حيدر عمر
الحكاية الشعبية هي إحدى أنواع الأدب الشعبي، و نتاج معتقدات الناس و عاداتهم و عواطفهم، و هي ” عريقة و موغلة في القِدَم “([1])، إذ يربط الباحث الكردي محمد بوزكويان ظهورها بظهور البشرية،فيقول”يمتد تاريخ ظهور الحكاية الشعبية إلى تاريخ ظهور البشرية، و مهما كانت ثمة اختلافات بين حكايات الشعوب،فإنها تشترك في الوجود مع أول وجود للبشرية”([2]). و هي كذلك على رأي عادل أبو شنب الذي يراها أوغل قِدَماً في التاريخ الفكري للبشرية من القصة المكتوبة([3]).
و على رأي الكاتب السوري ميخائيل عيد، يمكن أن نجد أثرها أو أثر أسلوبها في مختلف ميادين الكتابة و العلوم، إذ يقول ” منذ أكثر من خمسين عاماً وأنا أقرأ ما يقع بين يديَّ من كتب و مجلات و صحف… قرأت الكثير من الشعر و الفلسفة و التاريخ و علم الجمال و علوم المجتمع الإنساني و تاريخها، كما قرأت أمَّات الكتب الدينية من توحيدية و غير توحيدية، فلم أجد عملاً جليلاً أبدعه العقل البشري إلَّا و فيه شيئ من الحكاية، أو له حكاية، و ما وقعت على فكرة رئيسة في كتاب أو صحيفة إلَّا وجدت ما يماثلها في حكاية أو أكثر من حكاية.”([4])
و على الرغم من محاولات الأخوين جريم الألمانيين و تيودور بنفي تحديد موطن نشأتها، فلا يمكن تحديد زمن و مكان معينين لظهورها([5]).
و ترتبط الحكاية الشعبية بأفكار و موضوعات و تجارب متعلقة بالإنسان، و هي تحكي حدثاً قد يكون واقعياً، و تتجلى فيها حكمة الشعب و خبراته و نتائج ممارساته و طرق معايشته الحياة. إنها خلاصة تجارب الأجيال مصاغة في قالب قصصي مشوِّق، مليئ بالعبر و القيم النبيلة. و قد تكون من نسج الخيال الشعبي حول حدث ما، يستمتع الشعب بروايته و الاستماع إليه، و لا يُعرف للحكاية الشعبية قائل أو كاتب، و لهذا تُنسب إلى مجموع الشعب، و هي في حركة خلق فني مستمر، إذ تنتقل عن طريق الرواية الشفاهية، من جيل إلى جيل، و من عصر إلى عصر حاملة خبرات و تجارب الأجداد و الآباء إلى البنين و الأحفاد.و يلعب الخيال دوراً كبيراً في صياغتها أحداثاً واقعية، ربما حدثت بالفعل،و أخرى خيالية، فيكسبها قدرة هائلة على جذب انتباه القُرَّاء أو المستمعين.و هي كغيرها من الفنون القولية، تخضع في أثناء انتقالها لتغييرات في الرواية تبعاً لظروف الزمان و المكان، و استجابة لمستوى تطور المجتمع اجتماعياً و اقتصادياً و فكرياً، فيما يشبه إعادة إنتاج. و قد أشار إلى ذلك دارسون كثيرون. يقول حنيف يوسف ” إننا نجد تأثير ظروف الحياة الوضعية الخاصة بكل مرحلة تاريخية على النص، إلى درجة أننا قد نجد إعادة خلق أو انتاج جديد لهذا النص و بذات الاسم و العنوان في كل مرحلة تاريخية على حِدة. و هكذا قد نجد تراكمات عديدة لمراحل مختلفة، و آثار هذه المراحل في ذات النص المتوارث شفوياً “([6]). و من هنا نجد روايات متعددة لحكاية واحدة. و قد نرى اختلافات بين هذه الروايات. يقول حنيف يوسف ” تتعدد الروايات المتعلقة بنص واحد و تتعدد أشكال الاختلاف بين هذه الروايات. في الواقع هناك عدد كبير من الروايات للنص الواحد، تختلف فيما بينها من منطقة إلى أخرى، و من اقليم إلى آخر، و كل رواية تحمل بصمات زمانها و مكانها ضمن تعدد اختلافات البيئة الجغرافية الكردية و التنوُّع الطبيعي في بنية الديموغرافيا الواحدة تاريخياً و في سياق التطور”([7]).
