فارس عثمان
مجلة الحوار – العدد /81/ – السنة 30- تموز 2023م
تقوم السلطات التركية منذ فترة بالحديث المتكرر عن معاهدة لوزان والذكرى المئوية للتوقيع عليها وتنشر وسائل الإعلام التركية بين فترة وأخرى معلومات غير دقيقة ومضللة عنها بقصد التأثير على الرأي العام التركي وحتى العالمي، علما أن المعاهدة والتصديقات عليها أودعت في باريس، وقد قام المعهد المصري للدراسات بترجمة المعاهدة ترجمة كاملة إلى اللغة العربية عام 2020.
وقد ثار جدل كبير خلال السنوات الماضية حول الاتفاقية ونصوصها، والموقف التركي والكردي منها، فالأتراك يطالبون بالعودة إلى الميثاق الملي، الرافض لحدود تركيا الحالية، والقول إن “تركيا فقدت مساحات شاسعة من أراضيها ولا بد من استعادتها”. أما الكرد فينظرون إليها نظرة سلبية وأنها حرمت الكرد من تأسيس دولتهم القومية كردستان كما وردت في اتفاقية سيفر.
وقد تم توقيعها في مدينة لوزان السويسرية في الرابع والعشرين من شهر تموز عام 1923، بين الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وعلى رأسهم بريطانيا وفرنسا، من جانب؛ وحكومة الجمعية الوطنية الكبرى لتركيا برئاسة كمال أتاتورك، من جانب آخر، التي تم من خلالها تسوية أوضاع الأناضول والقسم التركي الأوروبي من أراضي الدولة العثمانية، والديون المترتبة على تركيا، وأخطر ما فيها هو إلغاء معاهدة سيفر.
تتألف معاهدة لوزان من 143مادة وخمسة أجزاء ((الجزء الأول: البنود السياسية، الجزء الثاني: البنود المالية، الجزء الثالث: البنود الاقتصادية. الجزء الرابع: الاتصالات والمسائل الصحية، الجزء الخامس: أحكام متنوعة ))[1] وكل جزء يتألف من عدة أقسام.
تعتبر اتفاقية لوزان 1923 من أخطر الاتفاقيات الدولية التي اثرت على الوضع الكردي والكردستاني، بعد تقسيم كردستان لأول مرة إثر معركة جالديران 1514 بين الدولتين العثمانية والصفوية، وتثبيت ذلك التقسيم نهائياً بموجب معاهدة قصر شيرين (زهاو) 1639. التي أُبرمت بين الإمبراطوريتين المذكورتَين. التي منحت الفرصة لإعادة إحياء الدولة العثمانية بعد انهيارها في الحرب العالمية الأولى باسم الدولة ” التركية “، ووضعت العراقيل أمام الآمال الكردية بتطبيق بنود اتفاقية سيفر، وإنشاء دولة كردية باسم كردستان.
جاءت اتفاقية لوزان إثر تطورات دراماتيكية شهدتها المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 ومن ثم مؤتمر الصلح في باريس 1918 – 1920، واتفاقية سيفر 1920 التي دعت إلى استقلال كردستان عن الدولة العثمانية وتأسيس دولة كردية باسم كردستان. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى واستسلامها في مودرس 1918، دعت الجمعيات والصحف الكردية إلى استغلال ذلك وإعلان الاستقلال وتأسيس دولة كردية، وقد ساعد على ذلك استقلال البلاد العربية بعد ثورة الشريف حسين، ووعود الحلفاء خاصة بريطانيا التي طالبت: «بتحرير الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية»، ووصول الضابط الإنكليزي نوئيل إلى كردستان، والاتصال بالزعماء ورؤساء العشائر الكردية. لمعرفة موقف الكرد من العرض البريطاني بفصل كردستان عن تركيا، وتأسيس دولة كردية، الذي كان يردد وبحماس: ((بأن على الكرد الاعتماد على وعود بريطانيا العظمى))[2]. وعزز ذلك الدعوة لعقد مؤتمر عام للسلام «مؤتمر الصلح» في باريس 1918 – 1920، لإعادة تقسيم تركة الإمبراطورية العثمانية والألمانية.
