الأحد, ديسمبر 29, 2024

د. محمود عباس: الميديون الساسانيون الكرد 1/2

حلقة توضيحية، حول قضية ندرة ورود اسم الكرد في التاريخ، متممة للحلقات التي ننشرها (هل كان للكرد أدباء وفلاسفة قبل الإسلام) و(مصداقية المثقف العربي…) …
لا بد وأن وراء عدم ذكر اسم الكرد في الكتب التاريخية القديمة بقدر ما ورد اسم الفرس والعرب، وفي الآثار الأركيولوجية؛ وكذلك في نصوص الديانات السماوية، وغير السماوية! ظاهرة غريبة، أو قدر لم يتوفق فيه الكرد، فيما لو آمنا بالجبرية، وبالتالي خيمت عليهم إشكالية تاريخية، استفاد منها أعداؤهم بقدر ما جلبت عليهم من مصير قاتم ومؤلم.
علماً أن الواقع الجاري، ورغم كل العوامل الموضوعية المعاكسة للوجود الكردي، فهم اليوم يحتلون جغرافية مترامية الأطراف، وديمغرافية لا تقل عن الفرس والترك والعرب، فيما لو تم تصفية هذه الشعوب من عمليات التعريب والفرنسة والتتريك، ولا يعقل أن ينوجد هذا الشعب، فجأة خلال القرون القليلة الماضية، أو من شبه العدم أو التعتيم التاريخي، وبلغته المركبة من لهجات متينة، وركيزة قواعدية وأدبية تجاري لغات الشعوب المجاورة، لها دولها على مدى قرون، في الوقت الذي واجهت اللغة الكردية ولا تزال تواجه حركة عدائية لتطورها وتطويرها.، وتعرض كمجتمع وتاريخ على مدى القرون الماضية إلى كل أنواع العداء؟!
كثيرا ما تفرض احتماليات ظهور (كرد) كصفة ما، دينية أو نبالة، أو قوة، أو شعب يحتضن الكل دينيا وقوميا، مثل اللغة التي تعرف تحت اسم الكردية بكليتها، رغم تكوينها من عدة لهجات وبأسماء مختلفة، هذه الإشكالية تنطبق على المجتمع كمجموعات، تحت خيمة الشعب الكردي، وهكذا كان في الماضي العريق، مكونات اجتماعية، بنت كل واحدة منها إمبراطورية، من تحت الغطاء اللامرئي للشعب الكردي ومن حضنه، واستمر بروز الأجزاء تحت خيمة الكل، وهو الكرد، إلى أن فرض كاسم حمل الشمولية على القديم المحصور بالرموز والخصوصيات، وأنتشر كاسم شعب، له كليته دون الأخرين في المنطقة، وغطى على الأقسام، الذين جمعتهم البنية الديمغرافية، أو اللغة، أو الانتماء إلى شعب شمل الكل. ولا يستبعد بأنه تتالت التغييرات والتحويرات على الأسماء القديمة لأجزاء من المجتمع الكردي كالميديين والبارثيين والساسانيين، وزالت مع مرور الزمن، أو لتنحل في كلية الكرد الجامع، لتحل رحالها على تسميتهم الكلية (الشعب الكردي) في الوقت الذي ظل فيه أسم فارس أو الفرس المأخوذ من مملكة فارس، الواقعة في جنوب غربي الإمبراطورية الساسانية، وعاصمتهم اصطخر، على شعب تلك المقاطعة، وظلوا يعرفون بتلك الصفة، لأنهم، على الأغلب، لم يكن يملكون أجزاء متشعبة كالكرد. فحمل التاريخ اسمهم دون تغيير، بل وتصاعدت فيما بعد لتطغى على تاريخ شعوب المنطقة الإيرانية، ومن ضمنها تجاوزاً على الساسانيين، والذين إذا كان هناك صفة يجب أن تعرف بها هذه الحضارة والإمبراطورية، ستكون الصفة الكردية.
