د. محمود عباس
لست بصدد الخوض في دوافع انعقاد الحوارات في باريس، ولا في المسرح الخلفي الذي دفع بالأطراف المختلفة إلى طاولات التفاوض. ما يعنيني هنا هو الأهم، بل الأخطر، لماذا لم تبدأ الحوارات حتى الآن، رغم مرور أيام على وصول الوفود إلى باريس؟
الإجابة لا تتعلق بجدول المواعيد، بل بجوهر الإهانة السياسية والدبلوماسية التي تكشّفت منذ اللحظة الأولى لوصول وفد الإدارة الذاتية، برئاسة السيدة (فوزة يوسف) إلى دمشق، فقد قوبل الوفد بتعامل فظ، واستقبال بارد، وتجاهل متعمّد، يكشف عن ذهنية ذكورية متعالية لا تزال تنظر إلى المرأة، حتى عندما تتقدّم الصفوف في موقع القرار السياسي، كجسم غريب عن ساحة السلطة، وكأننا ما زلنا نعيش في زمن ما قبل الدولة.
وما هو أخطر من الشكل، هو المضمون ذاته، الشروط فُرضت بلهجة استعلائية داخل قاعة الحوار في دمشق، والأسلوب خرج عن الأعراف الدبلوماسية، فلم يكن هناك تفاوض بالمعنى الحقيقي، بل أوامر تُملَى، وصيَغ وصاية لا تعترف بالندية أو الشراكة، في مشهد يعكس عقلية تعتبر دمشق عاصمةً لدول الآخرين، لا لسوريا المتعددة، لا يزال أولئك مقتنعين بأنهم ورثة الخلافة الأموية، يتصرفون من موقع السيادة الأحادية والتمثيل المطلق.
والأدهى من ذلك أن وفد “حكومة الجولاني”، أي ما يُعرف بالحكومة السورية المؤقتة، لا يزال يرفض الاعتراف بأي مكوّن سوري خارج منظومة دمشق، متمسكًا بوهم أحادية التمثيل، وكأن سوريا لم تُكسر، ولم تُبع، ولم تُحتل، وكأن جغرافيا الدم والدمار لم تُعد رسم خارطتها بعد.
أما الكارثة الأكبر، فتتجلّى في سلوك المبعوث الأمريكي إلى سوريا، الذي كان من المفترض أن يكون ضامنًا للتوازن لا شاهدًا على الانحياز. لكنه، كلما انعقدت الحوارات في دمشق، بدا وكأنه أحد رعاتها، يكرر وصفات مفروضة، لا تمثّل تطلعات السوريين، بل تخضع لإملاءات تركية، وتتأثر بضغوط خليجية، وتُترجم وكأنها أوامر تمرّر من خلف الستار لا من على طاولة الحوار.
وهنا تبدأ خيوط الفخ بالظهور…
إن توقف الحوارات بين قائد قوات قسد، الجنرال مظلوم عبدي، وممثلة الإدارة الذاتية في الخارج، إلهام أحمد، من جهة، وممثل ما يُعرف بحكومة الجولاني، وزير الخارجية أسعد الشيباني، من جهة أخرى، لا يعود، كما يُروَّج، إلى ضغوط تركية مباشرة على حكومة الجولاني، بحجة أن الحوار مع قسد في باريس سيُعتبر حوارًا بين “دولتين”، بل الحقيقة أعمق وأكثر التباسًا.
الواقع أن تركيا وحكومة الجولاني ترفضان بالكامل شروط الإدارة الذاتية وقائد قوات قسد، والتي طُرحت سابقًا كأساس لأي حوار، وتطالبان بتنازلات واضحة تمس جوهر مشروع الفيدرالية والتمثيل المتوازن للمكونات السورية. وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية، ظلّ الطرف الكوردي متمسكًا بموقفه، مستندًا إلى دعم فرنسي يتّسم بقدر من الاستقلالية السياسية.
