الراحل رشيد صوفي، من مقال الريف إلى مقام المدينة: “إن رحلت من هنا، ماذا سيبقى؟!”
حسين الحج (ممو سيدا)
منذ شهرين، أهداني أحد الأصدقاء ديوانه الشعري الأول، فشرعت تصفحه متنقلاً بين قصائده، حتى استوقفتني إحداها، متميزةً عن سائرها، إذ افتُتحت بسؤال يطرق أبواب الوجدان، متغلغلًا في أعماق كل إنسان يتأمل إرثه وما يخلّفه بعد الغياب: “إن رحلت من هنا، ماذا سيبقى؟!”
في أيلول من عام 2001، وقبيل أيام قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وخلال إحدى زياراتي النادرة إلى دمشق، رافقني الصديق ينال طاهر إلى استوديو الموسيقي سعد الحسيني، حيث كان غارقًا في تسجيل عمل جديد. هناك، التقيت بالممثل القدير عبد الرحمن آل رشي، الذي كان جالسًا في ركنٍ من الاستوديو. وما إن قدّمني ينال إليهما حتى سارع كلاهما إلى الاستفسار عن رشيد صوفي وأخباره، قبل أن يشرعا في التعبير عن آرائهما وتحفّظاتهما حوله.
من اللحظات التي لا تزال عالقة في ذاكرتي أن الحسيني أسمعني لحنًا وضعه لأغنية ينال طاهر، مستندًا إلى مقام الكرد من درجة صول، لينتقل منه إلى مقام بيات الري. آنذاك، ذكر الحسيني أن رشيد صوفي كان قد أبدى اعتراضه على هذا التحوّل المقامي، معتبرًا إياه غير سليم من الناحية الموسيقية. إلا أن الحسيني عقّب ممازحًا: “عملت وظبطت، وين الغلط!”
وفي ختام الجلسة، سلّمني آل رشي رسالة شفوية بالكردية لأنقلها إلى رشيد صوفي، قال فيها: “سلاڤا لرشید بك، و ژێره بێژه عبدالرحمن ژ ته غییدی یه.” أي: “بلغ تحياتي لرشيد، وقل له إن عبد الرحمن قد أخذ على خاطره منك”، في إشارة إلى وعود صوفي التي لم يفِ بها.
يومها، كنت أشعر بالحرج من الاعتراف بأنني لا أعرف رشيد صوفي معرفة شخصية، ولم يحدث أن التقيته أو تحدّثت إليه، سوى بضع مرات لمحته فيها عن بعد، جالسًا بين جيرانه وأصدقائه على رصيف الحي. وربما كان لهذا التباعد أسبابه التي ألمح إليها الحسيني وآل رشي والكثير من الأشخاص من قبلهم؛ فالأول صوّره كناقد لاذع، لا يتوانى عن إبداء رأيه المباشر والصريح، والجارح غالباً، في كل المغنين والموسيقيين، والثاني وصفه بالروح البوهيمية، الرافضة للالتزام والانقياد، المتحررة من كل قيد زماني أو مكاني.
لهذا، لم تكن شخصيته أو علاقاته بالآخرين تعنيني بقدر ما شدّني إلى عالمه صوته وموسيقاه وأغانيه. مع رشيد صوفي، فضّلت النص على السياق المحيط، إذ إن السياق نسبي ومتغيّر، بينما النص خالد. ومع ذلك، فإن هذا النصّ القيّم بحدّ ذاته كان سياقاً هاماً جداً، خلق حراكًا في المشهد الموسيقي لكوباني أولًا، ثم أسهم في تشكيل ملامح جديدة لموسيقى بعض الموسيقيين من الكرد السوريين.
يمكن لمن يتتبع المسيرة الموسيقية لرشيد صوفي أن يلحظ ارتباطها الوثيق بجملة من العوامل التاريخية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. كما يمكن استقراء التحولات التي طرأت على تجربته الموسيقية، بدءاً من تغييرات عفوية غير مقصودة، وصولاً إلى تطورات ممنهجة جاءت عن وعي وإرادة.
