الجمعة, نوفمبر 22, 2024

أبي أحقّ الناس بالكتابة عن سيرته الذاتية

بير رستم

أحياناً ندرك الحقائق متأخرين وربما غالباً وبالأخص عندما تكون واضحة وجزء من حيواتنا، ما دعاني لهذا القول هو تأخري أو عدم انتباهي لموضوع الكتابة عن أحق الناس عن سيرته الذاتية -وأقصد الوالد- ليس فقط لارتباط الموضوع بالجانب النفسي والعاطفي، كونه كرس جزء كبير من حياته ليس فقط لنا نحن الأبناء والأحفاد، بل وللحركة والقضية الكردية حيث يعتبر أحد أوائل الذين انتسبوا للحركة؛ الحزب الديمقراطي الكردستاني – سوريا، أو ما يعرف بالبارتي اختصاراً وذلك في عام 1958م، أي بعد عام من تأسيس الحزب وقد شكلوا مع إثنان من رفاقه وهما؛ الراحلان: أحمد فيلك “چيلك” وحيدر إيحو أولى الفرق الحزبية بعفرين، قرية چقلا، وكان مسؤولهم الحزبي؛ الراحل محمد بكر والملقب ب”ميجو” والذي توفي بفرنسا ونقل جثمانه لعفرين حيث دفن بمقبرة القرية؛ چقلا!

وهكذا يمكن القول؛ بأن الوالد وفرقتهم الحزبية كانت واحدة من أوائل الفرق والأشخاص الذين انخرطوا في الحياة السياسية حاملين هم شعب وقضية تتطلع للحرية ونيل الحياة الكريمة واستمر الوالد ضمن صفوف البارتي لمنتصف الثمانينيات مع انقطاع جزئي خلال فترة خدمته العسكرية وذلك بين عامي 1964 و 1966 وبعد انهاء الخدمة ونقل أسرته من چقلا إلى جنديرس عام 1971م ينشط أكثر داخل الحزب ويستلم أكثر من فرقة حزبية في كل من بافلور وكوران ليستمر بعمله الحزبي لغاية المؤتمر الذي عقد عام 1984م وحينها سوف يتفاجأ هو وعدد من رفاقه؛ بأن الحزب بات منشقاً منذ أكثر من عام دون الإعلان عنه وبأنهم يريدون تغيير اسم الحزب من البارتي لحزب العمل وعندها يحصل خلاف بينه وبين القيادة برئاسة السيد محي الدين شيخ آلي، مما يدفع بالوالد وببعض من يقف معه الخروج من المؤتمرو والجلوس في غرفة لغاية انتهاء رفاقهم السابقين من انعقاد مؤتمرهم وإعلان حزبهم الجديد!!

طبعاً انسحابه من المؤتمر ومن ثم تعليقه لعضوية حزبيته في حزب العمل (الجديد) لم يكن نهاية نشاطه السياسي والحزبي، بل رفضاً للخروج عن سرب البارزانية والولاء لذاك النهج السياسي حيث كان في نظره ونظر الغالبية المطلقة من أبناء شعبنا هو أن البارتي والذي تسمى فيما بعد بالحزب الديمقراطي الكردي وليس الكردستاني وذلك بعد اعتقال أغلبية القيادة، أيام الوحدة ومن ثم الانفصال، والخلافات التي نشبت بينهم في السجن حيث سيخرج الحزب منقسماً بين ما عرف فيما بعد ب”اليمين واليسار” وليتشظى بعد مؤتمر نوبردان لثلاث تيارات؛ السابقين ويضاف لهم البارتي “القيادة المؤقتة أو المرحلية) والذي سيمثل البارزانيين في روژآڤاي كردستان أو ذاك الجزء الملحق بسوريا! وهكذا وعندما أدرك الوالد وبعض رفاقه؛ بأن مؤتمرهم الذي انعقد في عام 1984م هو ليس ذاك الحزب الموالي للبارزانيين، بل هو حزب آخر منشق عنه ويريد أن يختار لنفسه اسم ومنهجاً سياسياً آخراً، فأعلنوا انسحابهم من المؤتمر ومن ثم تعليق عضويتهم وليعودوا بعد ذلك ويلتحقوا برفاقهم في البارتي.

