خمس سنوات عجاف وسكان مدينة عفرين المحتلة يقاومون التغيير الديمغرافي
تُعرف بطبيعتها الخلّابة وهوائِها العليل، وموقعها التاريخي المتميز في أقصى الشمال الغربي من سوريا، حيث يفوح العَبق الزكيُّ من بين الجبال، مُجسّداً لحناً من حفيف الشجر وآثار الأجداد والأصالة.. هي مدينةُ عفرين، مدينة الزيتون، التي تغنّى بها الشعراء الكرد، فقال أحدهم مُتيّماً: عفرينُ فاحَ شذاكِ فـي الأطــــــــــــيابِ ** في لوعتـــــــي في ضحكتي وشبابي ** في أيّ أوفٍ قدْ غرفـــــــــــتُ وشدّني ** عَبقٌ من الزّيتــــــــون والعِنّـــــــــابِ.
أهمية عفرين
تقع عفرين في منطقةٍ جبلية، يتراوح مُعدّل الارتفاع فيها ما بين سبعِمئةٍ إلى نحو ألفٍ ومئتين وسبعين متراً، في الجهة الشمالية الغربية لمدينة حلب، إحدى أكبر المدن الصناعية في المنطقة العربية، والأولى في سوريا.. يبلغ عددُ سكان عفرين أكثرَ من نصف مليون نسمة، غالبيتُهم من المكون الكردي، ويتوزّعون على سبعِ نواحٍ، أبرزها مركز المدينة وجنديرس وشران.
طبيعة عفرين الجغرافية ومناخها المتوسطي جعل منها بيئةً خصبةً لمُختلَف الزراعات، وخاصةً الزيتون، الذي اشتهرت به بعدما تجاوز عددُ أشجار الزيتون هناك ثلاثة عشر مليون، إضافةً لزراعات الحبوب والخضار والفواكه بمختلف أصنافها، والتي غطّت مساحاتٍ شاسعةً من المنطقة، لتصبحَ بذلك سلّةً زراعيةً.. غذائيةً.. اقتصادية هامة في البلاد.
أهمية عفرين لم تقتصر على الزراعة فقط، بل كان للقطاع الصناعي والسياحي نصيبٌ كبير، تجلّى في الأوّل بصناعات السجاد اليدوي واستخراج زيت الزيتون والصابون والبيرين، وهي مادةٌ من مُخّلفات الزيتون المجروش، فيما تبلوَرَ الثاني في الطبيعة الخلابة والغابات المُنتشرة في مساحاتٍ واسعة، إضافةً إلى الجانب التاريخي..حيث تزخر عفرين بعدّة مواقعَ أثرية.
في العام ألفين وأحد عشر ومع اندلاع الحِراك الشعبي في سوريا، انخرط سكان عفرين في ذلك المسار، ونظّموا عدداً من المظاهرات المندّدة بالفساد الحكومي والذهنية الأمنية والإقصائية للحكومة السورية، قبل أنّ يتّخذ العفرينيون – مع انحراف الحراك نحو التسليح وارتباطه بأجنداتٍ خارجية – خطّاً ثالثاً، اتّسم على مدار سنواتٍ بالسلمية والتخطيط وإدارة المنطقة ذاتياً.. سنواتٌ لم يكن يعرف سكان عفرين أنها ستنتهي بحكايةِ معاناة، عنوانها الأطماع التركية.
تركيا تهدد بهجوم بري في عفرين
أواخرَ العام ألفين وسبعة عشر، وخلال فترةٍ كانت تُحاك فيها الصفقاتُ بين الأطراف الإقليمية المنخرطة في الصراع السوري، بدأ النظام التركي برئاسة رجب أردوغان، والذي لم يُخفِ نواياه الاستعمارية في الشمال السوري، بالتلويح بمهاجمة المنطقة، تحت ذرائعَ وحججٍ واهية، استخدمها سابقاً لشنِّ هجماتٍ مماثلةٍ في شمالي سوريا عام ألفين وستة عشر، وأفضت في النهاية لاحتلال مساحاتٍ كبيرة من الريف الشمالي لمحافظة حلب.
مع حلول العام ألفين وثمانية عشر، أبدى المجتمعُ الدولي مواقفَ خجولةً ومُريبةً إزاء التهديدات التركية، والحديثُ هنا عن المنظمات الأممية والدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة، إلى جانب روسيا وإيران، اللتين تُعتبران شريكاً لتركيا في مراقبة وضمان وَقف إطلاق نارٍ أُعلن عنه في مناطقَ متفرقةٍ من سوريا، وأُطلق عليه فيما بعدُ مناطق خفض التصعيد، بموجب اتفاقيةٍ وُقّعت في آستانا عاصمة كازخستان عام ألفين وسبعة عشر، لتشكّل تلك المواقفُ دافعاً لأنقرة، لتنفيذ تهديداتها بدون أي رادع، سيّما وأنها بدأت فعلياً بالتمهيد للهجوم الرئيسي، عبر سلسلة عمليات قصفٍ مدفعية وصاروخية طالت الريف العفريني.
في ذلك الوقت كانت وَحدات حماية الشعب، إحدى أبرز التشكيلات العسكرية لقوات سوريا الديمقراطية، تتحضّر للردِّ على أي هجومٍ تُركيٍّ مُحتمل، وهو ما أكده مسؤوٌل في الوحدات، حين قال إنهم على أتم الجاهزية للدفاع عن عفرين، بينما كانت الحكومة السورية وقواتها تقف موقفَ المتفرّج لتهديدات أنقرة، مكتفيةً بإدلاء التصريحات المُندّدة.
في الأثناء، كانت قوات سوريا الديمقراطية، شريكُ التحالف الدولي لهزيمة داعش، المنشغلةُ أساساً بمحاربة التنظيم الإرهابي وتحرير المناطق السورية من ظلامه، تنظر بعين الحذر للتهديدات التركية، التي وصفتها بالمفاجِئة وغيرِ المبررة، وقالت إنّ أي هجومٍ تركيٍّ سيجعلها مضطرةً للدفاع عن نفسها، في تحذيرٍ واضحٍ من انعكاسات ذلك على جهود محاربة داعش.
في التاسع عشر من كانون الثاني / يناير لعام ألفين وثمانية عشر، وزارة الدفاع الروسية تُعلن وبشكلٍ مُفاجئٍ انسحاب قواتها المتمركزة في منطقة عفرين، ونقلَهم إلى منطقة تل رفعت شمال مدينة حلب، لضمان سلامتهم، في ظلِّ التقاريرِ التي تتحدث عن هجومٍ تركي محتمل.. الأمرُ الذي اعتُبرَ بمثابة الضوء الأخضر لبدء المخططات التركية في تلك المنطقة من سوريا.
يوم الهجوم
يومَ السبت، العشرين من شهر كانون الثاني / يناير، لعام ألفين وثمانية عشر، وفي وقتٍ كان سكان عفرين يعيشون حياةً آمنةً ومستقرة.. أعلن النظام التركي، برئاسة رجب أردوغان، بشكلٍ رسمي بدءَ عدوانه الهمجي على المنطقة، بمشاركة فصائلَ إرهابيةٍ تابعة له، تُطلق على نفسها اسم الجيش الوطني السوري، لتُسارع المقاتلات الحربية التركية بتمهيد التقدّم البري لتلك الفصائل، باستهداف مختلف النواحي والقرى الآهلة بالسكان، في خرقٍ واضحٍ وفاضحٍ للقوانين والمعاهدات الدولية.
مع اللحظات الأولى للتوغّل البري المدعوم بنيران الطائرات الحربية، أفادت التقاريرُ الأولية الواردة من عفرين، بارتكاب عدة مجازرَ بحق السكان المدنيين، شملت مختلف نواحي المنطقة، بما فيها معبطلي وجنديرس ومركز مدينة عفرين، إضافةً لناحية شيراوا، مُخلفةً عشرات الضحايا.. عائلاتٌ كاملةٌ مع أطفالها وشيوخها ونسائها، باتت تحت أنقاض المنازل المدمرة، مشاهدُ الدمار سادت كاملَ المدن والقرى في المنطقة.
الأيام الأولى للهجوم التركي شهدت دفاعاً مُستميتاً من قوات سوريا الديمقراطية ومجموعاتٍ محليةٍ من سكان المنطقة، والتي خسرت عدداً من مقاتليها خلال عمليات التصدي، لكن صمتَ المجتمع الدولي وقوات الحكومة السورية، التي لطالما تبجحت بالسيادة الوطنية، حال دون تمكّن وحدات حماية الشعب من إيقاف تمدّد عشرات آلاف الجنود والعناصر، من جيش النظام التركي والفصائل الإرهابية التابعة له، المدججين بأسلحةٍ متطورةٍ وفتاكة.
يومَ الخميس، الأوّلَ من شباط / فبراير، وصل جيش النظام التركي وفصائلُه الإرهابية إلى سفوح جبل “دارمق” واحتلَّ ناحية بلبل الاستراتيجية شمالي عفرين، إضافةً لعشرات القرى الممتدة على مساحةِ أكثرَ من تسعين كيلو مترٍ مربعٍ، وسط تزايدٍ في عدد الضحايا المدنيين، ورصد خسائرَ ماديةٍ كبيرة في الممتلكات والمنشآت الحيوية في المنطقة.
في تلك اللحظات كانت دمشق تواصل التفرّج على مظاهر الدمار التي تُخلّفها الهجمات التركية، وسط محاولاتٍ حثيثةٍ من الساسة هناك، لاستغلال تحرّك أنقرة وتحقيق مكاسبَ ميدانية، تُفضي لإعادة سيطرة القوات الحكومية على عفرين ومحو الإرادة الشعبية لأبناء المنطقة، في استهتارٍ واضحٍ بمعاناة السكان، وتخلٍّ مكشوفٍ عن واجباتها في الدفاع عن سيادة البلاد.
ومع استمرار فشل الحكومة السورية في إخضاع إرادة العفرينيين، عمدت دمشق في العشرين من شباط / فبراير إلى إرسال مجموعاتٍ قليلةٍ من قواتٍ مواليةٍ لها تُعرف باسم القوات الشعبية إلى ساحات المعارك، والترويج على أنها قوّاتٌ حكوميةٌ رسمية، في محاولةٍ لخداع الرأي العام الداخلي، قبل أنّ تتعرّض تلك القوات لهجماتٍ من جانب الاحتلال التركي، أسفرت عن وقوع خسائرَ بشريةٍ في صفوفها.
احتلال مركز عفرين ومحيطها
في غضون ذلك، كان جيش النظام التركي والفصائل الإرهابية التابعة له تواصل تقدّمها الميداني في مناطق عفرين، مرتكبةً مزيداً من المجازر بحق السكان، وسط مقاومةٍ عنيفةٍ من وحدات حماية الشعب والقوات المحلية المُدافعة، لتُعلن أنقرة خلال الأيام العشر الأولى من آذار/مارس، احتلالَ ناحيتي راجو وجنديرس، والوصولَ إلى ضواحي مركز مدينة عفرين، وفرضَ طوقٍ عسكريٍّ شبه كاملٍ عليها، مع قطع إمدادات الكهرباء وخدمات الإنترنت.
في الخامس عشر من آذار/مارس عمد الاحتلال التركي إلى تكثيف غاراته الجوية وهجماته المدفعية والصاروخية على البُينة التحتية في مركز مدينة عفرين، لتطالَ المشافي والأفران، ما أسفر عن وقوع عشرات الضحايا المدنيين، والتسبّب بأزمةٍ إنسانيةٍ كبيرة، لتُعلن أنقرة بعد يومين، بدءَ توغّل قواتها وفصائلها الإرهابية إلى وسط المدينة.
مقاطعُ فيديو عديدةٌ انتشرت آنذاك للحظة استهدافِ الجنود الأتراك للرموز التاريخية الكردية في المدينة، بما فيها النَصب التذكاري لتمثال كاوى الحداد، في خطوةٍ استفزازيةٍ أكدت لسكان المنطقة النوايا الحقيقية لهذا الهجوم، لتمضي الساعاتُ سريعةً ذلك اليوم، ويُعلن النظام التركي بشكلٍ رسميٍّ احتلالَ مركز مدينة عفرين في الثامن عشر من آذار / مارس.
بعد خمسة أيامٍ على خسارة مركز المدينة، شهدَت خلالها المنطقةُ معاركَ طاحنة، أعلن النظام التركي احتلالَ منطقة عفرين بشكلٍ شبه كامل، باستثناء بعض القرى في ناحيتي شران وشيراوا، إثر قرارِ المُدافعين عن المدينة الانسحابَ حرصاً على أرواح المدنيين، وتجنيب المنطقة المزيدَ من الدمار، ليُسجّلَ بذلك يومُ الرابع والعشرين من آذار / مارس من عام ألفين وثمانية عشر، بدايةَ أوّل فصول الانتهاكات التركية في مدينة الزيتون، مُخلّفةً مئات الضحايا المدنيين ومئات آلاف المُهجّرين، وسط غفوةٍ من المجتمع الدولي والقوى المُنخرطةِ في الصراع السوري.
عفرين في ظل الاحتلال
ما هي إلّا أيامٌ قليلةٌ على إعلان احتلال عفرين، حتى بدأ النظام التركي بشكلٍ عَلنيٍّ تنفيذَ مخططاته في المنطقة، انطلاقاً مِن ترهيب مَن تبقّى من السكان الأصليين، مروراً بتخريب ونهب تاريخها وخيراتها، وصولاً إلى تغيير ديمغرافيتها، عبرَ إنشاء مشاريعَ استيطانيةٍ لعشرات الآلاف من المستوطنين من عوائل الفصائل الإرهابية، بعد استقدامهم من مناطقَ سيطرت عليها الحكومة السورية، إثر صفقاتٍ مُبرمةٍ بين أطراف الحرب السورية.. مشاريعُ أعلنتها صراحةً بعضُ الدول الخليجية الداعمة للإخوان، وفي مقدمتها قطر، تحت شمّاعة الإنسانية.
خمسةُ أعوامٍ كاملة مرّت على احتلال عفرين، ولا تزال الانتهاكاتُ المستمرة والتغيير الديمغرافي هو الواقعُ السائد في تلك المنطقة، بحسب توثيقاتٍ حقوقيةٍ شملت ما يزيدُ على ثلاثة آلاف جريمةِ قتلٍ وأكثرَ من ثمانية آلافٍ ومئةِ جريمةِ اختطاف، إلى جانب قطع مئات الآلاف من أشجار الزيتون وتدمير مئات المواقع الأثرية، بما فيها قلعةُ النبي هوري بناحية شران، ناهيك عن إنشاء المستوطنات وتوطين آلاف العوائل من خارج المنطقة، مع اجراءاتٍ أُخرى شملت تغييرَ أسماء المناطق والشوارع وبيع ممتلكات السكان الأصليين.
مراقبون للشأن السوري ومنظماتٌ حقوقيةٌ دقّوا ناقوس الخطر جراء استمرار الانتهاكات التركية في عفرين، وسط مطالباتٍ بضرورة انسحاب الاحتلال التركي من الأراضي السورية، وتحذيراتٍ من مخططاتٍ أعدّتها أنقرة مُسبقاً، لتغيير ديمغرافية الشمال السوري، والتمهيد لاقتطاعه عن سوريا، وَفق اتفاقاتٍ معينةٍ عبر سياسةٍ بشعةٍ تعتمدُ أساليب الترهيب والتضييق على السكان الأصليين، سيما بعد احتلال منطقتي رأس العين / سري كانيه وتل أبيض / كري سبيه، عام ألفين وتسعة عشر.
أكثرُ من عقدٍ على اندلاع الأزمة في سوريا، ولم يتوصّل السوريون بعدُ إلى تسويةٍ سياسيةٍ تُنهي هذه الحرب، في وقتٍ تستغلُّ القوى والأطراف الدولية والإقليمية هذا الصراع، لتقاسُمِ المكاسب على حساب الشعب السوري، لتصبحَ البلاد مسرحاً لصراعٍ دولي بين الولايات المتحدة وروسيا، لم يتّفق إلّا على تمكين حليفتهما أنقرة من احتلال ما يصلُ إلى تسعة آلافِ كيلو مترٍ مربعٍ من الشمال السوري، بمساحةٍ تُقارب مساحةَ جزيرة قبرص.. فإلى متى ستدوم غفوة السوريين.
المصدر: قناة اليوم
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=15163