مؤتمر الصلح:
انعقد في باريس بمشاركة 32 دولة ووفود غير رسمية في 18 كانون الثاني 1918 واستمرت أعماله لغاية 21 كانون الأول من عام 1920، وقد ساد المؤتمر جو من التنافس الاستعماري بين الدول المنتصرة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة لتقسيم ممتلكات ألمانيا والدولة العثمانية، وجاءت معظم قرارات المؤتمر لصالح كل من بريطانيا و فرنسا، وقد حاول الكرد تحقيق أمانيهم القومية بالاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية، من خلال هذا المؤتمر، معتمدين على وعود بريطانيا ومبادئ الرئيس الأمريكي ولسون: “حق الشعوب في تقرير مصيرها[3]∗ “.
الوفد الكردي في مؤتمر باريس:
شارك الكرد في المؤتمر بوفد غير رسمي برئاسة الجنرال شريف باشا، (( الذي انتخب لرئاسة الوفد الكردي من قبل جمعية تعالي وترقي كردستان، وحزب استقلال الكرد ، والجمعية الكردية، والحزب الديمقراطي الكردي، لتمثيل الكرد في المؤتمر.))[4]، وضم الوفد فخري عادل بك، وعادل بك المارديني، وصالح بك حسني مدير شؤون شريف باشا، وغالب علي بك سكرتير شريف باشا. وحاول الشيخ محمود الحفيد حاكم السليمانية إرسال وفد خاص إلى باريس للالتحاق بشريف باشا[5]∗، إلا أن الإنكليز حالوا دون وصوله.
لعب الوفد الكردي رغم صغر حجمه، دورا بارزا في المؤتمر، رغم العراقيل التي وضعت أمامه من قبل الدولة العثمانية التي سعت لمنع مشاركة الكرد في المؤتمر، كذلك لم ترتاح بريطانيا وفرنسا، لوجود وفد يمثل الكرد في المؤتمر، لأنها ارادت الانفراد بحل المسألة الكردية وفق مصالحها الخاصة.
وفور وصول شريف باشا إلى باريس أتصل بممثلي أغلب الدول المشاركة في المؤتمر، لشرح القضية الكردية. خاصة ممثل بريطانيا وعرض عليه: «وضع كردستان تحت الانتداب البريطاني». ونسق الجهود مع الوفد الأرمني الذي شارك في المؤتمر بوفدين. أحدهما برئاسة أواديس أوهانيسيان رئيس وفد الجمهورية الأرمنية، والثاني برئاسة الوزير بوغوص نوبار باشا الوزير المصري السابق الذي كان يمثل المقاطعات الأرمنية في الأراضي التركية.
في 29 كانون الثاني من عام 1919 جرى الحديث لأول مرة عن كردستان والقضية الكردية في المؤتمر من قبل ممثل الوفد البريطاني الذي دعا إلى فصل (( أرمينيا وسوريا وميزوبوتاميا وكردستان وفلسطين وشبه الجزيرة العربية عن الامبراطورية التركية فصلاً تاماً…))[6].
موقف بريطانيا:
كانت من أكثر الدول اهتماماً بكردستان، بسبب موقعها الهام في قلب الشرق الأوسط: «التي تسعى بريطانيا للسيطرة عليه برمته». ولقربها من منطقة الخليج ومنابع النفط العربية والإيرانية. وازداد اهتمامها بكردستان بعد اكتشاف النفط فيها وبكميات كبيرة.
موقف فرنسا:
اهتمت فرنسا بكردستان، لأن السياسة الفرنسية كانت ترتكز بشكل رئيسي على السيطرة الاقتصادية والمالية على الدولة العثمانية، وبسط سيطرتها على شرق المتوسط، خاصة «سوريا ولبنان». وكان النفوذ الفرنسي واضحا في كردستان من خلال البعثات التبشيرية، والمدارس الفرنسية، والمشاريع الاقتصادية.