ومن الأهمية ذكره، لمعرفة حجم مملكة فارس في فترة الإمبراطورية الساسانية، مقابل الميدية وبرثيا، يجب معرفة الأقاليم التي تكونت منها الإمبراطورية، وهي حسب كتاب (تاريخ إيران في عهد الساسانيين) للمؤرخ آرثر كرنستنسن، الصفحة (126) ” وقد أثبت أمين مارسلن بيانا بمعظم الولايات التي كان يحكمها في زمنه بيدخشات (وملوم وستاربه. وهذه الولايات هي: آشور وخوزستان، وميديا، وفارس، وبرثيا، وكرمان الكبيرة، وهيركانيا (جرجان)، ومرو، وأقاليم بلخ والصفد، والساج، والسيت وراء المودون، وسريكا، وهراة وأقاليم باروبانيزاد ودرانجان، (سجستان) وآراخوزى، وجدروزى،” فمملكة فارس بعد سقوط الإمبراطورية الأخمينية، لم تكن بالأهمية التي برز اسم ساكنيها فيها فيما بعد في التاريخ ما بعد الإسلام، فيقول الجغرافي والمؤرخ الإغريقي سترابون (64ق.م-23م) كتب في الجزء الـ(15) من كتابه في القسم3-الصفحة(24) “كان للفرس ملوكهم خاصة، ولكن هؤلاء كانوا بلا حول ولا قوة فقد كانوا تابعين لملوك البرث “ فمملكة فارس لم تكن سوى إقليم بين أقاليم عديدة، تنامت فيما بعد، كما يقول آرثر كريستنسن في الصفحة (494) ” أيام السامانيين وهم أول من أحيا الروح الفارسي”. ومن المعروف أن الفرس قدموا من أحضان الحضارة الاشكانية والأخمينية، وكانوا جزء بسيطاً من الساسانية. أما السامانيين فقد حكموا ما بين(261هـ-389هـ) ويذكر بعض المؤرخين أن جدهم سامان ينحدر من بهرم جوبين أحد ملوك ساسان، وهو كردي كما ورد عند ذكر زواج كسرى لأخته الكردية “الشيطانة”. دخل سامان وأولاده الإسلام في منتصف القرن الثاني الهجري، واتسموا بالصفة الفارسية، لأنهم أحيوا لغتهم التي كادت أن تتلاشى تحت سيطرة اللغة العربية (لغة القرآن) وفي عهدهم برز عدد من العلماء والفلاسفة أمثال ابن سينا، والفارابي، والخوارزمي، والفردوسي والسيرافي وغيرهم. كما نشطت حركة الترجمة من اللغات الأخرى إلى الفارسية، وبالتالي برزت اللغة الفارسية كلغة ثقافة وعلم من جديد، وكتب بها العديد من العلماء المسلمين. ولهذا يعود لهم الفضل في أحياء الفارسية “البهلوية الفارسية” لغة وشعبا وتاريخاً.
يتزايد احتمالية مصطلح كرد كصفة كلية لشعب يتكون من شرائح عديدة، أو لنقل قبائل بلغت مستويات تكوين إمبراطوريات، من خلال كتابات بعض المؤرخين، أمثال القائد الإغريقي كزينفون، أثناء عودة العشرة آلاف، وعندما يأتي على المصاعب التي تعرض لها أثناء مروره بين جبال زاغروس وطوروس، وما بعدها، فيسمي شعب المنطقة بـ “كاردوخ أو كاردا” ، وهكذا صفهم المؤرخ استرابون، ولم يسموهم بالساسانيين، وكانوا جزء من مجتمع المنطقة قبل أن يشكلوا إمبراطورتيهم، ولا بالميديين الذين كانت دولتهم وحضارتهم قد تحولت إلى الأخمينية، أو احتلت من قبلهم، ولا الفرس الذين كانوا يسمون بالأخمينيين حينها. وهنا تظهر الرؤية الخارجية لهذا الشعب بكليته المسيطرة على المنطقة التي كانت تعرف باسمهم الشامل (كرد)، وليست بأسماء الأجزاء الذين كانوا يشكلون حكومات، وإمبراطوريات أو يبنون حضارات، وهو ما حصل في المراحل اللاحقة، في ظل الخلافة العباسية، والعثمانية، وحيث ظهور ممالك وإمارات كردية في جوهرها، لكنها عرفت ولاتزال تعرف حتى الأن في التاريخ بأسماء مؤسسيها، إن كانوا أشخاصا أو عائلات، أو قبيلة كردية، وحتى القريبة منها، كجمهورية مهاباد، فنادراً جدا ما توصف بجمهورية كردستان، واليوم هذه الظاهرة لا تزال دارجة، فمعظمنا نعرف الأقاليم المحتلة في الأجزاء الأربعة بأسماء وخواص أغلبيتها، تعكس صفتها الكردستانية بشكل غير مباشر.
