المشهد المسرحي في سوريا: إعلام يبيع الوهم ويصنع الكذب

عبدالكريم البليخ

التجاهل… تلك الصفة التي التصقت بالإعلام السوري الموصوف ـ تهكّماً ـ بالمتحضّر، حتى صارت جزءاً من بنيته الراسخة، ومَلمَحاً لا يخفى على من يراقب سيره منذ عقود. هو تجاهل لا ينبع من عجز أو قصور، بل من خيار واعٍ يختار فيه الإعلام أن يَشيح ببصره عن الحقيقة ليصطنع وهماً براقاً يقدّمه على أنه الواقع.

ولعلّ أشدّ ما في الأمر قسوة أن هذا التجاهل يتخذ من الزينة والكلمات الملساء سبيلاً، في حين يعيش الناس في الداخل حياة تُثقِلها المرارة: سخط دائم يتفشى في الأحياء والبيوت، عَوز يفتك بالأسر، فاقة تنخر الصبر، وفقر مدقع ينهش الكرامة، حتى غدا الإذلال خبزاً يومياً يقتات عليه المواطن المقهور.

ومع ذلك، يخرج الإعلام السوري على شاشاته الملوّنة، ببرامج مصقولة الواجهة، مزيّنة العناوين، مُحكمة الإخراج، لكنها خاوية من الصدق. يصرّ ـ بإلحاح يكاد يبلغ حدّ الهوس ـ على رسم صورة معاكسة للواقع: صورة برّاقة، متخيّلة، تُوحي أن كل شيء على ما يرام، وأن المواطن يعيش في بحبوحة و”نعيم” وفير.

تطلّ القنوات بمذيعيها، الذين أُتقِن تدريبهم على فنون التجميل الخطابي، بملامح واثقة ونبرات مفعمة باليقين. ينادون ـ وبأعلى أصواتهم ـ بأن الأسواق ممتلئة بالمواد الاستهلاكية، وأن رفوف المتاجر تكاد تئن من ثقل السلع، وأن البلاد تشهد طفرة في الخدمات. ويزيدون على ذلك حديثاً عن رفاهٍ متخيَّل: كهرباء دائمة لا تعرفُ الانقطاع، مياه متدفقة بلا انقطاع، مواصلات منظمة تسير بانسيابية، وخدمات عامة تعكس صورة “الدولة الراعية”.

لكن الحقيقة، كما يعرفها المواطن، أبعد ما تكون عن هذه المشاهد المسرحية. فالكهرباء ـ هذه الحاجة الأساسية ـ لا تزال، وللأسف، غارقة في سباتها العميق. بالكاد تضيء بيوت الناس المكدودة ساعات معدودة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة في اليوم. ست ساعات ـ في أفضل الأحوال ـ هي الحصة الممنوحة للناس كي يحيوا عقولهم بلمحة من نور، أو ليشعروا أنهم ما زالوا أحياء في زمن العتمة. أما المياه، فقصة أخرى من قصص الندرة والانتظار الطويل، حيث يتحول الحصول على بضع لترات من الماء إلى رحلة يومية شاقة. والمواصلات ما عادت سوى رحلة شقاء إضافية فوق معاناة المواطن، إذ يُترك بين الزحام والانتظار، في طرقات ضاقت أكثر ممّا اتسعت.

وإذا ما ألقينا نظرة أبعد، نرى أن الإعلام الذي يزعم أنه “صوت الشعب”، لا يكتفي بإخفاء هذا البؤس، بل يتحدّث ـ في الوقت ذاته ـ عن غياب البطالة، وعن فرص عمل متاحة للجميع، وعن إنجازات اقتصادية تشيب لها الولدان من “عظمتها”. أيُعقل أن يعيش الناس في بطالة مقنّعة تتسرب من كل بيت وكل شاب، ثم يُقال لهم إن البلاد تنعم بمناخ اقتصادي صاعد؟ أيُعقل أن يرزح الملايين تحت خط الفقر، ويُقال لهم إن البلاد في طور النهضة؟

ولعلّ المفارقة التي تثير السخرية حدّ الألم أن الإعلام يحتفي بقرارات تبدو ـ في ظاهرها ـ وكأنها بشائر إنقاذ. فقد خرجوا يوماً بقرار رسمي يقول إن الكهرباء ستُعفى من جميع الرسوم المالية والإدارية التي كانت تصل إلى 21.5 في المئة. ثم قدّموا ذلك على أنه بداية طريق للنهوض الاقتصادي، وكأنّ رفع الرسوم سيغيّر من واقع الحال شيئاً. فما جدوى الحديث عن إعفاءات وهمية، إذا كان المواطن أصلاً لا ينعم بالكهرباء إلا نادراً؟ ما قيمة أن تُرفع عنه رسوم خدمة محروم منها؟ أليس هذا أشبه بمن يبشّر بعطاء في أرض جرداء لا ماء فيها ولا زرع؟ أليس هذا استهزاءً بالعقول، ومحاولة بائسة لتلميع صورة عرجاء؟