وجهة النظر الكردية:
ورداً على فكرة تقسم كردستان أرسل شريف باشا رئيس الوفد الكردي في المؤتمر رسالة إلى رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو بوصفه رئيساً للمؤتمر، طالب فيها باستقلال كردستان وعرض وجهة النظر الكردية على ” المجلس الأعلى للمؤتمر ” من خلال مذكرتين الأولى باللغة الفرنسية في 22 آذار من عام 1919 وهي تحمل توقيع الجنرال شريف باشا رئيس الوفد الكردي إلى مؤتمر باريس، وقد طبعت على شكل كراس خاص يقع في 14 صفحة. وتضمنت ((المطالب المشروعة للأمة الكردية))، وطالب بتأسيس دولة كردية مستقلة، وفق مبادئ ولسون «حق الشعوب في تقرير مصيرها» وفي المذكرة معلومات عن الكرد ومناطق سكناهم، ووضعهم، ونضالهم، ومطالبهم. وعلاقتهم مع الأرمن. مرفقة بخارطة لكردستان ضمت كردستان تركيا، وجزءً كبيراً من ولاية الموصل.
وقدم المذكرة الثانية في 1آذار 1920، شدد خلالها على ضرورة فصل الأراضي الكردية عن الدولة العثمانية، وتأسيس دولة كردية مستقلة على غرار الدولة الأرمنية. بحدود على كل من بحر قزوين والبحر المتوسط، لتصدير الثروات الكردستانية إلى الخارج. ودعا فيها إلى تشكيل لجنة دولية تشرف على ضم الأراضي التي يؤلف الأكراد فيها الأكثرية إلى الدولة الكردية المستقلة «كردستان».
وحاول الرئيس الامريكي ولسون من خلال جلسات المؤتمر تقليص النفوذ البريطاني – الفرنسي في منطقة الشرق الأوسط ، بطرح فكرة الانتداب[7]∗ على الشعوب والمناطق التي يتم فصلها عن الامبراطورية العثمانية. إلا أن انسحاب الوفد الأمريكي من المؤتمر، وتشابك مصالح بريطانيا وفرنسا، أديا إلى الإسراع بالبحث عن تفاهمات واتفاقيات لتقاسم التركة العثمانية «الغنية»، واستمرت المفاوضات حتى توصلت بريطانيا وفرنسا إلى اتفاق أولي على تقاسم التركة العثمانية في مؤتمر سان ريمو في 24 تموز 1920 بالاعتراف بالانتداب البريطاني على العراق وفلسطين، والانتداب الفرنسي على سورية ولبنان. والتمهيد لاتفاقية سيفر.
معاهدة سيفر 10 آب 1920
تتألف من 13 باباً و433 بنداً، أعدتها خمس لجان خاصة تفرعت من مؤتمر الصلح في باريس. وقد جاءت وفق مصالح الدول الاستعمارية ولا سيما إنكلترا وفرنسا. وقد سميت هذه المعاهدة بمعاهدة سيفر نسبة إلى مدينة سيفر الفرنسية القريبة من باريس، وتم التوقيع عليها في 10 آب 1920 بين إنكلترا وفرنسا وإيطاليا واليابان وبلجيكا واليونان ورومانيا وبولونيا والبرتغال وجيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا والحجاز وأرمينيا من جهة، والإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى.
احتلت القضية الكردية مكاناً بارزاً في معاهدة سيفر اذ خصص القسم الثالث من الباب الثالث من المعاهدة لمعالجة المسألة الكردية وحمل هذا القسم عنوان: «كردستان» ويتألف من البنود 62,63,64 ((التي هدفت إلى انشاء دولة كردية مستقلة في تركيا، يمكن أن ينضم إليها أكراد كردستان العراق «ولاية الموصل» إذا ارادوا ذلك. كما تطرقت المعاهدة إلى القضية الكردية أكثر من مرة خلال مناقشة المسألة الأرمنية ومسألة الأقليات داخل تركيا. كالفصل الرابع الذي هدف إلى حماية الاقليات. والفصل السادس الذي حمل عنوان « أرمينيا »، والفصل السابع الذي حمل عنوان « سوريا، ميزوبوتاميا، فلسطين.))[8].