مع انتصاف العقد الثاني من القرن العشرين، أقدم جراحان أشبه بالجزّارين—أحدهما إنكليزي يُدعى مارك سايكس، والآخر فرنسي يُدعى فرانسوا جورج بيكو—على عملية استيلاد مشوّهة، قسّمت المنطقة وقطّعت أوصالها. فانسلخ شمال ما بات يُعرف اليوم بسوريا عن عمقه الثقافي والاجتماعي في الشمال، ليُحرم من نبضه التاريخي الممتد. ففي كوباني الريفية، كان روّاد المجالس يتناولون الجيك كوفته (الكبة النية) على وقع إنشاد مغني الملاحم والقصص الشعبية، دونما آلات موسيقية، أو على الأكثر بمرافقة آلة واحدة. أما في أورفا، حاضرة المنطقة وامتدادها الطبيعي، فقد كانت ذات المأدبة تُرافقها أنغام متعددة ومغنون يتناوبون على أداء ألحانها.
وإلى جانب مغني الملاحم، ازدهرت الأغاني الشعبية التي رافقت الأعراس وأهازيج العمل، وظلت هذه الموروثات تتناقل شفوياً من جيل إلى آخر، ولا سيما بعد أفول موسيقى بلاط الأمراء الكرد، إثر القضاء على تمثيلهم السياسي و حكمهم الذاتي في ولاياتهم، قبل منتصف القرن التاسع عشر.
كانت الشرارة الأولى التي حرّكت هذا الجمود في المشهد الموسيقي والثقافي في كوباني متمثّلة في شخصية مشو بكَبور برازي، التي برزت بوضوح مع احتدام ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925. وقد تزامن هذا الحراك مع هجرة بعض رموز النهضة الثقافية الكردية من الشمال إلى الجنوب، مما يجعل تجربة مغني الملاحم ومؤلف الأغاني، مشو، الحالة الأولى في كوباني، ذات الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية القومية، أسهمت في تشكيل ملامح المشهد الفني في تلك المرحلة.
عقب إخماد ثورة الشيخ سعيد بقبضةٍ من حديد، نزحت عائلة دومان إلى كوباني، حيث شهدت المنطقة عام 1929 ميلاد الحالة الثانية، محمد خليل غازي (محمد دومان)، الذي نهل من معين الغناء وتعلّم العزف على الكمان. فكان صلة الوصل بين الماضي والحاضر، بين الشمال والجنوب، بين أغاني الملاحم والأغاني الإيقاعية. لا في أدائه للأغاني الشعبية فحسب، بل أيضاً في إبداعه لأغنياته الخاصة، التي غدت لاحقاً جزءاً أصيلاً من الموروث الشعبي للمنطقة.
في عام 1946، انتهى عهد الانتداب الفرنسي على سوريا، ليجد السوريون، ولا سيما الكرد، أنفسهم أمام هوية وطنية جديدة تتشكل في ظل الدولة المستقلة. غير أنّ نكبة فلسطين عام 1948 جاءت لتُعيد رسم ملامح الوعي القومي، حيث أخذ مفهوم “الأمة العربية” يتبلور تدريجياً في المخيال الجمعي السوري، بعد أن كانت العلاقات الاجتماعية لا تزال مشدودة إلى إرث “الأمة الإسلامية”.
وفي أعقاب انقلاب حسني الزعيم عام 1949، وجد جمال عبد الناصر وحركة الضباط الأحرار في مصر إلهاماً للانقضاض على النظام الملكي، فأسقطوا فاروق الأول وفرضوا سيطرتهم على الحكم عام 1952. وقد تأثر الفكر الناصري، القائم على مبادئ القومية العربية والوحدة والاشتراكية، ببعض ملامح النهج السياسي لحسني الزعيم، الذي استلهم بدوره كثيراً من الأفكار الكمالية التركية.
وكان لهذا التحول انعكاسان متباينان؛ أحدهما إيجابي، تمثل في كسر قيد الانغلاق المحلي والانفتاح على آفاق أوسع، والآخر سلبي، تجلّى في تهميش الخصوصيات الثقافية المحلية لكل منطقة. فمن المفارقات أنّ النزعة القومية والاشتراكية التي حملها عبد الناصر، ولاحقاً حزب البعث، أسهمت في تفكيك بنية المجتمع الإقطاعي، لكنها، في الوقت ذاته، أضعفت تقاليده الموسيقية التي كانت متجذرة في نسيجه الاجتماعي. ولم يقتصر هذا الأثر على المناطق الكردية والريفية فحسب، بل امتدّ ليطال المدن الكبرى أيضاً، كما هو الحال في حلب، التي شهدت تراجعاً في بعض تقاليدها الموسيقية العريقة تحت تأثير هذه التحولات.