و قد تندرج القصة الخرافية تحت التسمية نفسها، و لكنها تختلف عنها في أن أحداثها تدور في عالم خيالي غير واقعي، و يغلب عليها العنصر الخارق، الذي يؤثر في تنامي أحداثها و تطورها. و يختلط فيها العجيب و الغريب، فترى فيها الضعفاء ينتصرون على الأقوياء، و الفقراء يصيبون من الغني، بحيث تراهم انتقلوا من أكواخهم إلى القصور، يحيط بهم الخدم و الحشم، و هي لا تتقيد بالزمان و المكان، و أغلبها ينتهي نهاية سعيدة، كأن يتزوج البطل من أميرة، أو أن ينال الأشرار عقابهم و الأخيار ثوابهم. و أهم سمة لها أنها تُحكى غالباَ على لسان الحيوانات،و تهدف من حيث المضمون إلى غاية تربوية أخلاقية.
لم تتحرر الحكاية الشعبية من آثار الأسطورة بالسرعة التي يمكن أن يتخيلها المرء، بل تظل تلك الآثار تطل برأسها في بعض القصص و الحكايات في مراحل لاحقة، تبعاً لتطوَّر الوعي البشري. و لعل هذا ما دعا رائدَيْ الفولكسكوندة الألمانية الأخوين جريم إلى اعتبارها ” حطام أساطير أو بقاياها “، أو أنها ” موروثات باقية للأساطير القديمة “([8])، بينما ذهب الدكتور عزالدين مصطفى رسول إلى أنها ” تطوير تاريخي للأسطورة،أو هي الأسطورة في عهد تاريخي جديد”([9]). و قد رجًّح باحثون آخرون هذا الرأي، فأعادوها إلى أصل أسطوري.([10]) فنحن نجد الأسطورة واضحة في بعض الحكايات التي جمعتها رقية أُوزْمَن تحت عنوان ” قصص الأمسيات ” كقصة “عفاريت الجن.”([11])
تدور أحداث هذه القصة عن ابن عجوز فقيرة يعمل راعياً، يجد ذات يوم خاتماَ،و حين يضع الخاتم في اصبعه، يظهر له عفريتان، يمتثلان لأوامره. يبني العفريتان له و لأمه قصراً بناءً على رغبته. و يرسل الفتى أمه العجوز إلى قصر الملك لتخطب له ابنته و يعطيها الخاتم، لتستعين به، فيشترط الملك ثلاثة شروط ، إن حققتها العجوز، فسوف يوافق على هذا الزواج، و إلَّا فسيقتلها.
أول تلك الشروط، هو أن تحمل العجوز وعاءين مكشوفين مملوءين حليباً، و تصعد على السلالم إلى الطابق الأعلى، ثم تنزل بالطريقة نفسها، دون أن تسقط قطرة واحدة من الحليب على السلالم، و أما الشرط الثاني، فهو أن تبني العجوز له قصراً أجمل و أكبر من قصره، و أما الثالث، فهو ألَّا تتعرض ابنته لأشعة الشمس حين تأخذها عروساً إلى بيتها.
كانت العجوز تستعين بالخاتم في اصبعها لتنفيذ كل شرط، فيظهر أمامها عفريتان يمتثلان لأداء طلباتها، و حققا لها الشروط الثلاثة، ففي تحقيق الشرط الأول، لم يُرَ أثر قطرة واحدة من الحليب على السلالم، و في الثاني حمل العفريتان قصر الفتى و وضعاه بجانب قصر الملك، و في الثالث، طلبت العجوز من العفريتين أن يزرعا المسافة بين قصرها و قصر الملك أشجاراً و وروداً، بحيث تحجب الشمس عن العروس حين تمشي إلى قصر عريسها. و تزوج الفتى ابن العجوز من ابنة الملك، و عاش الثلاثة، الفتى و عروسه و أمه العجوز، في القصر الكبير الذي بناه العفريتان، إلا أن الفتى فقد الخاتم ذات يوم، فزال القصر بحدائقه و أشجاره المحيطة به، و عاد الفتى إلى عمله السابق راعياً يقود قطيعه إلى المراعي.