البند 62:
تقوم لجنة مؤلفة من ثلاثة أعضاء معينين من قبل الحكومات البريطانية والفرنسية والايطالية مركزها اسطنبول، خلال ستة أشهر من تاريخ تنفيذ مفعول هذه المعاهدة، بإعداد مشروع حكم ذاتي محلي للمناطق التي يشكل فيها الأكراد الأكثرية والتي تقع إلى الشرق من الفرات وإلى الجنوب من الحدود الجنوبية لأرمينيا، كما تحدد فيما بعد، وإلى الشمال من الحدود التركية مع سوريا وميزوبوتاميا بشكل متوافق مع الوصف الوارد في ” 11,3,2 ” من البند السابع والعشرين من المعاهدة.
وفي حالة حدوث اختلاف في الرأي حول موضوع ما، يعرض الاختلاف من قبل أعضاء اللجنة على حكوماتهم المعنية ويجب أن تتضمن هذه الخطة الضمانات التامة لحماية الآشوريين – الكلدان وغيرهم من الأقليات العنصرية أو الدينية الداخلة في هذه المناطق. ومن أجل هذا الغرض تقوم لجنة مؤلفة من ممثلين بريطاني وفرنسي وايطالي وإيراني وكردي بزيارة الأماكن لدراسة التغيرات التي يجب اجراؤها، عند الحاجة في الحدود التركية حيثما تلتقي بالحدود الإيرانية، ولتقريرها، بحكم قرارات هذه المعاهدة.
البند 63:
تتعهد الحكومة التركية من الآن بالاعتراف بقرارات اللجنتين المذكورتين في البند 62 والقيام بتنفيذها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ ابلاغها بها.
البند 64:
((إذا راجع الأكراد القاطنون في المناطق الواردة ضمن البند 62، مجلس عصبة الأمم خلال سنة من نفاذ هذه المعاهدة، مبينين أن أكثرية سكان هذه المناطق يرغبون في الاستقلال عن تركيا.
وإذا وجد المجلس آنذاك أن هؤلاء جديرون بمثل ذلك الاستقلال وإذا أوصى – المجلس- بمنحهم إياه، فإن تركيا تتعهد من الآن أن تراعي تلك الوصية، فتتخلى عن كل مالها من حقوق وحجج قانونية في هذه المناطق، وتصبح تفاصيل هذا التنازل موضوع اتفاق خاص بين الدول الحليفة الرئيسة وتركيا.
وإذا وقع مثل هذا التخلي، وفي الوقت الذي يحدث فيه، فان الدول الحليفة الرئيسة لن تضع أي عراقيل بوجه الانضمام الاختياري للأكراد القاطنين في ذلك الجزء من كردستان الذي مازال حتى الآن ضمن ولاية الموصل، إلى هذه الدولة الكردية المستقلة))[9].
رغم هذه الوعود بضمان حقوق الكرد حتى الاستقلال، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن الحلفاء لم يكونوا جادين في تنفيذ بنود المعاهدة بالقوة، إذ لم تصادق عليها من بين جميع الدول الموقعة عليها سوى ايطاليا. نتيجة تغير موازين القوى وتعزيز موقع الكماليين في أنقرة الذين لم يعترفوا بحكومة فريد باشا التي وقعت على معاهدة سيفر.