وُلد رشيد صوفي عام 1953، إلا أن نشأته اتخذت منحى مختلفًا عن الحالتين السابقتين اللتين انبثقتا من صلب العلاقات التقليدية الريفية في مجتمع الفلاحين والإقطاع. فقد تشكّلت هذه الحالة الثالثة في ظلّ متغيرات ومفاهيم جديدة، وسط بيئة أكثر مدنية، تتوافر فيها المدارس والمؤسسات الرسمية، ويصدح في أرجائها صوت الراديو، حاملاً ألحان روّاد النغم العربي في مصر.
في تلك الأثناء، كان الحظر قد رُفع عن موسيقى السانات العثمانية ضمن هيئة الإذاعة التركية، مما أتاح لهذا الطفل النَهِم للموسيقى أن ينهل من عدة ينابيع، متأثرًا بمزيج متنوع من الأصوات والأنغام، وشغوفًا بتعلم الموسيقى وعزف العود.
ولا شك أن الدافع الرئيس وراء ولعه بالنغم والغناء يكمن في الإرث العائلي ذي الطابع الديني، فقد نشأ في بيئة مشبعة بتلاوة القرآن، وإنشاد الموالد، ورفع الأذان، كما ورث عن عائلته قوة الصوت وبراعة الأداء، فأتقن ترديد الأنغام والتنقل بينها بسلاسة وتمكّن، شأنه في ذلك شأن أفراد أسرته الآخرين. وهذا التأثير الأخير يذكرنا بنشأة محمد عبد الوهاب، حيث كان والده يحفظه القرآن ليلتحق بالأزهر، وبـ محمد القصبجي حيث كان والده يريده رجل دين، وكذلك بـ رياض السنباطي الذي تأثر بوالده المقرئ والمنشد والمغني للتواشيح الدينية.
دفعه شغفه المتقد وفضوله النهم لاستكشاف عوالم النغم إلى تجاوز حدود بيئته المحلية، فشدّ الرحال إلى شيوخ الفن في حلب ودمشق، حيث نهل من معين معارفهم وتعمّق في أسرار المقامات، غير مكتفٍ بذلك، بل انقطع لفترات طويلة في عزلةٍ تأملية، غارقًا في دراسة أصولها المتشعبة وفروعها الدقيقة، متبحرًا في تعقيداتها، ومجسدًا ذلك عزفًا حتى غدت ضربته على الوتر جريئة، والتقاطه للنغم بأصابعه اليسرى بالغ الدقة، مشبعًا بالحس، لا يعرف الخيبة طريقًا إليه، حتى تماهى صوته وأصابعه، فصار كلاهما امتدادًا للآخر.
بينما كانت الساحة الموسيقية في مصر تشهد تحولات جذرية بين نكسة عام 1967 وانتصار أكتوبر 1973، علت أصوات بعض النقاد تهاجم الموسيقى العربية، متهمين إياها، ولا سيما صوت أم كلثوم، بتخدير الوعي العربي وإبعاده عن قضاياه المصيرية. في تلك الحقبة، اتجه الذوق العام نحو الأغاني القصيرة ذات الطابع الوطني والحماسي، وبدأ المشهد الفني يمهد الطريق لأصوات شابة وموسيقى تتخلى تدريجياً عن تعقيداتها المقامية والتركيبية. وفي خضم هذا التحول، أتأمل رشيد صوفي، ذاك الفتى العشريني، وهو ينحت موهبته الموسيقية على أسس المدرسة الكلاسيكية الشرقية، ويسعى إلى التلحين بأسلوب يعكس روحها، متمسكاً بجذورها العريقة في زمن يميل إلى التجديد والتبسيط.
في عام 1974، عقب انقلاب حكومة البعث العراقي على اتفاقية الحكم الذاتي المبرمة مع الملا مصطفى البرزاني، اندلعت الحرب العراقية-الكردية الثانية، استمرارًا لثورة الحادي عشر من أيلول (1961-1970) ، التي عزّزت الوعي القومي الكردي في مختلف أرجاء كردستان.