لكن خلف الكواليس، ثمة سيناريو أكثر تعقيدًا، إذ يُرجّح أن وفد حكومة الجولاني يتحضّر فعليًا لحوارٍ من نوع آخر، لا مع قسد فقط، بل مع الوفد الإسرائيلي الذي استقدمه المبعوث الأمريكي ذاته، في محاولة لتجميع كافة الأطراف، من حكومة الجولاني، إلى الإدارة الذاتية، إلى ممثلي قوات قسد، إلى وفد يمثل الموحدين الدروز، في ساحة واحدة، يَخلق عبرها حالة من الفوضى التكتيكية المنظمة، تُسهل عليه فرض رؤيته وشروطه على الجميع.
بهذا الترتيب المسرحي، يُفرغ الحوار من مضمونه التفاوضي المتكافئ، ليتحوّل إلى منصة تسيير أمريكية، تُمكّن واشنطن من ضبط الإيقاع السياسي لكل طرف، والتحكم بمفاصل الخلاف، لا بهدف الحل، بل بغرض تثبيت النفوذ، وتقوية من يستجيب لأجنداتها.
وهنا تكمن الخطورة، فكلما تمسكت الإدارة الذاتية وقوات قسد بشروطها السيادية، التي تقوم على الاعتراف بحقوق المكونات وضمان النظام الفيدرالي اللامركزي، كلما صعّبوا على هذا المخطط اختراق موقفهم، أما أي تراجع أو تنازل، فسيُمهّد لهيمنة مشروع الجولاني ومن خلفه، وهو ما سيعيد تطبيع التكفيريين على أنهم جزء من الحل، بدل أن يُنظر إليهم كامتداد مموّه لداعش.
وحينها، لن يكون ما يُعمّر على الأرض من بنى تحتية أو مشاريع اقتصادية كافيًا لإنقاذ سوريا، لأن ما سيُدمَّر هو البنية الثقافية، والوعي الإنساني، والهوية المجتمعية. وهذه أعمدة، إن انهارت، فلا تعاد بكراسي إسمنت ولا بمشاريع استثمار، بل تحتاج إلى عقود طويلة من الألم، والانغلاق، والتخبط في متاهات ما بعد الخراب الفكري.
فالمدة الانتقالية التي فرضتها حكومة الجولاني، والمحددة بخمس سنوات، ليست سوى المهلة الزمنية المطلوبة لتفريغ ما تبقى من وعي، وتجريف ما خلّفه النظام البعثي من خراب، لإعادة توظيفه في نسخته التكفيرية، إنها السنوات الخمس التي يراهنون عليها لطمس المعنى، وتشويه اللغة، وتشريع الجهل تحت لافتات التدين المسلّح. خمس سنوات لا لبناء دولة، بل لهدم الإنسان السوري من الداخل.
وبعد انقضاء هذه المدة، لن تكون سوريا قد دخلت طور التعافي، بل ستكون قد انحدرت إلى عصر ظلمات جديد، لا يُرفع فيه كتاب، ولا يُحترم فيه عقل، وتُغطى المدارس والمراكز الثقافية برداء السواد، وتُنتج مؤسسات الجهل مجتمعًا أعمى، أصمّ، ممسوخ الذهن، ميت الوعي، غارقًا في فتاوى القتل، ومسلوبًا من أي قدرة على النهوض.
ما يبدو كحوار في باريس، قد لا يكون سوى واجهة لبناء معادلات جديدة، تُفرغ النضال من مضمونه، وتُشرعن ما لا يُشرعن. فحين يُستدرج الجميع إلى طاولة واحدة، من قاتل، ومقتول، ومُستهدف، ومن كان شريكًا في دم السوريين، يصبح السؤال ضروريًا، ما هو الثمن؟
نعم، لا يستبعد أن يحمل حوار باريس فخًا مركّبًا:
يُطبّع وجود القوى التكفيرية، ويضغط على المشروع الديمقراطي الكوردي، ويفتح للدول الراعية بابًا واسعًا لفرض حلّ مشوّه، لا يقيم للعدالة وزنًا، بل يُكرّس النفوذ، ويفرض التوازنات على حساب القيم، ويعيد رسم سوريا لا كما يريدها شعبها، بل كما ترتضيها غرف الاستخبارات.
الولايات المتحدة الأمريكية
25/4/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=72781