رغم وعود الحلفاء بضمان حقوق الكرد حتى الاستقلال، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنهم لم يكونوا جادين في تنفيذ بنود المعاهدة بالقوة، إذ لم تصادق عليها من بين جميع الدول الموقعة عليها سوى ايطاليا، نتيجة تغير موازين القوى وتعزيز موقع الكماليين في أنقرة الذين لم يعترفوا بحكومة فريد باشا في إستانبول التي وقعت على معاهدة سيفر. وخارجياً بفضل إقامة علاقات وطيدة مع الاتحاد السوفياتي، وإبرام معاهدة موسكو «معاهدة الأخوة والصداقة» مع روسيا الاتحادية في 1921/3/16، التي ((تضمنت التعاون المشترك بين البلدين، وتقديم الدعم المادي والعسكري لتركيا، بالإضافة إلى إعادة ترسيم الحدود بين البلدين واقتسام بعض الأراضي. ))[10]. وأبدت الحكومة السوفيتية (( رغبتها بإقامة علاقات دبلوماسية وقنصلية مع حكومة أنقرة، واستعدادها للقيام بدور الوسيط في المحادثات بين تركيا وأرمينيا وإيران ))[11]، واعترف الاتحاد السوفييتي بحكومة المجلس الوطني الكبير برئاسة كمال أتاتورك. وبذلك كانت أول دولة تعترف بالحكومة الحكومة الجديدة في أنقرة. وأدى ذلك إلى تغيير موقف الدول الغربية من تركيا
على الصعيد الكردي:
عززت اتفاقية سيفر الآمال بإنشاء دولة كردية مستقلة، وعندما تأكد لهم أن حكومة كمال اتاتورك لا تعترف بهذه المعاهدة، وترفض منح الكرد اي حق من حقوقهم حتى ((الحكم الذاتي)) تحرك الزعماء الكرد لتنفيذ ذلك. وقام خالد بك جبري بالتعاون مع عبد القادر النهري وعبد الرحمن حكاري ويوسف زيا بنشاط واسع والعمل من أجل تطبيق ما جاء في معاهدة سيفر على أرض الواقع.
وأرسلت جمعية انبعاث كردستان عدة مذكرات لعصبة الأمم ((لتنفيذ ما ورد في معاهدة سيفر، وتم ارسال برقية إلى مجلس الأمة التركي للمطالبة بدولة كردية في ولايات: ديار بكر، العزيز، وان، بتليس. كما ورد في معاهدة سيفر، وإلا سيضطر الكرد إلى انتزاع هذا الحق بقوة السلاح))[12]. وحاولت حكومة أنقرة شق الصف الكردي والادعاء بأن الحكومة تدرس مطالب الكرد، وستتخذ قرارات لصالح الكرد. ففي مؤتمر أرزروم 1919 ( 23 تموز – 4 آب 1919 ) أعلن كمال اتاتورك أن على الكرد والاتراك محاربة الأعداء معا، وأن الاتراك والاكراد شركاء في هذا الوطن، لكن في مؤتمر سيواس ( 4-11 أيلول 1919 ) غيره موقفه من المطالب الكردية واتهم الصدر الأعظم بالخيانة لأنه وافق على منح الكرد الحكم الذاتي وقد (( بالغ اتاتورك في صداقة وعلاقة الكرد مع الإنكليز، واتهمهم بالعمالة للإنكليز.))[13]. تمهيدا لضرب حركاتهم.
إلا أن ذلك لم يقنع الزعماء الكرد، وعندما تأخر الرد التركي على المطالب الكردية، اندلعت ثورة كردية عام 1921 شملت مناطق واسعة من كردستان، تم اخمادها بوحشية. ومن مجريات الأحداث على الأرض، ونظرا لتغير الموقف الدولي من الكرد ومعاهدة سيفر، توجه الجميع إلى إعادة النظر في سيفر. فكان مؤتمر لندن.
مؤتمر لندن: 21- شباط ولغاية 14 – آذار عام 1921:
عقد في العاصمة البريطانية لندن بين الحلفاء وتركيا «بمشاركة وفد تركي موحد برئاسة أول وزير خارجية تركي بكر سامي بك». وفي 26 شباط 1921 جرى بحث المسالة الكردية بصورة خاصة ومنفردة، وألمحت دول الحلفاء إلى أنها (( تعتزم تقديم تنازلات أمام تركيا وإعادة مناقشة مستقبل كردستان وأرمينيا.))[14].
