قراءة في رواية “الشرنقة”… رائعة الأديب البحريني د. جعفر الهدي

محمد نصار (كاتب فلسطيني)_
“كان بيني وبين منصة الإعدام بضع خطوات… بضع لحظات فقط، لكني بلحظة واحدة منها، استعدت كل حياتي وخبأت صدري، فقد كنت أعلم بأنها اللحظة، التي سيُثقب فيها بأربعة ثقوب وعندها ستبدأ روايتي”.
بهذا المفتتح اللافت، أو بهذه العتبة النصيّة المثيرة للانتباه، يبدأ د. جعفر الهدي بسرد وقائع روايته، التي تأخذنا إلى أعماق الشرنقة التي تُطبق علينا بإحكام ويطوف بنا عبر أزمنة وأمكنة متعددة، تتداخل خيوطها وتتشابك، على نحو يجعل القارئ المتمرّس يتوه في دروبها وربما يتساءل: كيف استطاع الكاتب، أن يمسك بكل هذه الخيوط ويحرّك شخوصه داخل تلك المسارات المعقدة، سواء على مستوى الزمان والمكان، أو الغوص في غمار النفس البشرية، على النحو الذي أبدعه في شخصية البطل / حسين البصراوي، وتعدّد الشخوص التي سكنته.
 يقول الروائي المصري الجميل هشام عيد: في كل عمل روائي كبير، يجب أن تكون هناك منطقة وعِرة، لا يجتازها إلا قارئ صبور، تخرّج الكاتب من عباءة الحِكاء، لينضم إلى صفوف الذين ضحّوا بالترفيه احتراماً للكلمة، بعدها يسير القارئ يداً بيدٍ مع الكاتب، لا يتبادلان الحديث والعراك فحسب، بل يتبادلان ضخ الدماء واللهب في الأوردة، لست عازف ربابة جئت لتسليتك، بينما تتناول قدح الشاي، لقد احترقت حتى أتحوّل إلى أحرف على الورق، لقد مشيتُ حافياً وأكلت من ورق الشجر، فلا أقل من أن تبقي عينيك مُحدقتين وأن تخلع نعليك لتجتاز العقبة.
توصيف رائع وجميل من كاتب كبير، مشهود له بالعديد من الأعمال الإبداعية المميزة ولعله من أبرز التوصيفات التي تُعرض للكاتب المبدع ومدى حرصه على النص الذي ينزفه من روحه ودمه، ليضعه أمام القارئ وإشارة ذكية إلى طبيعة النصوص، التي يجب أن تكون من صميم الروح وليست مجرد تسلية.
هذا رأي أحترمه وأجلّه وكنت في العديد من اللقاءات والمقالات، قد أشرت بأن الرواية تحديداً، لم تعد مجرد حكاية كما يتوهم البعض، بل هي نزف من صميم الروح، لإعادة صياغة هذا الواقع، بكل تناقضاته وفلسفته وقضاياه من منظور الكاتب، لخلق واقع جديد، بكل ما فيه من رؤى وفلسفة وأسئلة ومعارف، بلغة جذّابة قادرة على حمل هذه الأفكار إلى الغاية التي يريدها الكاتب.
تقع هذه الرواية الصادرة عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع بالعراق الشقيق في ثلاثمائة صفحة من القطع المتوسط وتدور أحداثها على أرض العراق الأبي وتسير في زمانين مُتباعدين، واحد يبدأ في عصرنا الحديث وتحديداً زمن النظام السابق والآخر يرتد لألف سنة إلى الوراء زمن المقتدر العباسي و منصور بن حسين الحلاج، حيث يبدأ الكاتب رحلته الروائية، بهذا المشهد المثير والمحفّز للقارئ، على الانخراط في تفاصيل العمل وهو مدخل ذكي وجاذب للمتلقي، فيقول: “الحافلة الصغيرة تسير بطريق متعرّج، بين البساتين في أرض السواد وبالتحديد في الجنوب منه، إنه ذلك اليوم الذي تبدلت فيه حياتي، ترى هل ما حدث للتو أمام عيني حقيقي، أم أصبت بلوثة في عقلي؟
لقد رأيت ما حدث بوضوح من نافذة الحافلة.. لا، لا يمكن أن يكون وهماً أو خيالاً، لقد حدث كل شيء أمام عيني، نعم سأعيد ما حدث من البداية، لأتأكد من أنني لستُ مجنوناً، فجأة ظهرت مجموعة من رجال الشرطة وأوقفوا الحافلة وهم يُزمجرون، ركب أحدهم وكان طويلاً وضخماً، بحيث أحنى رأسه، لينظر إلى وجوه الركاب ودون أن يتكلم أمسك بيد الرجل الذي إلى جواري وجرّه خارج الحافلة كما تُجرُّ النعجة.
صرخ شرطي آخر في ركاب الحافلة: نكسوا رؤوسكم، ثم دوى صوت الرصاص، فخيّم صمت مُطبق ورغم أني كنت متكوراً، إلا أنني رأيت رأس ذلك الرجل الفقير ينفجر ويتطاير، تفجر الدم كلهب بركان غاضب، الغريب أن أياً من الركاب لم ينطق بحرف.”
مشهد غاية في الدموية والقسوة، يصوّر ببراعة فائقة، فداحة الحال التي وصلنا إليها في عالمنا العربي، كسوريا وليبيا واليمن والعراق، التي تدور على أرضها الرواية، حيث يُقتل الرجل لا يدري فيما قُتل ويَقتل الرجل لا يدري فيما قتل وهو نتاج واضح وفاضح للربيع العبري، الذي ضيّع بلادنا وسمّيناه بغباء منقطع النظير بالربيع العربي.