تذكرنا هذه الحكاية بقصة ” علاءالدين و المصباح السحري ” من قصص ” ألف ليلة و ليلة “، إلا أن خاتمتها مختلفة. ففي الوقت الذي تنتهي تلك نهاية سعيدة، تنتهي هذه نهاية حزينة، إذ يفقد الشاب ما حصل عليه، و ما صار إليه من غنى، لكأن ما كان لم يكن أبعد من حلم، استيقظ منه بطل القصة على الحقيقة.
إن هذه الحكاية تمثِّل مرحلة متوسطة بين الأسطورة والحكاية الشعبية، وقد رأينا سابقاً أن قصص الأساطير الكردية تنتهي دائماً بانتصار البطل في صراعه ضد قِوى الشر، وهي تعكس بذلك الفلسفة الكردية تجاه الكون الذي لا بد أن ينتصر فيه الخير على الشر. بينما انتهت هذه القصة بفشل البطل، أو بالأحرى بإعادته من عالم الأحلام إلى الواقع، لكأنها تقول لا تتحقق الآمال بالأحلام. و رغم هذه النهاية، يمكننا القول إنها لا تدفع القارئ أو السامع إلى اليأس، بل تحفِّزه على العمل و الكد، و هي من هنا تهدف إلى غاية تربوية، كغيرها من الحكايات الشعبية، ” التي هي في الواقع وسائل تربوية فعَّالة “([12])، و خاصة بالنسبة للأطفال.
و إذا كانت الأسطورة بنت مرحلة طفولة البشرية، فإن الحكاية نتاج بلوغ البشرية مرحلة متقدمة من الوعي، و تعكس أحلاماً لم يكن تحقيقها ممكناً في تلك المرحلة، فانطلق العقل البشري إلى تصويرها أو تحقيقها عن طريق الخيال، و من هنا تعكس الحكاية الشعبية صراع الإنسان مع الطبيعة بغية إخضاعها لسيطرته، أو صراع الإنسان مع الإنسان من أجل الحياة.
ثمة في آداب و فولكلور أمم كثيرة، حكايات صِيغت على ألسنة الحيوان، و لها غايات تربوية أو توجيهية، و لعل قصة ( كليلة و دمنة) المشهورة تشكل مثالاً بارزاً لتلك الحكايات، فنحن نجد فيها أسداً هو رمز أو صورة للسلطان الظالم، و ثعلباً هو رمز للبطانة الفاسدة المحيطة بالسلطان الجائر، يدله على طريق السوء. ثم نجد أن كل حكاية في هذا الأثر الرفيع تنتهي بما يمكن أن يكون حكمة، تحثُّ على العمل النبيل، أو تُظهر نتائج الظلم و الأعمال الجائر.
تشغل الحكاية أو القصة الشعبية حيِّزاً واسعاً في أدب الفولكلور الكردي، و ” هي مستمدة من التراث الكردي القديم الذي لم يدوَّن منه إلا النزر اليسير، رغم أن تاريخه يمتد إلى ما قبل الإسلام “([13]) بقرون. و منذ أن بدأ الكرد بتدوين أنواع أدبهم الشفاهي قبل ما يزيد على قرن و نيِّف من الزمن، أصبح بين أيدي قرَّائه كماً كبيراً من الحكايات الشعبية، التي يمكننا أن نصنِّفها، تبعاً لشخصياتها، في ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى:تكون شخصيات هذه المجموعة من الحيوانات. و غالباً ما تتوجَّه إلى الأطفال، أي يمكن اعتبارها من قصص الأطفال. يحرص الرواة في حكايات هذه المجموعة على أن يصيغوها على ألسنة الحيوانات،و يجتهدون في انتقاء هذه الحيوانات من البيئة المحيطة بالأطفال، لئلا تكون غريبة عنهم، و هي بيئة زراعية و جبلية، تكثر فيها الحيوانات الداجنة و المفترسة و الطيور،و هذا يعني أن هذه القصص تعود إلى زمن تحوُّل المجتمع إلى مرحلة تدجين الحيوان و الرعي و الزراعة، و هي مرحلة متقدمة في مسيرة التطور البشري.