وقد رفضت تركيا مناقشة وضع الكرد وكردستان في المؤتمر وأصرت على أن الوفد يمثل تركيا وكردستان أيضاً، وأن المسالة الكردية مسألة داخلية، وطالبت بإلغاء بنود معاهدة سيفر المتعلقة بكردستان. وتمسكت بريطانيا بالملف الكردي وبدت وكأن بريطانيا وحدها معنية بالحفاظ على معاهدة سيفر وتطبيق بنودها المتعلقة بالقضية الكردية، وأخذت فرنسا بمغازلة كمال اتاتورك الذي حسن وضعه الداخلي بالتحالف مع الاتحاد السوفياتي، والانتصارات المتتالية على القوات اليونانية. وعندما وجدت بريطانيا أن حكومة انقرة ثابتة على موقفها ألمحت إلى أنها: على (( الاستعداد لتعديل معاهدة سيفر ))[15]، دون المساس بجوهرها العام. وتخلت بريطانيا عن الاستقلال والدولة الكردية وطلبت من الحكومة التركية (( منح الاستقلال الذاتي للولايات التي يعيش فيها غالبية كردية، وتحديد حدودها بدقة ))[16]. فرد وزير الخارجية التركية بكر سامي: (( بأن الاستقلال الذاتي لن يمنح للأكراد وحدهم، بل بوجه عام لجميع الولايات، وسيتم تطبيق لا مركزية واسعة.))[17]. وعلى هامش المؤتمر وقعت فرنسا مع حكومة أنقرة اتفاقية عسكرية، سياسية، اقتصادية عززت من خلالها مصالحها في تركيا. وقامت بتعديل حدود الانتداب الفرنسي على 1921 سوريا.
وبعد أن ضمنت بريطانيا سيطرتها على « ولاية الموصل » تحسنت العلاقات البريطانية – التركية، فأعلن وزير الخارجية التركية: ((أن ميزوبوتاميا ثمن بخس مقابل الصداقة البريطانية.))[18]. هكذا كان مؤتمر لندن أكثر من خطوة إلى الوراء بالنسبة للقضية الكردية، وتكريس لتجزئة كردستان، تخلت فيه بريطانيا وبقية حلفائها عن كردستان لأنقرة عدا كردستان الجنوبية التي تقع ضمن ولاية موصل.
مؤتمر شؤون الشرق الأوسط المعروف باسم مؤتمر لوزان 1923
تمت الدعوة لعقد مؤتمر شؤون الشرق الأوسط المعروف باسم (مؤتمر لوزان) في مدينة لوزان بسويسرا في20 تشرين الثاني من عام 1922 الذي استمر لثمانية أشهر، مع انقطاعات بلغت حوالي 3 أشهر. وكان هدف المؤتمر التفاوض على معاهدة جديدة مع الحكومة التركية في أنقرة التي رفضت الاعتراف بمعاهدة سيفر، وبعد مفاوضات شاقة وطويلة تم تسوية الخلافات بين بريطانيا وفرنسا من جهة، والحكومة التركية الجديدة برئاسة كمال اتاتورك (( رفض بشدة الحقوق القومية والسياسية وحتى الإنسانية للكرد.))[19]من جهة أخرى، وقد ترأس الوفد التركي عصمت إينونو بمشاركة الحاخام اليهودي ناحوم حاخام استانبول، مع افتتاح الجلسة الأولى للمؤتمر لوحت « بريطانيا وفرنسا » إلى أنها مستعدة للوصول إلى حلول وسط في القضايا الخلافية. ورضخ الحلفاء للشرط التركي برفض ((مشاركة أي وفد كردي في المؤتمر، ومنع مناقشة القضية الكردية في كردستان تركيا بشكل خاص. ))[20].
وكانت بريطانيا وفرنسا على استعداد للتنازل عن بعض امتيازاتهما في تركيا، خوفا من ارتماء كمال اتاتورك في أحضان الاتحاد السوفياتي، بذريعة أن ذلك يشكل خطرا على مصالحهما في المنطقة. لذلك وافقت على الشروط التركية، وبذلك تعززت مواقع تركيا في المنطقة وعلى الساحة الدولية، وتغيرت موازين القوى لصالح حكومة أتاتورك في أنقرة التي انفردت بالحكم في تركيا، حيث قامت بإلغاء السلطنة العثمانية وحكومة الباب العالي، ونقل العاصمة من إستانبول إلى أنقرة، وإلغاء الخلافة وإعلان النظام الجمهوري 1923، مقابل الاعتراف بالجمهورية التركية.