في خضمّ تلك التحولات العاصفة، كان رشيد صوفي، الشاب الموسيقي المنحدر من أسرة كردية محافظة، يسعى إلى تطويع معارفه الموسيقية في خدمة الأغنية الكردية. فأنجز تلحين أغنيتين: “ئەم پێشمهرگەی قههرهمان” و “نوروز”. لعلّه كان قد لحن أغنيات أخرى قبلها، إلا أن ما وثّق من أعماله اقتصر على هاتين الأغنيتين اللتين سجّلهما في إحدى السهرات. وربما كان لمحيطه الاجتماعي وسياق المرحلة أثر في اقتصاره على هذين اللحنين، إذ كانتا قريبتين أكثر من هموم الشارع الكردي آنذاك.
في منتصف الثمانينات، إن لم تخنّي الذاكرة، قام بوزان فتاح بوظو (تسجيلات نسرين) بتسجيل ألبومه الأوّل، بمشاركة العازف و الملحن أحمد چب. تصادفت تلك الحقبة مع ذروة المدّ الثوري والقومي، حيث كانت الأغاني الثورية التي أنتجتها فرق الأحزاب الكردية تصدح في كل مكان، تتردد في أجهزة التشغيل وتنغرس في وجدان الجماهير.
لكن، كلّما تعالت أصداء هذه الأغاني في الأفق، ازداد رشيد صوفي انطواءً، متوارياً عن المشهد الثقافي المحلي والكردي على حدّ سواء. لم يكن ابتعاده هذا تعبيراً عن موقف عدائيّ، بل كان خياراً فنّياً خالصاً؛ إذ لم يكن في وسعه، في تقديري، أن يتصوّر مستمعاً ينصت إلى موسيقاه بعمق، متأمّلاً كل نقلة موسيقية برويّة، وسط هدير هذا الصخب الجماهيري العارم. وكأنّ موقفه يوازي ما قاله الكاتب جان دوست ذات مرّة، حين أعرب عن رغبته في قارئ لا يلتهم كتبه على عجلٍ في الحافلات والقطارات، بل يتفرّغ لها بكامل وعيه، دون أن يشتّته شيء. وإلى جانب خصوصيّة أسلوبه الموسيقي، الذي بدا غريباً عن السائد آنذاك، يمكننا ردّ هذا الانكفاء إلى سبب آخر أيضاً، وهو التحوّل الذي طرأ على الذائقة الموسيقية العامة والإنتاج الموسيقي مع أواخر الثمانينات وبدايات التسعينات من القرن العشرين.
في عام 1991، رحل محمد عبد الوهاب، ذلك الاسم الذي ظل متوهجًا في وجدان رشيد صوفي ومسيرته الفنية. وفي تلك الحقبة، شهدت الساحة الموسيقية تحولات جوهرية، إذ تكاثرت القنوات التلفزيونية، والفضائيات، وانتقل مركز الثقل الموسيقي تدريجيًا من القاهرة إلى بيروت، حيث ازدهرت شركات الإنتاج الفني، وبرزت ظاهرة الفيديو كليب، إلى جانب انتشار الأغاني القصيرة ذات الإطار الأحادي من حيث الحالة والمقام والإيقاع.
ترافق هذا التحول مع ازدياد الاهتمام بالمظهر البصري والإيقاع الحركي على حساب جودة الصوت وأصالة اللحن وعمق ثقافته.
أما على الصعيد الكردي السوري، فقد شهدت الأغنية الثورية والسياسية تراجعًا ملحوظًا، في حين تنامى الوعي القومي والسياسي والثقافي لدى الجمهور الكردي، مدفوعًا بنمو الطبقة الوسطى وارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس والجامعات. هذه العوامل، التي تضافرت بطريقة غير مباشرة، ساهمت، لا شك، إلى جانب إلحاح محيط رشيد صوفي المستمر في طلب تسجيل أعماله، في تسجيل الألبوم الثاني في منتصف التسعينات. ولكن هذه المرة مع عزفه على العود.