يمكننا أن نذكر من هذه القصص قصة ” شَنْكلو و مَنْكلو “([14]) مثلاً، و هي مروية على لسان معزاة توصي صغارها الثلاثة بعدم فَتْح باب الحظيرة في غيابها إلا بعد أن يسمعوا منها أغنية ترددها لهم، ثم تخرج للرعي. يتكرر هذا الأمر عدة أيام، فيسمعها ذئب في أحد الأيام، كان يمر في الجوار، و بعد ابتعادها عن صغارها، يأتي الذئب متقمصاً دور المعزاة الأم، و يردد الأغنية نفسها ليفتح الصغار له الباب، وبعد أخذٍ و ردٍ بينه و بين الصغار، يتمكن من خداعهم، بعد أن يقنع أحدهم، فيفتح الصغار الباب، فيفتك بهم. و حين تعود المعزاة، و لا تجد صغارها، تتحرًّى الذئبَ في الغابة، فتجده وتقاتله إلى أن تقضي عليه، و تُخرِج الصغار من جوفه([15]). كذلك حكاية أخرى بعنوان ” كيف أُرعِبَ الذئب؟ “([16]). تدور أحداث هذه الحكاية حول حصان خرج قاصداً مرعى ما، فالتقى في طريقه ديكاً رافقه، ثم التقى كبشاً ثم أرنباَ، فترافق الأربعة، و إذ كانوا في المرعى، رأوا عن بُعدٍ قطيعاً من الذئاب، تقدم أحدها نحوهم، فسأله الحصان: ماذا تريد؟ قال: أريد أن تعطيني الكبش لآكله. فقال الحصان: تعال كُلْني أولاً. فلما تقدم نحوه، أطبق الحصان قائمتيه على رأسه، و ضغط عليه بكل قوته، و راح الكبش يضربه، و الديك ينقر الأرض بحثاً عما يأكله، و أما الأرنب، فقد لاذ بالفرار. و إذ تمكن الذئب من الإفلات، فرَّ هارباً نحو قطيعه، فسأله أصحابه عما حدث، و لكنه لم يُجِب، بل قال: اتبعوني، ففي الأمر هلاكنا. و لما ابتعدوا عن المكان، وقف وقال لاهثاً: عندما وصلت إليهم، وضع أحدهم رأسي بين قطعتَيْ خشب، و ضغط ضغطاً شديداً، و راح آخر يضربني ضرباً مبرحاً، و الثالث أخذ يحفر لي قبراً، بينما الرابع مضى مسرعاً إلى طلب مزيد من القوات.
لا يحتاج السامع أو القارئ إلى كبير عناء، ليستنتج أن لكلتا القصتين غاية تربوية و توجيهية،فهما موجهتان للأطفال،و تستطيعان بحبكتيهما أن تجذباهم نحو متابعة الاستماع أو القراءة، و الحثِّ على التضامن، و العمل بروح الفريق. أما إصرار المعزاة، في الحكاية الأولى، على البحث عن صغارها و قتل الذئب، فيوجِّه نحو التسلُّح بالأمل حتى في أحلك الظروف، و الإصرار على متابعة السعي نحو الهدف، و أما الثانية، ففضلاً عن أنها تحثُّ على التعاون و العمل بروح الفريق أيضاً، فإنها تنمِّي البداهة في الأطفال، و عدم الارتباك في مواجهة خطر ما، فالحصان رغم معرفته أنه و أصحابه ليسوا قادرين على مواجهة قطيع من الذئاب، فإنه يبتكر في الحال طريقة أو أسلوباً للدفاع عن نفسه و عن أصحابه الضعفاء.
ثمة حكاية أخرى شبيهة بها، و ذات مغزى تربوي، و تنمي البداهة في الأطفال. إنها حكاية ” المعزاة و الشاة و الثور “.([17]) تتعرض هذه الحيوانات الأهلية ( الداجنة ) لمحنة، حين كانت ترعى معاً بعيداً عن أصحابها، الذين رحلوا و تركوها في مرعاها، و حلَّ الليل، فبحثت عن مكان تبيت فيه، و أثناء البحث وجدت جلود دبٍّ و ذئبٍ و ثعلبٍ، فلفَّت تلك الجلود حول أجسامها و نامت. ولما استيقظت عند الصباح، لمحت دبّاً و ذئباً و ثعلباً غير بعيد عنها. فذعرت الشاة و خاف الثور، إلا أن المعزاة بدأت تغني: ” اليوم قتلت ذئباً، و أكلته، ثم لففت جسمي بجلده “. لما سمع الذئب ما قالته المعزاة، و كان على ظهرها جلد ذئب آخر، تمالكه الذعر. و تبع العجلُ المعزاةَ مغنياً: ” اليوم قتلت دبَّاً في الغابة و أكلته، ثم جعلت جلده لي ثوباً شتوياً “. ثم تبعته الشاة مغنِّيةً: ” ألا تعلم أيها الثعلب أن هذا جلد أبيك، و سوف ألحقك به الآن “. عندئذٍ هربت تلك الحيوانات المفترسة، و نجت الحيوانات الداجنة الثلاثة.