وهكذا أستمر الوالد بين مؤيد وملتزم بنهج البارزانية خلال كل فترة حياته وإلى يومنا هذا رغم سنواته التي تجاوزت العقد الثامن منذ سنوات حيث ما زال بارزانياً وبقوة رغم ملاحظاته الكثيرة على حزبه السابق ورفاقه وبالأخص مع الفترة الأخيرة والاحتلال التركي الاخواني الميليشاوي، وبالمناسبة هذه السنوات الخمس الأخيرة ومنذ الاحتلال تدهورت صحته بشكل كبير ومفاجئ لنا جميعاً ويوم أمس كاد أن نفقده لولا مساعدة الأهل والمعالجة الطبية الفورية حيث قام أخي حسن بالإتيان بابن خالتي جمال وهو طبيب مقيم بجنديرس للبيت في منتصف الليل ليبقوا عند رأس الوالد لصباح اليوم وهم يقدمون كل رعاية من أدوية وسيروم وكل ما يحتاج له من خدمة وقد تفاجأت برسالة أخي هذا الصباح ليخبرني بما حصل مع الوالد ليلة أمس، بالرغم من متابعتي بشكل يومي لحاله، لكن التدهور الكبير لصحّته ليلة أمس هي التي نبهتني لهذا التقصير الكبير بحقه وبأن نفقده دون أن نقدم له القليل من الواجب الأخلاقي والكتابة عن سيرة حياته وخاصةً إنني كرست فترة كبيرة للكتابة عن السير الذاتية لشخصيات من عفرين وفي مختلف المجالات، منهم حتى ما أستحق تلك اللفتة مني والكتابة عنهم، ولذلك قلت وعنونت؛ بأن “أبي أحقّ الناس بالكتابة عن سيرته الذاتية”.

طبعاً ليس فقط لكونه والدي ولا حتى لأنه أحد أوائل الذين التحقوا بصفوف البارتي والحركة الوطنية الكردستانية، بل لأنه قام بتنشأتنا في بيئة وطنية نظيفة حيث القيم والأخلاق الكردوارية الحقة وأتذكر الكثير الكثير من طفولتي ومراهقتي ونحن نستقبل ضيوف الوالد من القيادات الحزبية العفرينية المعروفة بعد ذاك مثل كل من الراحلين؛ هوربك أحمد عثمان، عبدالرحمن عثمان، زكي ماراته، طاهر ديكو وآخرين كثر ومنهم الأستاذ محمد أمين شيخ كولين، تمنياتنا له بالعمر المديد.. وهكذا فمن خلال هذه البيئة الكردوارية عرفت ماذا تعني أن تكون كردياً وبأن عليك أن تجتمع سراً وتحت جنح الليل بأشقائك الذين يحملون معك تلك الفجيعة والهم الوطني وذلك خوفاً من العسس ومخابرات الدول وكثيراً ما كنا نفاجأ بأن أحدهم واقفاً تحت أحد شبابيك بيتنا وهو يسترق السمع لعله يسمع حواراً حول ذاك السر الذي كنا نداريه ونحاول اخفائه عن أعين المخبرين وسمعهم وكذلك ومن خلال تلك البيئة عرفت الأبجدية الكردية مع أوصمان صبري وأيضاً بأن “دنكى كرد”؛ تعني بالعربية “صوت الأكراد” وبأن لها رائحة زكية وقد يشمها المخبرين ولذلك كان علينا أن نحفظها جيداً في كيس نايلون ونزرعها في حوش الدار بين الأصايل، وكنا أحياناً نضيع البعض منها في الحفر لنصدف بها ونحن نزرع شتلة جديدة في أرض الدار بحيث تحولت حديقتنا لأنواع مختلفة من الزهور، بينها تلك الزهرة التي كانت تفوح منها عطر “دنكى كرد” والتي وللأسف حولوها فيما بعد ل”صوت الأكراد”.

بالأخير لا يسعني إلا القول؛ تمنياتي للوالد بالشفاء والعافية والسلامة والعمر المديد مع كل التقدير والاحترام والامتنان لم قام به من تأمين بيئة وطنية سليمة لنشأتنا وتربيتنا فيها وهو الذي يستحق تبويس اليدين لكل ما قدمه لنا على الصعيدين الشخصي والكردايتي؛ نعم إنه أبي الذي سجل في دفاتر الحكومات السورية باسم محمد مصطفى بن خليل وعرف لقباً ب”گالو” في قريته؛ چقلا، ومن ثم ليكتسب لقب “محمده چقلي” وذلك بعد أن انتقلنا لجنديرس واستقرينا فيها كموطن جديد للأسرة وإلى يومنا هذا حيث ما زال شامخاً رغم كل الظروف القاهرة حالياً وشراسة المرض وهو يفتك بذاك الجبل الأشم.. دمت أبي أباً ومعلماً وجبلاً أشماً لنا مع فائق حبي وتقديري

شارك هذه المقالة على المنصات التالية