد، سعى الرجل لإيجاد موقع متوازن بين القوى المحلية والإقليمية، محاولاً أن يمنح لنفسه شرعية موازية لتلك التي تمتلكها أطراف أخرى في الجغرافيا السورية. لكن مع مرور الوقت، باتت الصورة أوضح: المعضلة الكوردية، بما تحمله من خصوصية تاريخية وسياسية، لم تعد مسألة يمكن تجاوزها بالخطابات الإنشائية أو التهديدات التقليدية. بل أصبحت، في ظل التحولات الإقليمية والدولية، بوابة إلزامية لأي مشروع حكم أو تسوية في سوريا.
قامشلو: من مدينة حدودية إلى “عاصمة التوازنات”
قليلون كانوا يتوقعون أن تتحول مدينة قامشلو، الواقعة على تخوم الحدود التركية والعراقية، إلى مركز ثقل سياسي بهذا الحجم. فهي ليست مجرد مدينة كوردية كبرى، بل باتت رمزاً للخصوصية الكوردية ومرجعية إدارية وسياسية لما يُعرف بـ “إقليم روجافا”. ومع ازدياد تماسك الإدارة الذاتية، وتعدد قنوات تواصلها مع القوى الدولية والإقليمية، أصبحت قامشلو فعلياً “العاصمة الثانية” لسوريا – العاصمة التي تعكس خطاباً مغايراً لدمشق، وتطرح معادلات جديدة للحكم والإدارة.
بالنسبة لأحمد الشرع، فإن أي محاولة لبناء سلطة حقيقية في “المناطق العربية السنية” ستصطدم بجدار هذه الحقيقة: لا يمكن رسم مستقبلٍ سياسي في سوريا من دون الاعتراف بقامشلو، لا بوصفها مدينة فحسب، بل كعاصمة سياسية لكيان يتبلور أمام أعين الجميع.
المعضلة الكوردية: بين التهديد والتسوية
لطالما اعتمدت الأنظمة السورية المتعاقبة على أسلوب “الترويض الأمني” تجاه الكورد، عبر سياسات التهميش أو التهديد أو الوعد الفارغ بالإصلاح. لكن التجربة أثبتت أن هذه الأدوات لم تعد مجدية. الشرع نفسه، مهما حاول أن يكرر خطاب “المركزية الصارمة”، سيدرك عاجلاً أو آجلاً أن الاعتراف بالمناطق الكوردية ليس خياراً سياسياً، بل شرطاً لبقاء أي سلطة مستقبلية.
المعضلة الكوردية اليوم لا تختزل فقط في البعد الإثني أو الثقافي، بل تتداخل مع موازين القوى الإقليمية والدولية. فالكورد يمتلكون ثقلاً عسكرياً (قوات سوريا الديمقراطية)، وشرعية إدارية (الإدارة الذاتية)، وشبكة علاقات دولية (واشنطن، موسكو، وأوروبا). تجاهل كل ذلك لن يكون سوى وصفة للفشل.
الاعتراف بالمناطق الكوردية: من المصطلح إلى الممارسة
المصطلحات ليست مجرد تفاصيل لغوية. في الحالة السورية، فإن مجرد استخدام تعبير “المناطق الكوردية” يحمل اعترافاً ضمنياً بخصوصية قومية وسياسية لطالما جرى إنكارها. الشرع – أو أي مشروع بديل في المناطق العربية السنية – لا يستطيع أن يتهرب من هذه الحقيقة. بل إن تبني هذا الاعتراف يشكل مدخلاً لبناء الثقة بين الكورد والعرب السنة، ويفتح الباب أمام تفاهمات أوسع حول إدارة مشتركة للمناطق السورية.
الدور التركي: توافق غير معلن
بعكس ما يظهر في الإعلام من شد وجذب بين أنقرة والقوى الكوردية، هناك مؤشرات متزايدة على أن الأتراك باتوا أكثر براغماتية في مقاربتهم للقضية الكوردية السورية. صحيح أن أنقرة لا تزال تخشى من أي مشروع كوردستاني عابر للحدود، لكن مصالحها الاستراتيجية تدفعها إلى البحث عن صيغة “توازن” تحفظ حدودها وتمنع الفوضى.
التوافق التركي – الكوردي، ولو بصيغته الأولية وغير المعلنة، يُعتبر عاملاً حاسماً في المرحلة المقبلة. وإذا ما أحسن الشرع قراءة هذا الواقع، سيدرك أن انفتاحه على الكورد قد لا يصطدم بالضرورة بمصالح أنقرة، بل ربما يجد دعماً غير مباشر منها، في إطار إعادة هندسة التوازنات الإقليمية.
5. الاتفاقات تحت الطاولة: الوجه الآخر للسياسة السورية
من يتابع الخطاب العلني في الإعلام قد يظن أن التوتر هو السمة الأساسية للعلاقة بين الأطراف السورية والإقليمية. لكن الحقيقة أن “المطبخ السياسي” يعج بالحوارات السرية والتفاهمات الجزئية التي لا تصل إلى العلن إلا بعد أن تنضج تماماً.
الكورد، عبر قامشلو، جزء أساسي من هذه اللعبة. دمشق نفسها تدرك أن الطريق إلى الاستقرار يمر عبر حوار مع قامشلو، والشرع ليس استثناءً. وما يقال سراً في الكواليس عن “تفاهمات أولية” بين بعض الشخصيات العربية السنية والقوى الكوردية، يعكس حقيقة أن السياسة السورية تتحرك في اتجاهات مغايرة لما يُعرض أمام الكاميرات.
قامشلو ودمشق: العاصمتان الحاسمتان
لا يمكن لأي مشروع حكم في سوريا أن يكتمل من دون حوار جدي بين دمشق وقامشلو. هذا الحوار، حتى لو بدأ بطيئاً أو محكوماً بالشكوك، يشكل الأساس لأي تسوية وطنية. فدمشق تمثل المركز التقليدي للدولة السورية، وقامشلو تمثل المركز الناشئ للكيان الكوردي. الجمع بينهما هو الشرط الوحيد للخروج من دوامة الحرب والانقسام.
أحمد الشرع، إذا أراد أن يتحول من “رئيس مؤقت” إلى لاعب مؤثر، عليه أن يستوعب هذه المعادلة: لا يكفي أن يطرح نفسه ممثلاً للمناطق العربية السنية، بل يجب أن يثبت أنه قادر على بناء جسور مع الكورد. حينها فقط يمكن أن يتحول مشروعه من مجرد “إدارة محلية” إلى عنصر من عناصر الحل السوري الشامل.
المحصلة:
إن استمرار أحمد الشرع في مشروعه السياسي مرهون بمدى قدرته على إدراك حقيقة أن “المعضلة الكوردية” ليست ملفاً ثانوياً، بل هي حجر الأساس لأي تسوية سورية. التهديدات والوعيد لن تصنع حلاً، بينما الحوار والتوافق والاعتراف بالخصوصية الكوردية يمكن أن يفتح الأفق نحو مرحلة جديدة.
بوابة الحل ليست في دمشق وحدها، ولا في أنقرة أو الرياض أو واشنطن. بل هي هناك، في قامشلو – المدينة التي تحولت إلى عاصمة التوازنات السورية، وإلى نقطة انطلاق لأي مشروع وطني شامل. ومن لم يفهم هذه الحقيقة، لن يكون له مكان في سوريا المستقبل.
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=75824