هذه القصة كسابقتيها موجَّهة للأطفال، و هي ذات مغزى تربوي. فالمعزاة كالحصان في القصة السابقة، تعرف أن لا طاقة لها و لا لصديقيها في مواجهة الدبِّ و الذئب، و لكنها ابتكرت حيلة و استطاعت أن ترعب عدوَّها، و تبعها صديقاها، فنجا الجميع من الهلاك. و يمكن القول إن هذه القصص تتجاوز المغزى التربوي إلى غاية فكرية أيضاً، من خلال تركيزها على العمل بروح الفريق، إنها تقيِّم العمل الجماعي تقييماً عالياً و تدعو إلى الاتحاد.
و ثمة حكاية ” الذئب و الثيران الثلاثة”([18])، و هي معروفة في الموروث العربي أيضاً، باسم حكاية ” الأسد و الثيران الثلاثة “، و قد أُثِر عنها، في الثقافتين الكردية و العربية، المثل القائل “أ ُكلتَ يوم أُكِلَ الثور الأبيض”. تدور أحداث هذه الحكاية حول ثلاثة ثيران، أبيض و أحمر و أسود اللون، ترافقت في أحد المراعي الخصبة، و ذات يومِ رآها ذئب ( في الرواية الكردية، و أسد في الرواية العريية )، فسال لعابه، إلا أنه لم يتجرَّأ أن يهجم عليها و هي مجتمعة معاً، فلجأ إلى الحيلة، و أقنعها ببقائه معها كأصدقاء أربعة. و إذ رأى الذئب الثورَ الأبيض ذات يوم و قد ابتعد عن الثورين الأحمر و الأسود، مضى إليهما و أقنعهما بالخلاص منه، لأن لونه الأبيض يثير انتباه الأعداء من بعيد، فيكون سبباً في هلاكهم، و من جهة أخرى فإن الخريف الذي بدا قدومه قريباً سيقضى على قسم كبير من المرعى، و قد لا يكفيهم ما يبقى منه. و إذ ضمن موافقة الثورين الأحمر و الأسود، مضى إلى الأبيض و أجهز عليه.
بعد مضيِّ بضعة أيام استغل الذئب ابتعاد الثور الأحمر عن الثور الأسود، فمضى إلى الأسود، و أقنعه أيضاً بالخلاص من الثور الأحمر، لأن لونه ملفت للنظر، و أن الشتاء على الأبواب، سيقضي بصقيعه على قسم كبير من المرعى، فلا يكاد يكفيهما ما يبقى منه حتى قدوم الربيع. و بهذه الحيلة استمال الثور الأسود إلى جانبه، و تأكد من أنه لن يقف إلى جانب الثور الأحمر، فأجهز عليه و قتله، و اتخذه طعاماً له لبعضة أيام أخرى.
و إذ بقي الثور الأسود وحيداّ، لا صديق و لا معين له، تقدم الذئب منه، و صرّح له علناً، أنه يريد قتله و أكله. فراح يتوسل إليه، و يذكِّره بالصداقة التي تعاهدا عليها، إلا أن كل ذلك لم يفده، و لم يثن الذئب عما عزم عليه، بل وضعه أمام الحقيقة التي ساهم فيها بنفسه، فقال له ” أُكِلْتَ يوم أُكِل الثور الأبيض “، و أجهز عليه، وراحت هذه الخاتمة مثلاً سائراً.
