لم يمضِ الكثير من الوقت، حتى تبنّى الحرس الثوري الإيراني القصف الذي طال عاصمة إقليم كردستان العراق، والذي نفّذه الحرس الثوري بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة، وتسبب في مقتل رجل الأعمال الكردي بيشرو دزيي، وابنته وتاجر عراقي آخر كان ضيفاً لديه، فضلاً عن إصابة باقي أفراد عائلته، إلى جانب أشخاص آخرين.

مما لاشكّ فيه أنّ مثل هذه الهجمات لا تُعتبر من الممارسات الجديدة للنظام الإيراني تجاه إقليم كردستان. فقد تكرر استهداف الإقليم في أعوامٍ سابقة من قِبل الحرس الثوري، كما حدث أثناء قصف مقرات الأحزاب الكردية الإيرانيّة المعارضة، بعد اتهامها بتأجيج الحراك الداخلي في إيران، والذي اندلع بعد مقتل مهسا/ ژینا أميني، وأوقع حينها عدداً أكبر من الضحايا والجرحى بين صفوف المدنيين.

بعد الهجوم الذي وقع في وقتٍ متأخرٍ من يوم الاثنين الماضي، سارع الحرس الثوري إلى الإعلان عن استهداف “أحد المقرّات التي كانت على صلة بالموساد الإسرائيلي”، في حين يؤكد الكثيرون -من بينهم مسؤولون عراقيون- عدم صلة رجل الأعمال الكردي بالموساد الإسرائيلي بأي شكل من الأشكال، ومنهم مشعان الجبوري، النائب العراقي السابق، الذي كانت تجمعه به صداقة عمرها عشرون عاماً، بحسب ما نشره على منصة إكس (تويتر سابقاً)، حيث أكّد أنّ ديزي لم يكن يتعاطى السياسة، ولا علاقة له بالموساد.

ولنفترض جدلاً صحّة التهمة التي أطلقها الحرس الثوري على هذا الشخص، ألم تكن للاستخبارات الإيرانية القدرة على تصفيته دون كلّ هذا الهدير للصواريخ والمسيّرات؟

لقد فعلت الاستخبارات الإيرانيّة قبل ذلك مع شخصيات كردية إيرانية معارضة لها داخل الإقليم، ومنهم موسى بابا خاني القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، والذي اغتالته الاستخبارات الإيرانية في أحد فنادق أربيل، في آب/أغسطس 2021.

إنّ هذه الجعجعة التي أطلقها النظام الإيراني في المنطقة، ليست إلّا رسائل رد اعتبار موجّهة بالدرجة الأولى للميليشيات الإيرانية في المنطقة، وإلى الداخل الإيراني، وحتى موالي نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الداخل؛ وذلك لردّ القليل من الاعتبار لهيبتها بعد الضربات المتتالية التي لحقت بهذا النظام، بدءاً من الهجوم على مخفر الشرطة في مدينة راسك في سيستان وبلوشستان، ومقتل 11 شرطياً على يد “جيش العدل” البلوشي، مروراً باغتيال رضي موسوي الذي يُعتبر أهم رجل بعد قاسم سليماني في “فيلق القدس”، وأيضاً سلسلة اغتيالات قيادات “محور المقاومة” التي ركّزت إسرائيل على تصفيتهم، مع احتدام صراعها مع حماس، وصولاً إلى تفجير كرمان الذي تبناه تنظيم داعش.

بعد تتالي هذه الضربات الموجعة ضد النظام الإيراني، ولا سيما توجيه الضربات الأخيرة ضدّ الحوثيين من قِبل الولايات المتحدة وبريطانيا، وجد النظام الإيراني نفسه أمام حتمية الردّ، لحفظ ماء الوجه؛ فجاء قصف أربيل بمثابة رسالة واستعراض قوة موجّه إلى إسرائيل.

