د. محمود عباس
لم تكن خدعة خفض مستوى اللقاءات بين قيادة قوات سوريا الديمقراطية والحكومة الانتقالية السورية إلى حدود وزير الخارجية أسعد الشيباني، بدلًا من حوار ندّي بين الجنرال مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع، مجرد هفوة بروتوكولية عابرة، بل ظهرت كخطوة مدروسة بدقة في سياق مخطط دبلوماسي خبيث ومقصود.
وحتى وإن جرى اللقاء بين أسعد الشيباني والسيدة إلهام أحمد، بصفتها ممثلة العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية، فقد ظل من الأجدر بالجنرال مظلوم عبدي أن يرفض هذه الصيغة الهزيلة، ليس فقط لأنها تمسّ بمكانته القيادية ورمزيته الوطنية، بل لأنها تنطوي على انتقاص خطير من التمثيل السياسي لقوى خاضت المعركة ضد الإرهاب، وحررت مناطق شاسعة من الجغرافيا السورية، وقدمت آلاف الشهداء دفاعًا عن كرامة المكونات السورية وحريتها.
فوزير الخارجية، إن كان لا بد من الحوار معه، فهو الطرف المقابل لوفد كوردي تنازل سابقًا وسافر إلى دمشق برئاسة السيدة فوزة يوسف، أما قائد عسكري تحوّل إلى رمز تحالفت معه قوى دولية كبرى، فلا ينبغي أن يُستقبل إلا بندّية تليق بتاريخه وموقعه. وإن ارتُئي رفع مستوى اللقاء، فكان الأولى أن يُعقد بشكل مباشر بين الجنرال مظلوم عبدي والرئيس أحمد الشرع ووفده، أو أن يتم على صعيد مؤسسي بين السيدة إلهام أحمد بوصفها مسؤولة العلاقات الخارجية، أو الهيئة الكوردية المنبثقة عن مؤتمر قامشلو، الممثلة للشارع الكوردي وشرعيته السياسية.
ولا يُستبعد أن تكون هذه الصيغة المهينة جزءًا من لعبة إقليمية مزدوجة، جرى حبكها بعناية من قبل المبعوث الأمريكي إلى سوريا، بالتنسيق مع أطراف تخشى صعود الدور الكوردي، وتُخطط مسبقًا لتقويضه عبر مهاجمة أي لقاء أو تقارب، حتى قبل صدور أي نتائج أو تصريحات عنه. وفي مقدمة هذه الأطراف، تبرز تركيا التي لم تتوقف يومًا عن الحفر في الأروقة الدبلوماسية والسياسية لإفشال كل مشروع فيدرالي، وفرض نظام مركزي قمعي يعيد إنتاج الاستبداد بنسخة دينية تكفيرية، ويقضي نهائيًا على حقوق مكونات سوريا، وفي طليعتها الشعب الكوردي.
ورغم هذا المناخ المثقل بالمراوغة، لا تزال الآمال معلّقة على موقف مبدئي وحازم من الجنرال مظلوم عبدي، والسيدة إلهام أحمد، بأن لا يتزحزحا عن الأساس السياسي الذي شكّل محور نضالهما الطويل، الفيدرالية اللامركزية كنموذج للحل، وضمانة لبقاء سوريا موحدة وعادلة، لجميع أبنائها، لا سيما أن الحوار يجري على أرض باريس، الدولة التي كانت وما تزال من أبرز الداعمين لهذا النموذج، وشريكًا استراتيجيًا لقوات سوريا الديمقراطية في الحرب ضد داعش.
وإن كانت فرنسا، عبر المبعوث الأمريكي توماس براك، قد اختارت باريس مسرحًا لهذا اللقاء كإشارة لحسن النية تجاه المكون الكوردي وقيادة قسد، فإن “حسن النية” هذا لا يخلو من الخديعة السياسية، وربما استُخدم كغطاء مؤقت لتمرير تنازلات قبل أن تتفاقم الأصوات المعارضة داخل الأوساط السياسية الأمريكية لاستراتيجية توماس براك، التي وُصفت مؤخرًا بأنها مرتجلة وفاقدة للتماسك، وبدأت تحظى بانتقادات واضحة داخل الكونغرس ووزارة الخارجية.
ولعل هذا التململ الداخلي في واشنطن هو ما دفع بالمبعوث الأمريكي إلى تليين لهجته مع الكورد، مقابل تصعيد واضح في خطابه تجاه حكومة الجولاني، في رسالة غير مباشرة موجهة إلى تركيا والسعودية مفادها أن واشنطن بدأت تعيد النظر في رهاناتها، ولتمرير هذا التبدّل دون إثارة ضجة سياسية، دفعت السعودية بوفد اقتصادي وسياسي ضخم إلى دمشق، في محاولة لطمأنة السلطة السورية، والتأكيد على أن الرياض لا تزال تدعمها في دهاليز السياسة الأمريكية، كرد فعل على تجديد العقوبات الاقتصادية في إطار قانون قيصر، التي فُعّلت مجددًا على خلفية الجرائم المرتكبة ضد المكونين العلوي والدرزي.
هكذا بدا المشهد اليوم وكأنه فصل جديد من مسرحية الخداع السياسي، تتقاطع فيه خطوط التفاوض مع تلاعب الحلفاء، ومراوغات الخصوم، وصمت المتواطئين، في محاولة لإعادة صياغة المشهد السوري وفق مصالح الدول، لا على مقاس نضالات من واجهوا داعش، ودفعوا دماءهم ثمنًا لوحدة الأرض وكرامة الإنسان.
الولايات المتحدة الأمريكية
23/7/2025م
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=72650