وثائق فاتيكانية قديمة حول شخصية كوردية من العمادية “ئاميدى”
ب. د. فرست مرعي
لقد نشـر الأنبا ” شموئيل جميل التلكيفي” (1841 – 1917م)، رئيس الرهبانية الهرمزدية التي مقرها في شرق قصبة القوش(= جبال باعذرى وداسن في المصادر الاسلامية) في كوردستان العراق، كتاباً باللغة الإيطالية، تحت عنوان (العلاقات بين الكرسـي الرسولي والسـريان المشارقة)، وهو يضم قسماً من المراسلات التي كانت تجري بين بطاركة كنيسة المشـرق النسطورية، وبين باباوات الفاتيكان في القرن السابع عشر الميلادي.
ولد عمانوئيل بن شمعون جميل في تلكيف عام 1841م، دخل الرهبنة عام 1866م، أُرسل للدراسة في كلية انتشار الإيمان بروما، واسيم كاهناً هناك عام 1879م، ثم عاد إلى دير السيدة في القوش وفتح فيه مدرسة عام 1880م، لتعليم إخوته الرهبان. استدعاه البطريرك “ايليا الثاني عشرعبّو اليونان ” (1840 – 1894م) وعهد إليه أمر زيارة المسيحيين في المناطق الشمالية النائية (= كردستان الوسطى والشمالية – مناطق عقرة وبارزان وهكاري) وتفقد أحوالهم.
ثم أرسله البطريرك عبد يشوع خياط إلى روما وكيلاً بطريركياً لدى الكرسي الرسولي، ومكث هناك طيلة سبعة أعوام واشتغل كثيراً في إعلاء شأن الكنيسة الكلدانية وفيما بعد .أُنتخب رئيساً عاماً للرهبانية لثلاث فترات متقطعة، الأولى (1881- 1884م) والثانية (1887- 1894م) والثالثة (1900م حتى وفاته عام 1917م)، ودفن في كنيسة دير السيدة. وقد وضع تصانيف ومؤلفات شتى، وشيد داراً للمبتدئين بالاضافة إلى الكثير من التدابير الأخرى.
وفي إحدى تلك المراسلات (العلاقات بين الكرسـي الرسولي والسـريان المشارقة)، عثر على وثائق غاية في الاهمية حول شخصية كوردية يدعى (بطرس جيسـي)، من أهالي العمادية، ومن أبوين مسلمين، اعتنق المسيحية، ودافع بحرارة عن المذهب الكاثوليكي؛ حسب روايته. والغريب أنه يكنى بـ(بطرس جيسي الفارسي) رغم أنه من أهالي العمادية، والعمادية في تلك الحقبة وما قبلها وما بعدها كانت عاصمة لاقدم امارة كوردية حكمت تلك المنطقة لاكثر من خمسة قرون.
ففي السادس من كانون الثاني من العام 1622م، أسس البابا غريغوريوس الخامس عشر( 1445 – 1621م) المجمع المقدس لنشر الإيمان، The College For Propagation of the Faith وأسند إليه مهمة مزدوجة: العمل على إعادة توحيد المسيحيين، ونشر الإيمان بين الوثنيين. كان هذا المجمع لدى نشأته يتألف من 13 كاردينالاً وأسقفين وأمين سر، وقد عقد جلسته الأولى في 14 كانون الثاني في مقر إقامة عميده الأول أنتونيو ساولي. واتُخذ حينها قرار يقضي بتوجيه رسالة إلى السفراء البابويين لإطلاعهم على تأسيس المجمع، وطُلب منهم أن يُرسلوا تقريرًا بشأن الأوضاع الدينية في المناطق التي يخدمون فيها، وأن يقترحوا ما هي الوسائل الممكن اتّباعها من أجل نشر الإيمان. وفي 22 حزيران من العام نفسه أصدر البابا أمرًا يقضي بإنشاء المجمع ويتطرّق فيه إلى واجب الكنيسة في السعي إلى نشر الإيمان المسيحي.