يعرف النظام الإيراني أنّ الرد على إسرائيل في أراضيها أو استهداف القواعد الأمريكية بشكلٍ مباشرٍ من الأراضي الإيرانية، في هذا التوقيت، لن يبقى من دون ردّ، وبالتالي فإنها ستخرج عن قواعد اللعبة الخطيرة التي تلعبها مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لذلك اختارت ردّاً استعراضياً أشبه إلى ردّها على مقتل سليماني عندما استهدفت قاعدتي الأنبار وعين الأسد بالصواريخ الباليستية. وهي تعرف جيداً أنّ هذا القصف لن يترتّب عليه ردّ من الولايات المتحدة ما لم يتجاوز الخطوط الحمر، وهي وقوع ضحايا في صفوف الجنود أو المواطنين الأمريكيين أو استهداف حقيقي للمصالح الأمريكية، حيث استهدف القصف الأخير محيط القنصلية الأمريكية، والتي لا تزال قيد الإنشاء، دون وقوع أي إصابات أو خسائر تُذكر.

أما ادعاء بيان الحرس الثوري بقصف مواقع لداعش في إدلب، شمال سوريا، ردّاً على عملية كرمان الأخيرة، قد يكون غير مقنعٍ إلى درجةٍ كبيرةٍ، ويمكن أيضاً قراءة هذا القصف في إطار استعراض القوة الموجه ضد إسرائيل، لتحذيرها من أي تصعيد محتمل ضدّها، وإرسال رسالة على قدرة وصول الصواريخ الإيرانية إلى أراضيها، وما يعزّز هذا التصوّر هو عدم توجيه الصواريخ الباليستية إلى نقاط وتجمعات داعش في أفغانستان، سيّما وأنّ من تبنّى عملية تفجير كرمان هو داعش فرع خراسان.

كما أنّ لاختيار توقيت القصف أيضاً دلالاتٌ يمكن تفسيرها، إذ أنه يأتي متزامناً مع قصف تركيا وتدميرها للبنية التحتية والمنشآت الحيوية في مناطق الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، وهذا يؤدي بنا إلى التفكير في تضافر الجهود الإيرانية التركية، والتقاء مصالحهما في تشكيل تهديد وضغوطات مستمرة على الولايات المتحدة وحلفائها الكرد، لدفعها إلى الخروج من المنطقة، وبالتالي إنهاء الكابوس التركي المتمثل في الإدارة الذاتية، وعودة النظام السوري إلى المنطقة بما يلبي طموحات النظام الإيراني.

ما تزال قواعد اللعبة مضبوطة بدقة بين “الجمهورية الإسلامية” الإيرانية، والولايات المتحدة وإسرائيل، وعلى الرغم من اندلاع الحرب الضارية بين حماس وإسرائيل واستمرارها حتى الآن، وتدخلات حزب الله والحوثيين والميليشيات الأخرى الموالية لإيران، فالصراع ما يزال ضمن المساحة الآمنة بالنسبة لإيران، ما دامت حريصةً على عدم التدخّل بشكل مباشر فيه. لكن حتى لو حافظت إيران على ضبط إيقاع الصراع مع الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أنّ أي خطأ مقصود أو غير مقصود سيكون من شأنه أن يفجّر برميل البارود في المنطقة، والذي ستكون إيران الخاسر الأكيد فيه، وحتى إن استمر الصراع على هذه الوتيرة، فقد بات من الواضح تشكل قناعة دوليّة بمدى خطورة إيران على الأمن الإقليمي والعالمي، وذلك بعد تهديد الحوثيين لأمن الملاحة في البحر الأحمر، وما يترتب على ذلك من تهديد لاقتصادات الكثير من الدول في العالم، وبالتالي قد يكون التحالف الذي تشكّل لضرب الحوثيين، نواةً لتوسيعه ضد النظام الإيراني، في المستقبل.

آرام سعيد – باحث في مركز الفرات للدراسات

 

المصدر: مركز الفرات للدراسات

شارك هذه المقالة على المنصات التالية