لهذه الحكاية مغزى فكري، هو إن الوحدة أو الاتحاد يرعب الأعداء، و إن التنازل عن الموقف الصحيح مرةً، يعقبه التنازل مرات أخرى، و إن على المرء ألا ينسى طبيعة العدو، فـ ” الطبع يغلب التطبُّع” كما يقال في العربية، و ” تبلغ اللحية شبراً، و لا يصبح العدو صديقاً ” كما يُقال في الكردية. ” Rih dibe bost, dijmin nabe dost „
مثل هذه القصص قد لا تُحكى للأطفال فقط، بل يتداولها الكبار أيضاً فيما بينهم، و ذلك في ظروف صعبة يمر بها الشعب، كأن يُبتلى بحاكم مستبد ظالم، يحسب على الناس أنفاسهم، أو عندما يُبتلى بقوى خارجية تغزو بلده و تحتل أرضه، و يصيبه منها ظلم شديد. عندئذ تلجأ الشعوب إلى مثل هذه القصص رمزاً للدعوة إلى الاتحاد و العمل في مواجهة الحاكم المستبد و القوى الغازية و المحتلة بروح الفريق.
المجموعة الثانية:تكون شخصياتها من البشر و من الحيوانات معاً. قصة ” الثعلب و العجوز “([19]) تكون مثالاً جيداً لحكايات هذه المجموعة. تدور أحداثها حول زيارة امرأة عجوز ابنتَها المتزوجة و المقيمة في قرية أخرى. تحمل العجوز جرّتين، إحداهما فيها عسل، و الأخرى فيها سمن، كهدية لابنتها كما جرت العادة في الزيارة الأولى. تلتقي العجوز في الطريق ثعلباً، يسألها عن مقصدها وعما هو في الجرتين، ثم يعرض عليها المساعدة، ليحمل عنها إحداها، وبعد أن يسيرا مسافة ما، يقول لها الثعلب إنه يريد أن يسبقها قليلاً، ثم يستريح منتظراً إياها. بعد أن يبتعد الثعلب عنها، يختبئ خلف شجرة في الغابة، و يأتي على ما في الجرَّة من السمن فيأكله، ثم يتغوَّط فيها و يُحكم إغلاقها، و يسبق العجوزَ، ثم يظهر أمامها و يسيران معاً. بعد السير مسافة ما، يطلب الثعلب من العجوز أن يتبادلا الجرتين، بدعوى أن الجرة التي تحملها العجوز أثقل من الأخرى. و بالطريقة نفسها يأتي الثعلب على ما في الجرة من العسل فيأكله، ثم يتغوَّط فيها، و يُحكم إغلاقها. و حين يقتربان من القرية، يتجنب الثعلب المتابعة مع العجوز نحو بيت ابنتها، بدعوى أنه يخشى أن تفترسه كلاب القرية.
و إذ تصل العجوز دار ابنتها، تفرح البنت بزيارة أمها لها، و عندما تفتح البنت إحدى الجرتين، تندهش مما فيها، و تفتح الثانية، فترى محتواها كمحتوى الأولى. و إذ تسأل أمها، تدرك الأم أن هذا من فِعل الثعلب، فتقص عليها قصتها معه. بعد أن تعود العجوز إلى بيتها، تفكِّر في حيلة للانتقام من الثعلب، فتضع على صخرة قريبة من القرية بعض القار، و عندما جاء الثعلب، و أراد أن يستريح قليلاً قبل الاقتراب من القرية، جلس على تلك الصخرة، و لما أراد النهوض، لم يستطع، إذ كان ذيله التصق بالصخرة. عندئذ أدرك أنه وقع في الفخ، و راح يتحرك يميناً و يساراً دون جدوى، و أعاد الكرة في التحرك مراراً، حتى قُطِع ذيله، و مضى إلى أصحابه من غير ذيل، فصار موضع سخريتهم. فاضطر إلى أن يقصد العجوز، منادياً إياها من بعيد، عسى أن تعيد له ذيله، و أنه يعتذر لها عما فعل. إلا أن العجوز ردت عليه قائلة: ” هذا هو جزاء من يخدع الآخرين و يسيئ إليهم “. بعد ذلك تتعدد طلبات العجوز، و لن تردّ له ذيله إلا بعد تنفيذها، و جميعها شروط تعجيزية تشترطها العجوز.
إن هذه الحكاية، فضلاً عن أنها تهدف إلى ابتعاد المرء عن خداع الآخرين، و أن الخداع لا بد أن ينكشف في يوم ما، و تكون نتيجته غير محمودة، فإنها تتوخى تربية الطفل على حسن المعاملة، و على السلوك السليم في حياته، و عدم الإساءة إلى الآخرين.