انكب المجمع الجديد على دعم النشاطات الإرسالية للكنيسة في القارتين القديمة والجديدة، وابتعد عن الممارسات التبشيرية القومية التي كانت تقوم بها في تلك الحقبة القوى الاستعمارية الأوروبية. وأُسندت إلى المجمع أيضًا صلاحية اتخاذ القرارات اللازمة من أجل تفعيل عملية نشر الإيمان.
وبعد خمس سنوات أقدم البابا “أوربان الثامن” (1623 – 1644م) على إنشاء المعهد الأورباني لنشر الإيمان)= كلية بروباغندا)، وذلك في عام 1627م، بهدف تقديم التنشئة للكهنة الملتزمين في مجال الرسالة والطباعة، كي يُصدروا وثائق ونصوصًا بلغات عدة موجهة إلى شعوب الأرض كافة.
والحدث الكنسي الأبرز الذي أسس لمرحلة جديدة من عمل الإرساليات التبشيرية في الشرق هو قرار تأسيس مجمع التبشير بالإيمان عام 1622م. ويقول البابا غريغوريوس الخامس عشر في قرار تأسيس ذلك المجمع عبر رسالة إلى الكرادلة: “إن مهمة البابا العليا تشتمل على كل ما يتعلق بموضوع خلاص الأنفس، وفي المرتبة الأولى، الاهتمام بالإيمان الكاثوليكي، لأنه يحب العمل على أمرين: الأول يكون في المحافظة على ذلك الإيمان عند المؤمنين حيث تم حثهم على المحافظة عليه بالتمام حتى بالعقوبات، والثاني يقضي نشره بين غير المؤمنين (المسلمين و اليهود و الوثنيين). فلذلك قررت الكنيسة المقدسة أن تتبع نوعين من التصرف: الأول هو الوسيلة الشرعية كونها أرست حكمة العقيدة المقدسة، والثاني ذو طابع معنوي أو بالأحرى رسولي، إذ يتم إرسال الإرساليات (التبشيرية) المستمر من العمال (رهبان الأخويات) بين الشعوب التي هي في حاجة اليها أكثر من غيرها”.
لقد شكلت سنة 1622م محطة مهمة في دفع الإرساليات التنصيرية نحو الشرق، إلا أن انطلاقة الإرساليات لم تكن في شكل عقبات محدودة متفردة ولوقت معين، بل لإقامة ثابتة وضمن مشروع متكامل. فكان الرهبان (الكبوشيون) أول الواصلين إلى بلاد المشرق وتبعهم الكرمليون والأوغسطينيون والفرنسيسكان واللعازريون وأخيراً الأخوة الوعاظ (الدومنيكان).
وفيما يلي نقرأ في سجل وحوليات تلاميذ (كلية بروبغندا- كلية انتشار الايمان)، في المجلد الأول لمجموعة الوثائق لسنة (1633 – 1753م)، في الورقة (15)، ما يأتي: “إن (بطرس جيسـي الفارسي)، من مدينة (العمادية)، قبل في الكلية (بروبغندا) في (17 آب ـ1647م)، وله من العمر آنذاك ما يقارب (24) سنة (أي أن سنة ولادته حوالي 1623م، حسب الحولية)، وذلك بترشيح من الكاردينال (بربرينو)، وبقرار المجمع في 3 حزيران، من عين السنة، وهو من والدين مسلمين، وادّعى بأنه مدعو من الله أن يأتي إلى (روما)، لكي يصبح مسيحياً، سنة 1641م. وفي 7 أيلول سنة 1642م، عمّده المونسنيور (سكنارولا)، في كنيسة (سيدة الجبال) في (روما)، وكان أشبينه السيد التقي الكونت (جيسـي الفرنسـي)، ابن سفير الملك (فرنسا)، في القسطنطينية”. ينظر: (المطران عمانويل دلي: مبادرات الاتحاد بين بطاركة بابل وروما في القرن السابع عشر، القسم الخامس، مجلة نجم المشرق، العدد 27 في 2001م، ص 349 – 350). ويبدو أن الطالب الكوردي (الأب بطرس جيسـي) قبل في الكلية البابوية بعد عشرين من تأسيسها.
رجع الأب بطرس جيسـي، بعد رسامته الكهنونية (أي أصبح قسيساً)، إلى بلاده (كوردستان)، وعمل كثيراً في الرسالات، والمواعظ، وخصوصاً في مدينة (آمد) (= دياربكر).