الرواية التي نتحدث عنها، تجري أحداثها على أرض العراق الحبيب، كنموذج حي لحالة الضياع التي نعيشها في العديد من البلدان العربية، واستطاع الكاتب بذكاءٍ كبير، أن يهرب من سطوة الواقع، التي قد تقود إلى المباشرة والتقريرية بالاستعانة بزمانين ومكانين بعيدين، ليرسم شباكه وخيوطه بِحرفيّة وفنيّة عالية، حيث العراق اليوم بكل ما فيه من صِراعات وفِتن وعراق المقتدر زمن الدولة العباسية، فزمانان مختلفان ومكانان كذلك، تجري بينهما أحداث الرواية ممثلة بشخص حسين البصراوي، الشاب العشريني الفار من جريمة اقترفها بحق شيخه، حين غلبه وسواسه وتملكته الغيرة والحسد، من الحظوة والمكانة التي يحظى بها الشيخ وسط أهله وقريته، فقتله خنقاً ودفنه داخل المزرعة التي يمتلكها وكأنها إشارة، يغمز الكاتب من خلالها إلى الصراعات، التي تنشب بين الفرق والجماعات، التي تحمل راية الدين لتحقيق غايات خاصة والدين منها براء وتصوير بارع لحالة التبدلات التي تنتابها بين حين وآخر فلا تعرف لها قرار، أو في أي اتجاه تسير وهو ما جسدته شخصية البطل الذي كان يوماً قاتلاً ويوماً عابداً ناسكاً ويوماً مع النظام وآخر مع الثورة وهي حالة من التخبط والتشظي، التي آلت به إلى حالة من الضياع والشتات، حتى صار منبوذاً.. عارياً أمام الناس، من كل زيف ادعاه، تماماً كحالة التخبط التي تعيشها هذه الجماعات، في واقع اليوم، فلا تعرف ماذا تريد ولا في أي جهة تقف، لتنتهي في كل مرة إلى التيه والضياع.
هذا الشاب الذي سنكتشف بعد لحظات، أنه كان متجهاً إلى بغداد، لزيارة أضرحة الصالحين والتطهر من جريمته التي اقترفها، سنكتشف أيضاً بأنه صار مسكوناً بعدد من الأرواح، التي تتصارع في داخله في إشارة واضحة لما يُعرف بتناسخ الأرواح، التي يؤمن بها كثيرون من أهل زماننا، وأبرزها شخصية، أو روح المنصور بن حسين الحلاج، الذي كان بادي التأثر به وحفظَ أشعاره وكُتبه ومقولاته عن ظهر قلب، هذه الشخصية التي أبدع الكاتب في رسمها وذكرتني بشخصية الطالب راسكوف في رائعة دوستوفسكي الجريمة والعقاب، حيث الشخصية التائهة المتشظية، التي كانت ضحية تبدلات المجتمع في حينه ودفعته لقتل صاحبة المنزل، الذي كان يقيم فيه وهو بالضبط ما كان مع بطلنا الذي كان أيضاً، ضحية تبدلات عظام وقعت على أرض العراق الحبيب، في الخمسة عقود الماضية وخلقت العديد من الحالات المشابهة، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات وساقت لها ذات التبريرات في ارتكاب جرائمها، سواء بغطاء ديني أو أخلاقي، سرعان ما ينكشف ويتضح أنه لا يخدم إلا الشخص ذاته.
المُلفِت هنا، أن الكاتب استطاع رسم شخصية بطله، باقتدار عالٍ وأمسك بخيوط تبدلاته واضطرابه، على نحو يشي بأنك أمام عالم نفس مقتدر، يستطيع الغوص في مجاهل النفس البشرية وكشف أغوارها، بكل حنكة ودراية، كما لا بد من القول، أن الكاتب استطاع بمهارة فائقة، الربط بين زمانين مغايرين، ضمن سياق الرواية، دون تكلّف أو حشو وهو ما ينم عن دراية واسعة بالفن الروائي وتكنيكاته المتعددة، وإن كان لي من تعليق في هذا الباب، فإني آخذ على الكاتب بعض الإطالة في سرد بعض الوقائع التاريخية في زمن المقتدر، بحيث شعرت أنها أثقلت النص وذهبت به أحياناً قليلة نحو التقريرية والتأريخ.
ومع كل ما سلف، فإنني أقول بكل ثقة ويقين، أننا أمام عمل روائي كبير ومتميز، سواء من حيث التكنيكات المتبعة أو اللغة الرشيقة، المشبعة بدفقات شعرية واضحة، أو المضمون والمحتوى، المكتنز بالمعارف والإسقاطات الثقافية والفلسفية وكثير من الأسئلة، التي نقف أمامها حائرين، فتفتح أمامنا مزيداً من الأسئلة، هي قراءة مُضنية لواقع أشد قسوة، هي غوص في النفس البشرية، التي لا ترسو على حال ولا تقنع بما لها، هي عمل يُشكل حالة فريدة ومميزة ورصيد أدبي ومعرفي ثري لمكتبتنا العربية.
في الختام، هذه إضاءة بسيطة، لعمل يحتاج إلى المزيد من الدرس والتحليل ولفتة متواضعة من ذائقة أديب للناقد المختص، لكي يولي هذه الأعمال المميزة، المزيد من الجهد والبحث، حتى تنال حظها الذي تستحق.

​الثقافة – صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية