الخميس, ديسمبر 26, 2024

الأدب الكردي عربياً: تصحيحاً لخطأ شائع – حليم يوسف

أجرت الروائية الكردية السورية مها حسن مؤخراً بعض الحوارات المتعلقة بالأدباء الكرد الذين يكتبون بالعربية، وقد تطرقت إلى موضوع الخطأ الفادح السائد في الأوساط الثقافية العربية بخصوص تقديم الأدب الكردي إلى القارئ العربي باختصار شديد. في هذا المقال أودّ التطرق إلى هذا الموضوع بشيء من التفصيل، إذ نشأ جيلي والجيل الذي يسبقني من الكتاب الكرد السوريين في أجواء عربية محضة، وفي ظل غياب تام للغة الكردية المكتوبة وللكتب والصحف والمجلات الورقية الكردية، فوق أن ما كنّا نتداوله بيننا هو مجموعة دواوين شعرية مطبوعة بسرية تامة، بطباعة رديئة غالباً، بالإضافة إلى بعض المجلات الحزبية الكردية التي كانت تطبع وتوزع في السر و بشكل “غير قانوني”.

ظلت سوريا بعيدة عن انتشار الإنترنيت ووسائل التكنولوجيا الحديثة حتى مطلع الألفية، وهو أول عام لي بعد الخروج من سوريا. والحال، أنني لم أعايش دخول شبكة الإنترنيت وتبعاتها من وسائل التواصل الاجتماعي والإلكتروني إلى سوريا، وفي ظل دكتاتورية عسكرية تقاد من قبل أجهزة أمنية تستقي توجهاتها الفكرية والسياسية من حزب شوفيني عربي هو البعث، وفي دولة كانت العربية هي لغتها الوحيدة الرسمية وتُمنع فيها اللغة الكردية منعا باتاً. كان البحث عن منفذ لانتعاش الأدب الكردي ضرباً من العبث.

في هذه الأجواء المشحونة بالكراهية والمحملة بهوس اللغة الواحدة، والعلم الواحد، والقومية واحدة، والدين الواحد، والشعب الواحد، واختزال كل ذلك في فرد واحد هو “الرئيس”، لم يكن أمام الكرد ولغتهم وثقافتهم وأدبهم سوى الانزياح إلى الهامش والإنكفاء على نفسهم في الظل، في محاولة مستميتة لمقاومة الاندثار والاستبسال في سبيل البقاء.

طوال عقود طويلة من غياب الثقافة الكردية في سوريا، لم يخلُ الأمر من محاولة بعض القائمين على المجلات الثقافية العربية، وخاصة من المنتمين إلى الأوساط اليسارية، إلى الإشارة إلى وجود ثقافة كردية مغيبة ولفت النظر إليها، إلا أن ما كان يقدم للقارئ العربي هو أدب عربي مكتوب من قبل كتاب ينحدرون من أصول كردية، ولم تكن لهذه النتاجات أية علاقة مع الأدب الكردي، أو الأدب المكتوب باللغة الكردية، ولا أنكر مساهمتي الشخصية في نشر هذا الخطأ الجسيم بحق الأدب الكردي، وخاصة في بداياتي، إنطلاقاً من اعتقاد ساذج يحيل هوية الأدب إلى الانتماء القومي لمنتجه، بغض النظر عن اللغة التي يكتب بها هذا الأدب. في حين أن اللغة هي العامل الحاسم في تحديد هوية الأدب، بغض النظر عن جنسية منتج هذا الأدب أو قوميته. كنت في ذلك الوقت أقرأ نتاجات يشار كمال المترجمة إلى العربية على أنها روايات وقصص من الأدب الكردي، ونعتبر كتابات سليم بركات، على سبيل المثال، كتابات تنتمي إلى الأدب الكردي. لكن، فيما بعد اكتشفنا بأن كل العالم يقرأ نتاجات يشار كمال ويقر على أنها أدب تركي وأن مسألة انتمائه إلى عائلة كردية لا قيمة “إبداعية” لها وهي مسألة هامشية ولا تلعب دوراً في تحديد هوية أدبه. كذلك الأمر بالنسبة لسليم بركات الذي كنّا نعتبر أن له دور في الشعر الكردي أو الرواية الكردية، تبين فيما بعد، وهذا هو الصواب، أن لا علاقة لبركات لا بالشعر الكردي ولا بالرواية الكردية، وهذا لا يعني التقليل من شأن الرجلين على الإطلاق؛ فمكانة كمال في الأدب التركي محفوظة، وكذلك فإن مكانة بركات في الشعر العربي وكذلك في الرواية العربية مصانة، ولها حضورها المرموق في هذا السياق.

أن تتحدث أم الكاتب أو أباه الكردية لا يجعل منه كاتباً كردياً بالضرورة، إذ إن ما يجعل من الكاتب أو من الأدب كردياً هو اللغة المكتوبة، واللغة فقط، بغض النظر عن لغة الأب أو الأم، وينطبق الأمر نفسه على شيركو فتاح الذي يعتبر كاتباً ألمانياً، رغم أصوله الكردية، كما أن كاروش طه ورونيا أوصمان كاتبتان تنتميان إلى الجيل الجديد في الأدب الألماني، رغم أصولهن الكردية.

بالعودة إلى موضوعنا الأساسي، فإن أول ملف متكامل عن الثقافة الكردية، على حد علمي، هو العدد الخاص من دراسات اشتراكية، مجلة الحزب الشيوعي السوري-جناح يوسف فيصل، كان ذلك في نهاية الثمانينيات وبداية تسعينيات القرن المنصرم، حين تم تكليف آحو يوسف بإعداد الملف، على ما أذكر. وقد استدعاني وقتها معدّ الملف مع صديق آخر هو الشاعر طه خليل، لفرز مواد العدد الصالحة للنشر واستبعاد المواد غير الصالحة للنشر، وقد تم الفرز في مكتب المجلة في دمشق بحضور رئيس التحرير وقتذاك ظهير عبدالصمد، إثرذاك تم نشر النتاجات العربية التي كتبها الكتاب الكرد على أنها نتاجات تنتمي إلى الأدب الكردي في سوريا. لا شك أن النية الحسنة هي التي تقف وراء إعداد و نشر هذه الملفات، لكن النيات الحسنة، مهما كانت صادقة، لا تكفي لأن تقدم للقارئ أدباً كردياً، خاصة إذا كان هذا الأدب قد كتب بلغة أخرى غير الكردية، وتتالى نشر مثل هذه الملفات في الكثير من المجلات والدوريات الثقافية العربية، وعلى الدوام تم تقديم الأدب العربي للقارئ وتسميته خطأ بالأدب الكردي، ولا بد من القول بأنها ظاهرة جميلة ويمكن الاستمرار في ترسيخها، لكن بشرط تقديم هذه النتاجات على أنها إسهامات الكتاب الكرد في الأدب العربي، وأن لا علاقة لكل هذا بالأدب الكردي الذي له سياق مختلف.

بناءً على ما سبق: أنقل أمنيتي إلى المعنيين بأمور الثقافتين الجارتين، العربية والكردية، بضرورة تصويب هذا الخطأ الشائع الذي يتكرر في حياتنا الثقافية منذ عقود، ووضع النتاجات الأدبية التي يكتبها الكتاب الكرد بالعربية في سياقها الصحيح.

المصدر: نورث برس

شارك هذه المقالة على المنصات التالية