وبناءً على التفاهم التركي مع الحلفاء لم تطرح القضية الكردية في لوزان، فقد تجاهلت القوى المتصارعة خاصة بريطانيا وفرنسا مصير الشعب الكردي، ووعودهم بإنشاء دولة كردية، وقد استُخدِمَ اسم الكرد وكردستان من قبل الجميع للابتزاز والمساومة، والانطلاق منه لتحقيق مصالحهم الخاصة.
في لوزان تم إلغاء معاهدة سيفر وتسوية أوضاع منطقة الأناضول، والقسم التركي من القارة الأوروبية، والاتفاق على كيفية تسديد الديون الأوروبية، وآليات المرور في المضائق التركية. بالإضافة إلى بعض الحقوق التي وردت في بعض مواد الاتفاقية التي يمكن تأويلها بأكثر من معنى، كـ:
المادة: 38
تتعهد الحكومة التركية بضمان الحماية الكاملة والتامة للحياة والحرية لسكان تركيا من غير تمييز بين المولد أو الجنسية أو اللغة أو العرق أو الدين. يحق لجميع سكان تركيا أن يمارسوا بحرية، سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، أي عقيدة أو دين أو معتقد لا يتعارض احترامها مع النظام العام والأخلاق الحميدة.
المادة: 39
يتمتع المواطنون الأتراك الذين ينتمون إلى أقليات غير مسلمة بنفس الحقوق المدنية والسياسية التي يتم يتمتع بها المسلمون. وجميع سكان تركيا، دون تمييز ديني، هم سواسية أمام القانون. ولا تخل الاختلافات في الدين أو العقيدة أو الاعتراف بحق أي مواطن تركي في الأمور المتعلقة بالتمتع بالحقوق المدنية أو السياسية، مثل القبول في الوظائف العامة والوظائف والأوسمة، أو ممارسة المهن لصناعات.
ولا يجوز فرض قيود على الاستخدام الحر لأي مواطن تركي لأي لغة في اللقاءات الخاصة أو التجارة أو الدين أو الصحافة أو المطبوعات من أي نوع أو حتى في الجلسات العامة. وعلى الرغم من وجود اللغة الرسمية، يجب توفير التسهيلات الكافية للمواطنين الأتراك الذين يتحدثون بلغات غير تركية، لاستخدام لغتهم شفويا أمام المحاكم.
المادة: 42
وبالمثل فإن الحقوق الممنوحة بموجب أحكام هذا القسم بشأن الأقليات غير المسلمة في تركيا. سيتم منحها بالمثل للأقلية المسلمة في أراضيها[21].
وفي 24 تموز 1923 تم طي صفحة سيفر، ولم يرد ذكر للكرد في بنود المعاهدة الجديدة الـ 143 «معاهدة لوزان» التي تم التوقيع عليها في المدينة السويسرية الهادئة، التي شهدت تحطم أماني الشعب كخزف مدينة سيفر
النتيجة:
الدول الكبرى تبحث عن مصالحها، دون الالتفات إلى القيم الأخلاقية، أو مصائر الشعوب. ففي عالم السياسية، هناك المصالح، والقوة. وإن الدول التي تقتسم كردستان ومهما كانت خلافاتها، تضع تلك الخلافات جانبا وتتفق معاً لمواجهة القضية الكردية، وخير مثال على ذلك اللقاءات الثلاثية خلال حرب الخليج بين تركيا وإيران وسوريا التي أصبحت الآن رباعية بانضمام العراق إليها.
والنتيجة الأهم من خلال هذه الدراسة هي ضرورة قيام الحركة السياسية الكردية في كافة أجزاء كردستان والمهجر وبالتعاون مع النخبة الثقافية الكردية بإجراء تقييم دقيق لكافة التجارب الكردية والتوقف عند الإخفاقات الكردية واسبابها الموضوعية والذاتية، واستخلاص العبر منها.
××××
المصادر:
(أبو بكر)، د. أحمد عثمان، كردستان في عهد السلام. رابطة كاوا للثقافة الكردية، ط1،
(النعيمي)، د. أحمد نوري، العلاقات الروسية التركية، دراسة في الصراع والتعاون. زهران للنشر، عمان، ط1،
(جعفر)، د. مجيد، كردستان تركيا. مطبعة أميرال، بيروت، ط1،
(شركوه)، د. بله ج. القضية الكردية (ماضي الكرد وحاضرهم). دار الكاتب. بيروت. ط 1986.
(رفيق) عادل، النص الكامل لمعاهدة لوزان 1923، المعهد المصري للدراسات، القاهرة، ط1،
(لازاريف)، م. س، المسألة الكردية، ترجمة: عبدي حاجي، دار الفارابي ط2،
(مظهر)، د. كمال أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى. ترجمة: محمد ملا عبد الكريم. بلا.
(مكدول)، ديفيد، تاريخ الأكراد الحديث، ترجمة: راج آل محمد، دار الفارابي – بيروت، ط1،
(نيكيتين)، باسل. الكرد. ترجمة: صلاح برواري. بلا.
(هسرتيان)، م، أ. كردستان تركيا بين الحربين، ترجمة: سعد الدين ملا – بافي نازي، رابطة كاوا للثقافة الكردية، ط1،
[1] – (رفيق)، عادل، النص الكامل لمعاهدة لوزان 1923، ص 3. المعهد المصري للدراسات، القاهرة، ط1 2020.
[2] – (مظهر)، د. كمال أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى. ص 337.
[3] – مبادئ ولسون: وضعها الرئيس الأمريكي وودر ويلسون عام 1918، وتتألف من 14 مادة ، ترتكز على مبدأ الاهتمام بمستقبل السلم والأمن في الشرق الأوسط.
[4] – (شيركو) د. به له ج، القضية الكردية. ص 82.
[5]– الجنرال: شريف باشا: هو محمد شريف بن سعيد باشا بن حسين باشا الخندان، من عائلة بابان الكردية المشهورة، التي تسنمت الكثير من الوظائف العليا في الدولة العثمانية، فكان والده وزيراً للخارجية ثم رئيساً لمجلس شورى الدولة. عين عام 1898 وزيرا مفوضا للدولة العثمانية في استوكهولم وظل في منصبه حتى اعلان الدستور العثماني 1908، ثم عاد إلى تركيا وانخرط في صفوف الحركة الكردية وساهم في تأسيس جمعية تعالي وترقي كردستان مع أمين عالي بدرخان.
[6] – (أبو بكر) ، د. أحمد عثمان، كردستان في عهد السلام. ص 8.
[7] – الانتداب: حسب ميثاق الأمم المتحدة هو تمكين دولة تدعي مساعدة البلدان الضعيفة المتأخرة على النهوض وتدريبها على الحكم، حتى تصبح قادرة على أن تستقل وتحكم نفسها بنفسها. بشرط أن تراعى رغبة البلد المشمول بالانتداب في اختيار الدولة المنتدبة.
[8] – (مظهر)، د. كمال أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى. ص 344
[9] – (مظهر)، د. كمال أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى. ص 346.
[10] – (نيكيتين)، باسيل، الكرد، ص 190.
[11] – (النعيمي)، د. أحمد نوري، العلاقات الروسية التركية، ص 26.
[12] – (حسرتيان)، م، كردستان تركيا بين الحربين، ص 35.
[13] – (لازاريف)، م، س، المسألة الكردية 1917-1923م، ص 214.
[14] – (لازاريف)، م. س، المسألة الكردية، ص 434.
[15] – (مظهر)، د. كمال أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى. ص 349.
[16] – (أبو بكر)، د. أحمد عثمان، كردستان في عهد السلام. ص 227.
[17] – (أبو بكر)، د. أحمد عثمان، كردستان في عهد السلام. ص 227.
[18] – (لازاريف)، م. س، المسألة الكردية، ص 434.
[19] – (جعفر)، د. مجيد، كردستان تركيا. ص 285.
[20] – (لازاريف)، م. س، المسألة الكردية، ص 472.
[21] – 4- (رفيق) عادل، النص الكامل لمعاهدة لوزان 1923، ص 17 و 18.