ويعتقد الباحث بأن هذا الكوردي الذي تنصـّر لم يرجع إلى مدينته ومسقط رأسه العمادية –حسب الرواية الايطالية – الفاتيكانية – بسبب خوفه من حدوث ما لا تحمد عقباه، حيث كان يتهم بالردة والكفر، وعقوبة الردة عند المسلمين هي القتل، لا سيما وأن الدولة العثمانية، التي كانت تحكم آنذاك، كانت تعمل بالشـريعة الإسلامية، هي والإمارات الكوردية المنضوية تحت رايتها.
بعد ذلك، تذهب سجلات (كلية البروبغندا) بأن المدعو بطرس قد ذهب إلى (القوش)، حيث التقى البطريرك النسطوري “مارإيليا الثامن” (1617 – 1660م)، الذي سـر بقدومه، ورآه غيوراً على الإيمان المسيحي، ويكنّ محبة عميقة للكنيسة، ووحدتها مع جميع الكنائس، وخصوصاً مع روما، التي عاش فيها سنوات عديدة، وتعلم اللغة الإيطالية، وتعرف على المسؤولين في الدوائر الرومانية. وقد اختاره البطريرك، مع اثنين آخرين، وهما: الأب مرقس، والشماس طيمثاوس، وكلّفهم بالذهاب إلى (روما)، لاطلاعهم على حالـة المسيحيين في الشـرق، بصورة عامة، وكوردستان، بصورة خاصة. بعد ذلك، تشن الوثائق حملة شديدة على (بطرس)، وتتهمه بالتزوير، ومحاولة اختلاس الأموال، واستغلال معرفته للشخصيات الكاثوليكية للوصول إلى مآربه.
وترك (بطرس العمادي) روما، في طريق عودته إلى كوردستان، حسب المعتاد، ولكنه ذهب إلى (الحبشة)، التي كانت تدين بالمسيحية وفق المذهب الأرثوذكسـي، ولكن الكهنة الأرثوذكس هجموا عليه بالرماح، ورجموه بالحجارة، التي تكدست على جثمانه، فمات حبّاً بالمسيح سنة 1680م، حسب رواية (البروبغندا). ينظر: (المطران عمانوئيل دلي: مبادرات الاتحاد بين بطاركة بابل وروما في القرن السابع عشر، القسم السادس، مجلة نجم المشرق، العدد 28 في 2001، ص486 – 493).
ويبدو أن الوثيقة البابوية لا تذكر اسم الشخصية الكوردية من العمادية بإسمه الاسلامي، بل تضم في ثناياها عنواناً للشخصية الكوردية: بطرس جيسي الفارسي، رغم أن العمادية تقع في قلب كوردستان، وأن جغرافية إقليم فارس (جنوب ايران المطل على الخليج) بعيدون عن هذه المدينة بمئات الكيلومترات، ولكنه التجني على تاريخ وجغرافية كوردستان، والملفت للنظر أن المطران عمانويل دلي ، بطريرك كنيسة بابل على الكلدان وثاني كاردينال عراقي يعين من قبل البابا بنيكتوس السادس عشر سنة 2003 – 2012م ومن مواليد مدينة تلكيف عام 1927م لم يتطرق في مقالته” مبادرات الاتحاد بين بطاركة بابل وروما في القرن السابع عشر”، القسم الخامس، والقسم السادس التي نشرها في مجلة نجم المشرق، العدد 27 في 2001م، الصفحة 349 – 350، وفي العدد 28 في 2001، الصفحة ص486 – ، الى تلك الاشكالية كيف يكون بطرس جيسي فارسيا وهو من اهالي العمادية؟
ففي تلك الحقبة كان الصفويون يحكمون إيران وهم ليسوا من العرق الفارسي باجماع كل المؤرخين والباحثين والمستشرقين، حيث يذكر غالبية المؤرخين والمستشرقين بأنهم من أصول تركية، علماً بأن كتاب (روضة الصفا) يؤكد كوردية هذه الاسرة.
المصدر: كردستان 24
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd-online.com/?p=54564