وبالمقابل فإن المقارنة والاستقراء التاريخي، توضح خلفية أخرى، عتمت عليها لأسباب وأصبحت غامضة مع التاريخ، لكنها لا تنقص من احتمالية انتماء العائلة الساسانية، مؤسسو الإمبراطورية، إلى الشعب الكردي، أي كانوا جزء من الكرد، خاصة وأن التاريخ يؤكد كردية مؤسسها الأول، والتي يصفهم بها المؤرخون، كالطبري وغيره من باب التهكم والدونية، أردشير الأول أبن باكك ابن ساسان(الكردي) المتزوج من عائلة البارزنجيين الكردية. يقول المؤرخ أرثر كريستنسن في كتابه (تاريخ إيران في عهد الساسانيين) الصفحة(73) أن ” ساسان، وهو من عائلة نبيلة، متزوج من فتاة من بيت البارزنجيين، سادناً لبيت نار هيد (أنا هيتا) في اصطخر. وقد استفاد ابنه بابكك، الذي خلفه في وظيفته، من صلته ببيت البارزنجيين فنصب واحدا من أولاده الصغار، أردشير(ارتخشتر) في الوظيفة العسكرية الكبرى، أرككبذ على مدينة دارابجرد.” وفي المراحل اللاحقة من توسع الإمبراطورية، أصبح الشعب الكردي والذي من ضمنهم الساسانيين والميديين والبارثيين جزء من الإمبراطورية، لتوسعها وسيطرتها على شعوب عديدة، وعلى مدى القرون الأربعة من حكمها كان الكرد ركائز الدولة، وبناء الحضارة الساسانية، وملوكها كانوا من العائلات الكردية الست الرئيسة المتنفذة في الإمبراطورية.
لم يتخلص معظم المؤرخون، والفقهاء الكرد، من محاولات التبرؤ من أصولهم الكردية، حتى الذين خرجوا من حضانة المجتمع الكردي، وكانوا يتكلمون لغتهم الأصلية، أمثال ابن خلكان، ففي كتاباته، يمكن ملاحظة أسلوب غريب ، ففي أثناء الكتابة عن الفرس والعرب يذكرهم بصفتهم القومية، وعند عرض الشخصيات الكردية أو ملوكهم، يلصق بهم صفة الأعجمي أو العجم، فلا هو يصفهم بالفرس ولا بالأراميين أو السريان، درج هذا التعتيم في كتابات جميع المؤرخين، وحتى في فترات جدا متأخرة، بعضهم حاول التهرب منها تحت حجة الانتماء إلى الأمة الإسلامية، لكن الحجة تلغى لأنها أثناء ورود أسم الفرس أو العربي لا تطغى عليهم صفة الأمة الإسلامية، بل سارت فقط على العنصر الكردي دون غيرهم من شعوب المنطقة، ولربما لهذه خلفيات أخرى، لا بد من دراستها لمعرفتها!
هذا التردد والحيرة ظلت مخيمة، وخلفت الضبابية التي راودت التطورات المتلاحقة على أسماء وصفات شعوب الحضارات الإيرانية إلى أن تعاظم أسم الكرد ما بعد القرن الثالث الهجري. ففي الفترة الأولى من الحضارة الساسانية كان الاسم نادر الوجود، وكان له صفة خاصة، لحقت بأسماء الأشخاص أو أوصاف اجتماعية أو دينية معينة، وكان متمما لبعض الأسماء المعروفة، كاسم أحد ملوك الساسانيين المشهورين، (يزد كرد الأول والثاني والثالث) والكتب المقدسة بين الشعوب الساسانية ككتاب (الدين كرد) والتي كانت واحد وعشرين كتاباً، حددت فيها نص الأفيستا، وبقيت منها الثامن والتاسع وهي تعاليم الديانة الزرادشتية؟ …

يتبع…

د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
1/4/2107م

شارك هذه المقالة على المنصات التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *