المعارضة السورية و”البعث الحقيقي”

كورد أونلاين |

رستم محمود

عندما اعتُقل زعيم الحركة القومية التركية المتطرفة ألب أرسلان توركيش، عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال القومي كنعان إفرين في تركيا عام 1980، وأثناء محاكمته بسبب مشاركته مع حزبه في الحرب الأهلية طوال عقد السبعينات، واغتياله لآلاف السياسيين والناشطين اليساريين، كان توركيش يشد أزر مؤيده قائلا: “نحن في السجون، لكن أفكارنا وأشقاءنا يحكمون تركيا”، في إشارة إلى عدم أهمية اعتقاله، طالما أن الجنرال الحاكم كنعان إفرين ينفذ فعليا وبوضوح كل النزعات والاستراتيجيات القومية المتطرفة التي كان يقوم بها حزب “الحركة القومية التركية”.

لا يبدو ذلك المنطق بعيدا كثيرا عن العلاقة الأيديولوجية المركبة بين المعارضة السورية، أفرادا وتنظيمات ونظام الحكم. حيث تقف هذه المعارضة، وفي مرات ومناسبات لا تُعد، على اليمين الأيديولوجي للحكم، الذي تدعي معارضته جذريا، تُجرمه وتدعي مناهضته بالمطلق، بل تقرأه وتعتبره “الشر المطلق”. لكنها فعليا، تشاركه في استراتيجيته وأيديولوجيته ورؤيته للعالم، في سلوكه التنفيذي ووعيه للمجتمع والحياة العامة، وقبل كل شيء خصائصها النفسية والمنطقية الرئيسة، التي تسمى في مجموعها الأيديولوجيا المهيمنة.

أية متابعة مبسطة لمسيرة هذه المعارضة، تحديدا منذ عام 2011، حين صارت قوة سياسية حقيقية، مسيطرة على مساحات من الأرض وأجزاء من المجتمع السوري، منخرطة في الألعاب والتوازنات الإقليمية والدولية، تدلنا مباشرة على “خواء الفروق الأيديولوجية” بينها وبين النظام الحاكم. تنافي الفروق الأيديولوجية يدفعنا لتأطير نوعية الصراع بينهما، على أنه مجرد تناحر مستميت على السلطة فحسب، لا على الدولة ونمط النظام السياسي ونوعية علاقة المجتمع بالدولة وأجهزته ومواثيقه التأسيسية، وتاليا، على شكل الحياة نفسها.

في التحليل الأيديولوجي، تخضع منظومة الحكم السورية لمفاهيم ورؤية حزب “البعث”، القومية الشعبوية، فاقد الجذور لأية علاقة مع الوطنية السورية، ومنفذ سياسات المحق القومي بحق الجماعات العرقية غير العربية في سوريا. الحزب غير المعتد إلا بالشعارات الخطابية، والجاهز لإفراغ كل ما يدعيه من مضمونه، غير المبالي بالمجتمعات وتطلعاتها وتنوعها، ممجد الأنظمة المركزية وصاحب السجل الدامي في مجال حقوق الإنسان.

هل من شيء يناقض كل ذلك في المضامين الداخلية لما تفعله وتقوم عليه المعارضة السورية، بكل تياراتها، من حركة “الإخوان المسلمين”، الراعي الرسمي للميليشيات والفصائل الإسلامية المسلحة المتطرفة، التي تنفذ إبادة ثقافية وجنائية جماعية بحق الأكراد في منطقة عفرين مثلا، ومحق عام في باقي مناطق سيطرتها، وصولا إلى حزب “الاتحاد الاشتراكي” المعارض، المتيم برمزية وسيرة جمال عبد الناصر، المدمر الحقيقي للديمقراطية السورية، الحزب الذي انسحب من تشكيلة المعارضة السورية عام 2008، لأنه اعتبرها غير متحمسة في دعمها لتنظيمات وأفعال أبو مصعب الزرقاوي في العراق.
قبل ذلك، أية فروق أيديولوجية وفكرية بين حزب “البعث” الحاكم وهذه المعارضة السورية، أفرادا وتنظيمات، طالما يعترض هؤلاء المعارضون بحماسة منقطعة النظير على تغيير الاسم الرسمي لسوريا بأي شكل، والإصرار على إبقائه ككيان مملوك لجماعة عرقية قومية وحيدة فحسب، أو من يعتبرون أنفسهم رهينة للنزعة القومية من أعضاء هذه الجماعة.
مع الأمرين، كيف لمراقب أن يتأكد من اختلاف هذه المعارضة عن الحزب الحاكم، طالما أنها لم تقدم طوال هذه السنوات- وعلى الرغم من فداحة أحوال السوريين خلالها- أية مضامين وطروحات سياسية قد تناقض طروحات حزب “البعث” جوهريا؟
وهذه المعارضة، بكل أطيافها، تزايد على نظام الحكم السوري في ما خص مسألة مستقبل السلام الإقليمي بالمنطقة، تحديدا مع إسرائيل. تفعل الأمر نفسه في ما يتعلق بالنظام المركزي للبلاد، حيث الإصرار على المركزية لا يتقصد فعليا إلا منع أية نزعة سياسية أو تنوع ثقافي غير مركزي من الظهور على سطح المتن العام. وكما الحكم الحالي تماما، لا تجد هذه المعارضة نفسها إلا ضمن شبكة واسعة من الروابط والعلاقات الزبائنية مع دول الجوار وأجهزتها الأمنية واستراتيجيتها التي تتوخى الهيمنة على سوريا فعليا. فما الفرق بين علاقة النظام السوري بإيران وما يناظرها من علاقة المعارضة السورية بتركيا؟ فوق ذلك، ما معنى هذا التشكيك والرفض الأسطوري لكل تجربة وفعل قد يُقدم عليه السوريون الآخرون، من خارج ملتهم العصبوية وسيطرتهم السياسية، كما في تجربة الإدارة الذاتية “الكردية” شمال شرقي سوريا. حيث لو قُدر للمعارضين السوريين لسبقوا نظام الحكم في محقها، ولأوقفوا معارضتهم له لو فعلها هو.
بعض العبارات الجاهزة والمغلقة التي تستخدمها هذه المعارضة في خطابها العام “النظام المدني الديمقراطي”، و”دولة المواطنة المتساوية”… إلخ، لا تزيد عن كونها مجرد عدة عمل تقليدية، خالية من أي مضمون وقيمة، سبق للحكم أن استخدم ترسانات منها: “وحدة حرية اشتراكية”، “اليد العاملة هي العليا في دولة البعث”، و”الصمود والتصدي”، يقمع بها كل الطروحات النظيرة، ويستر بها عورته، كتيار ليس له قضية سوى السلطة.
يحدث ذلك بشهادة الأوضاع العامة في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة شمال غربي سوريا، حيث تشبه الحياة العامة هناك، من حيث سيطرة الميليشيات ومحق الحياة المدنية وشدة هيمنة المتطرفين ومدى الفوضى القانونية والهتك الذي يشعر به الناس، ما كانت عليه أوضاع دولة مثل أفغانستان في ظل حُكم حركة طالبان.
حينما خرج زعيم الحركة القومية التركية المتطرفة ألب أرسلان توركيش من المعتقل بعد أربع سنوات من الاعتقال، صار، لغير صدفة، حليفا سياسيا للقوى السياسية التي أيدت انقلاب كنعان إفرين، الذي اعتقل وحاكم وسجن توركيش خلال هذه السنوات، ولغير صدفة أيضا، فضحت الوثائق المكتشفة خلال العقود اللاحقة، كيف أنهم معا كانوا جزءا من تنظيمات سرية مشتركة، تسمى في تركيا “الدولة العميقة”، وغالبا سيكون اسمها في سوريا المستقبل “البعث الحقيقي”.

المصدر: المجلة

شارك هذه المقالة على المنصات التالية