بعد منتصف الثمانينات، بدأ الماء يتراجع من ينابيع كوباني ويجف تدريجياً، كما جفّت الأرض التي كان أهلها يقتاتون منها، وكان الزرع هو معيشهم الأساسي. وفي العقد الأخير من القرن العشرين، تحولت كوباني إلى صحراء قاحلة حتى صارت صنابير المياه فيها تصدأ، فأصبح لسان حال أهلها يردد: “يا رب، هل يرضيك هذا الظمأ، وماء الفرات ينساب بجانبنا زلالاً، على بعد ثلاثين كيلومتراً غرباً؟”. سهل سروج، الذي يحتضن كوباني بين سهوله وأنهاره وينابيعه وأشجاره وعشائره الزراعية، والذي وصفه أوليا جلبي في “السياحتنامه” في القرن السابع عشر، تحول إلى يباب من الأرض. ومن ثم تزايدت الهجرتان، الداخلية والخارجية، بشكل ملحوظ.
وفي أعقاب إصدار رشيد صوفي لعمله الثاني، أُعيد اكتشافه، كما تم التعرف على ألبومه الأول بشكل أوسع، لا سيما بين قاصدي العمل وطلاب العلم في المدن الأخرى، لتصبح كاسيتات رشيد صوفي من بين المواد التي تروج لثقافة كوباني عند تعرّف الكرد من مختلف المناطق ببعضهم البعض.
على الرغم من معاناته من قلقٍ وصعوبةٍ نفسيةٍ في التزامه بتعليم الموسيقى، فإن كل لحن من ألحانه قد تحول إلى درسٍ بليغٍ لمن يطمح في تعلّم الموسيقى والصولفيج، والانتقال بين المقامات. إذ أصبح الملحن والمستمع أمام موسيقى وأسلوب بديلين، يختلفان عما هو سائد ومألوف.
في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، كان بإمكانه أن يكون أكاديمياً مرموقاً وصاحب تأثير أعمق، ولكن ليس وفق النهج التقليدي القائم على التدريس من الكتب وتدوين الملاحظات، بل بأسلوب يتناغم مع طبيعته وتركيبته النفسية، لا سيما بعد أن بلغت مداركه الموسيقية ذروتها واكتملت نضجاً. وكما ابتكر أسلوباً لحنياً متفرداً يخالف السائد، كان بوسعه أن يُعيد إحياء وتأصيل نظرية الموسيقى الكردية التي طواها النسيان مع أفول حكم الأمراء الأكراد على ولاياتهم.
لا ريب في أنَّ رشيد صوفي كابد طويلاً ذلك التفاوت الجوهري بين ما يبدعه من موسيقى، عزفاً وتأليفاً، وبين قدرة محيطه المستمع على استيعابها أو تذوّقها أو حتى إدراك ما يضفيه عليها من انتقالات مقامية بالغة الدقة. وللأسف، ظلَّ هذا الشعور ملازماً له طيلة مسيرته، حتى غدا من العسير إقناعه عكس ذلك. وربما، إلى جانب هذا السبب، أسهمت نظرته الكمالية أيضاً، التي يعاني منها معظم الفنانين على اختلاف مجالاتهم، في أن يقلَّ إنتاجه وتسجيلاته، إذ كان سعيه إلى بلوغ الكمال حجر عثرة أمام غزارة عطائه.
في مساء شتائي من عام 2007، اصطحبني الصديقان زكريا مصطفى وشاد إلى منزل رشيد صوفي، حيث التقيته للمرة الأولى. في تلك الجلسة الوحيدة التي جمعتني به، اكتشفت شخصًا يختلف عن نسختي سعد الحسيني وعبد الرحمن آل رشي. بعبارة أخرى، وجدت تفسيرًا لتصرفاته التي كنت قد سمعت عنها. فطرحت على نفسي سؤالًا: لماذا يُراد لإنسان استثنائي أن يكون عاديًا؟ إذا كان ناقداً لاذعاً، فقد كان نقده لنفسه أشد وأوقع من نقده للآخرين، وإن كان ينكث بوعوده مع سواه، فقد منح نفسه وعوداً أكثر وعابها بتكرار نكثها.
رحل رشيد صوفي، ولم تتح لي الفرصة لأعرفه عن كثب، غير أنّ اليسير الذي أدركته منه كان وافراً في معناه. غادرتَ وخلّفتَ القليل، لكنّ هذا القليل سيظلّ كثيراً في أثره وخلوده.
المصدر: مدارات كرد
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=62958