هناك في هذه المجموعة من الحكايات ما يفصح عن دهاء الإنسان و قدرته على خلق الظروف المناسبة للخروج مما قد يلقاه من مواقف تهدد أمنه و حياته. لعل حكاية ” الحطَّاب و الأسد “([20]) تمثِّل هذا الاتجاه، إذ يرى بطلها نفسه وجهاً لوجه أمام أسد يتهيأ للقضاء عليه. تذهب الحكاية إلى أن رجلاً كان له قطة تلازمه أينما ذهب. أراد الرجل ذات يوم أن يحتطب، فحمل فأسه و قصد الغابة، فتبعته القطة، و بينما كان منهمكاً في الاحتطاب، مرَّ أسد، فرأى حيواناً يشبهه برأسه و قوائمه، و لكنه بالنسبة إليه صغير الحجم، فاندهش الأسد و سأله: ” لِمَ حجمك صغير إلى هذا الحد؟ “، فأجابته القطة: ” لو كنت أنت تحت سطوة مَن أنا بين تحت سطوته، لأصبح حجمك أصغر من حجمي “. و لما سألها الأسد عنه، أشارت إلى صاحبها المنهمك في الاحتطاب. تقدًّم الأسد نحوه، و طالبه بالمبارزة، فلجأ الرجل إلى الحيلة، و قال له: ” أنت في كامل الاستعداد للمبارزة، بينما أن أعزل، لا بد لي من إحضار عدتي و أدواتي، فهل تنتظرني، ريثما أذهب لإحضارها؟ “. و لما وافق الأسد على الانتظار، راح الرجل يثير فيه اعتداده بنفسه و بقوته قائلاً له: ” ولكنني أشك في أن تنتظر، ربما تهرب، لذلك أريد أن أربطك إلى الشجرة “. وافق الأسد، فربط رجليه الخلفيتين إلى جذع الشجرة بإحكام، و لكي يُحكم ربطه جيداً، احتال عليه، بأنه ربما يفك قيده بقائمتيه الأماميتين و يهرب، لذلك يجب ربطهما أيضاً، فوافق الأسد مغتراً بقوته. ثم أخذ الرجل قضيباً و انهال عليه ضرباً مبرحاً، فصار الأسد يئن و يسأل القطة: ” إلى متى سيستمر في ضربي؟ “، أجابته القطة: ” إلى أن يصبح حجمك مثل حجمي “. عندئذ التفت الأسد نحو الرجل متوسِّلاً أن يطلقه ” مهما ضربتني، فإن حجمي لن يصبح كحجم القطة، اطلقني و أنا أتعهد لك بأن أغادر أنا و كل الحيوانات الأخرى التي من شاكلتي الغابة و لن نعود إليها ثانية “.
ثمة حكايات من هذه المجموعة تُظهر لنا شغف الكر بالموسيقى، و تبيِّن في الوقت نفسه مدى تأثير ها في الحيوانات أيضاً. لعل حكاية ” الراعي “([21]) تكون مثالاً جيداً لها. الحدث في هذه الحكاية مبني على تجربة راعٍ تعرض له قطَّاع الطرق، و أخذوا قطيعه عنوة. فكَّر الراعي كيف يسترد قطيعه؟ فهو لا يستطيع مواجهتم و مقاتلتهم، فلجأ الراعي إلى نايه، و قال بينه و بين نفسه: ” إما أن أردَّ القطيع بالعزف على الناي، أو أنتحر”، و بدأ العزف، حتى صار القطيع كله يجري نحوه، مما جعل اللصوص يثورون، و صوَّب أحدهم بندقيته نحوه، و همَّ بقتله، إلا أن زعيمهم منعه من ذلك إكراماً لعبقريته في العزف و النفخ في الناي.
عاد الراعي بالقطيع إلى القرية عند المساء، و قصَّ لمالك القطيع و سكان القرية ما جرى، فاستنكروا عليه و كذَّبوه، فاقترح الراعي على مالك القطيع أن يحبسه في غرفة بحيث لا يراه القطيع، و ليرعاه شخص آخر لمدة ستة أيام دون أن يَرِدَه الماء، و في اليوم السابع عندما يقترب القطيع من الماء، يخرج الراعي و يعزف على الناي، فإن تراجع القطيع عن الماء، يكن صادقاً في كل ما قال، و إلَّا يكن كاذباً. ففعلوا ذلك، و في اليوم السابع، و إذ اقترب القطيع من الماء، خرج الراعي و نفخ في نايه عازفاً، فما كان من القطيع إلَّا أن يتراجع عن الماء و يجري نحوه.