نحن أمام مشهد لا يمكن وصفه إلا بأنه عملية تضليل ممنهج، تتقنه المؤسسات الإعلامية حتى صارت تمارسه ببرود أعصاب مذهل. الكذب، الخداع، التزييف، التمويه.. ليست مجرد أخطاء عابرة أو انحرافات بسيطة، بل هي السلاح الأمضى الذي يشهره الإعلام السوري “المتحضّر” في وجه الحقيقة. هو سلاح يطعن الوعي الجمعي، ويُغشي الأبصار عن الواقع، ويزرع في النفوس إحباطاً مضاعفاً. لأن المرء حين يرى معاناته تُنكر، وجوعه يُخفى، وفقره يُحجب خلف شاشات مزيّفة، فإن ألمه يتضاعف، إذ يُسلب منه حتى حق الاعتراف بواقعه.

المجتمع اليوم يعيش مفارقة قاسية: بين حياة يومية ينهشها الحرمان، وبين شاشة تصرّ على بثّ الوهم. بين عتمة كهرباء لا تزور البيوت إلا لماماً، وبين نشرات أخبار تتحدث عن فائض طاقة واستثمارات مشرقة. بين شباب يهاجرون بحثاً عن لقمة عيش، وبين إعلام يحدّثهم عن وظائف وفرص ذهبية. بين عطشٍ يُلهب الحلوق، وبين تقارير تتحدث عن مشاريع مياه عملاقة. أيّ انقسام هذا الذي يُراد للمواطن أن يتعايش معه؟ أليس هو انفصام في الوعي الجمعي بين ما يُعاش وما يُقال؟

لقد بات واضحاً أن الإعلام لم يعد مجرد مرآة تعكس صورة مزيفة، بل تحوّل إلى شريك أساسي في صناعة الوهم، وحارس للزيف، وسادن للباطل. إنه يقدّم للناس مسرحية كبرى، مشاهدها مكررة، أبطالها متلونون، وحبكتها مفضوحة. لكنه، مع ذلك، يصرّ على أن يُقنع المشاهد بأن ما يراه حقيقة، حتى وإن كان واقعه يصرخ بعكس ذلك.

ولكي نفهم خطورة هذا التضليل، لا بد أن نضعه في سياق تاريخي ومعماري واجتماعي أوسع. فالإعلام، منذ بداياته، لم يكن مجرد أداة خبرية، بل كان دوماً واجهة للسلطة. المباني الضخمة التي احتضنت مؤسساته، من قاعات البث إلى أستوديوهات التصوير، صُمّمت لتُظهر قوة الدولة وهيبتها، لا لتكون مساحات حرة للتعبير. واجهات الزجاج والخرسانة لم تكن سوى مرايا تعكس صورة متخيَّلة للوطن، صورة مشيدة بمهارة المعماري، لكنها خاوية من الداخل.

والمفارقة أن تلك الأبنية، التي كان يُفترض أن تكون معابد للشفافية، تحولت إلى حصون للسراب. فيها جيوش من المذيعين والصحافيين والكتبة، يعملون ككهنة لوهمٍ مقدّس، يتلوّن نصوصاً معدة سلفاً، يزيّنون الخطاب، ويجمّلون العبارات، ليُقدَّم للشعب على أنه “الحقيقة”. في حين أن الحقيقة كانت في الأزقة الضيّقة، في الأسواق الفارغة، في العيون المرهقة التي تفتقد الدواء، في القرى التي يلفّها الظلام، في المواصلات المتهالكة، في شباب يائسين يطرقون أبواب المجهول.

إنها معركة غير متكافئة بين واقع يتفجّر قسوة، وبين إعلام يحاول أن يَدفنه تحت طبقات من الألوان والصور. ومن هنا يتضاعف الألم: فليس القهر في الجوع وحده، بل في إنكاره. وليس العذاب في العتمة وحدها، بل في تصويرها على أنها نور. وليس القسوة في انعدام الخدمات وحده، بل في تحويلها إلى مادة للاحتفال الإعلامي.

فإلى متى يستمر هذا الخداع؟ إلى متى يبقى المواطن حبيس شاشات لا تنقل صوته، بل تسخر من معاناته؟ إلى متى يبقى الإعلام متحضّراً في تزييفه، متقناً في خداعه، مخلصاً في انحيازه إلى الوهم؟

إنها صراحة لا بدّ أن تُقال: الكذب والخداع والحيل لم تعد مجرد أدوات طارئة، بل أصبحت نهجاً ثابتاً لإعلامنا المتحضّر. فإلى متى يظل هذا النهج سائداً؟ وإلى متى يبقى الناس صامتين أمام آلة إعلامية لا تجيد سوى بثّ الأوهام؟

العرب اللندنية

Scroll to Top