و كثيراً ما تتشابه الحكايات الشعبية بين شعوب مختلفة عرقاً و لغة،و قد أشرنا إلي سابقاً إلى قصة ” الذئب و الثيران الثلاثة “. وهي تكون مثالاً واضحاً لهذا التشابه، الذي قد يكون نتيجة التواصل الثقافي بين الشعبين الكردي و العربي لقربهما من بعضهما، و لاشتراكهما في أمور كثيرة. سنتحدَّث عن هذا التشابه في دراسة أخرى حول الثقافة الكردية و الثقافات المجاورة.
البقية في الحلقة القادمة.
([1]) مريم حمدي: أصول الحكاية الشعبية. رسالة جامعية مقدمة في جامعة حمه لخضر بالوادي في الجزائر للعام الدراسي 2014 / 2015، ص 11.
([2]) Mehmet Bozkoyan: Beşek ji folklora kurdî. çîrok. Bingöl üniversitesi Yaşaya Diler Enstitüsü Dergisi, Kasim 2015, rû 146.
([3]) عادل أبو شنب: مدخل إلى دراسة الحكاية الشعبية العربية. مجلة المعرفة، السنة التاسعة عشرة، العدد 219، دمشق، أيار/مايو 1980، ص 85.
([4]) ميخايئل عيد: قضايا فكرية في بعض الحكايات. مجلة المعرفة، وزارة الثقافة، السنة 43، العدد 487، دمشق نيسان 2004، ص 154، 155.
([5]) مريم حمدي:مرجع سابق، ص 12، 13.
([6]) حنيف يوسف: نصوص من الفولكلور الكردي، إعداد و ترجمة. الطبعة الأولى، سپيريز دار للطباعة و النشر، أربيل 2007 ص 7، 8.
([7]) المرجع نفسه، ص 15.
([8]) فوزي العنتيل: التراث الشعبي و دور حملة التراث، مجلة الفنون الشعبية، وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف و النشر، السنة الثانية، العدد السادس، القاهرة 1968، ص 9.
([9]) الدكتور عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي، مرجع سابق، ص 15.
([10]) مريم حمدي: أصول الحكاية الشعبية. مرجع سابق، ص 12.
([11]) Rukiye Özmen: çîrokên şevbihurkan. Weşanên DOZ, çapa yekem, Istanbul 2002, rû 21-25
([12])د. عمر إبراهيم عزيز: القِيَم السائدة في القصص الشعبية الكردية و العربية للأطفال في العراق. الطبعة الأولى، مطبعة دارا، أربيل 2007، ص 5.
([13]) المرجع نفسه، ص 9.
([14]) Haciyê Cindî: Hîkayetên cimaeta Kurda. Çapayekem, weşanên Ronahî, Amed 2011, rû 8- 11. FettahTìmar: ÇÎrokên Lawiran. Çapa yekem Weşanên Ar, Akara 2017, û 21.
([15]) تُعتبر هذه القصة مثالاً جيداً لتواصل الثقافة الكردية و ثقافات جيرانهم من عرب و فرس و تُرك.
([16]) Haciyê Cindî: Heman jêder, rû 16-18 ترد هذه القصة بعنوان (الحمار و سبعة ذئاب) في العدد 9 من مجلة (روناهي)،دمشق 1942.
([17]) M. Xalid Sadînî: Çîrokêngelêrî. Çapaduyem, weşanên Nûbihar, Istanbul 2013, rû 88-89
([18]) Elî Cefer: Gotina mêrê Kurd gotin e.Çapayekem, weşanên Helwest, stockholm 2000, rû 8. M. Xalid Sadînî: Çîrokêngelêrî.Çapasêyem, Nû Buhar, Istanbul 2013, rû 90. Fettah Tîmar: ÇÎrokên Lawiran. Çapa yekem Weşanên Ar, Akara 2017, rû 41
([19]) Moustafa Rechid: Kurdische Märchen für Kinder. Verlag für Kultur und Wissenschaft, Bonn 2003, Seite 9.
([20]) Haciyê Cindî: Heman jêder, rû 32.
([21]) Hemanjêder, rû 54.