الأحد, أكتوبر 6, 2024
القسم الثقافي

سعدي عبد الكريم و”الملائكة تهبط في بغداد”- قراءة: عبد الستار نورعلي

 

“الملائكة تهبط في بغداد”: هو اسم ديوان الشاعر والناقد والمسرحي والفنان التشكيلي العراقي سعدي عبد الكريم، والتي صدرت عن دار المتن 2023.

العنوان:

يُعتبَر عنوان الكتاب، أو أيّ نصِ إبداعي، عتبةً، ونصّاً موازياً، ومفتاحاً يُشرعُ أبوابه أمام المتلقي؛ للولوج في دواخله. لذا يُعَدُّ صياغةً مهمةً للنصّ والكتاب؛ لأنّه الجسر الذي يوصل بين الكاتب والقارئ. وتأتي أهميته من كونه العلامة والإشارة لما يتضمنه النصُّ، وما يكنزه من دلالة ومعانٍ وأفكار وإشارات، وصور فنية مُبتدَعَة خلّاقة، يعمل الكاتبُ على تقديمها وجبةً إبداعية، أو فكرية على مائدة المتلقي. وعليه يحاول ويجهد أنْ يُقدّمَ أفضل ما يمكنه من عنوان ليُحفّز، ويثير فضول، وذوق المتلقي ، ويغريه ليدخل النصّ، فيطالع، ويستقرئ، ويستكشف.

قد يكونُ العنوانُ كلمةً واحدة، أو جملةً، تلخّصُ بتكثيفٍ مضمونَ النصّ. ومن وظائفه أيضاً تقديمُ فكرة جامعة شاملة (وحدة موضوعية) رابطة لأجزاء الكتاب، أوالديوان الشعري بتعدد قصائده، وتنوّع صورها، وألوان مضامينها ومعانيها وحكاياتها. وقد يختار الشاعر عنوانَ ديوانه من خلال الخيط الرابط لما يتضمنه من معانٍ وأفكارٍ ودلالات وأحاسيس. أو يتألف العنوان من كلمة واحدة متعددة المعاني والإشارات. أو من عنوان إحدى قصائده، مثلما فعل شاعرنا سعدي عبد الكريم، حيث اختار لعنوان مجموعته اسم إحدى قصائدها “الملائكة تهبط في بغداد” إذ يقول فيها:

تمتلئ ساحاتُ التحرير بالدم .. والهتاف

والسماء تكتظُّ بالشهداء

امرأةٌ في رأسِ الزقاقِ

تخلعُ (شيلتها) ترميها إلى السماء

يحمّرُ وجهُ السماء .. ثمّ

تهبطُ الملائكةُ في بغداد

يحلُّوا ضيوفاً على بيوتِ الفقراءِ”

فالاختيار إذن، والحالة هذه، يكون للإشارة الى جامع المجموعة من معانٍ (وحدة موضوعية)، وهو الرابط الذي يربط النصوص داخلها بخيطِ واحد متصل واصل شامل يصوغ منها قلادةً منْ خِرَز مختلفةٍ ألوانُها، موحدٍ رباطُها (الخيط)، تحت مسمىً واحد (القلادة/ الديوان)، لتشعَّ بريقاً مُتحِّداً متعالقاً متشابكاً جذّاباً للرائي/المتلقي. لذا فإنّ قصائد المجموعة هي الخِرَز الملوّنة التي يربطها خيط (وحدة) واحد (موضوعية). وهذا ما نجده بجلاء في هذه الديوان قيد القراءة.

يتألف عنوان المجموعة الشعرية هذه – كما نرى – منْ ثلاثة كلمات: اسمين، وهما الملائكة وبغداد، وفعل مضارع (تهبط)، وحرف جرّ (في). وهي جملة ذات معنىً، ودلالة، وإشارة الى ما تحمله منْ خلفيات تختزن الكثير مما توحيه في ذهن ونفس القارئ:

(الملائكة): يتبادر الى الذهن من أول وهلة سؤال: هل المقصود الملائكة بالمفهوم المقدّس؟

حين نرجع الى الجملة المُستلّة من سياق القصيدة عنواناً لها وللديوان، وبالرجوع الى نصّها، نقولُ: نعم، هم المقصودون بالكلمة.

لكننا حينَ نتوغل في أجوائها، وزواياها، وإيحاءاتها – نقرأ التالي:

“تتيه الملائكة ..!

في أزقة .. ومقاهي .. وأحياء بغداد

تطاردها رصاصاتُ الغدرِ

وقنابلُ الغاز المُسيِّلة للدمِ

الملائكةُ تختنقُ .. تفقدُ وعيها!

تستلقي على الأرضِ

الباعةُ المتجوِّلون .. والشعراء .. والفقراء”

القصيدة تروي عن انتفاضة تشرين 2019 وأحداثها، وما جرى فيها ولها، والتي شارك فيها الشباب والكهول من مختلف طبقات الشعب العراقي: باعة متجولون، مثقفون، شعراء، فنانون، أكاديميون، فقراء الشعب، الذين تظاهروا من أجل حقوقهم الأساسية كمواطنين وبشر، يجمعهم هدف الإصلاح، والعدالة والمساواة، وحقّ العيش الكريم، منْ اجل لقمة العيش، والعمل. وكلهم نقاء وبراءة وصدق وطيبة مثل ملائكة السماء، لذا هبطت الملائكة لتحتضنهم، وتعيش بينهم. وهنا الملائكة الذين تاهوا في الأزقة والمقاهي، وأحياء بغداد، تطاردهم رصاصات الغدر، والقنابل المسيلة للدموع – هم كلّ من ذكرهم الشاعر في المقطع أعلاه داخل القصيدة. إذن فهم الملائكة مجازاً . وبذلك فالملائكة في عتبة العنوان هم المقدسون، وعامة الشعب من أنقيائه وأبريائه، وشهدائه، في هذه الانتفاضة، والذين سقطوا في الحروب العبثية للنظام الفاشي السابق. وحين نمرُّ على عديد قصائد المجموعة، وما جاء فيها من ذكر لشخصيات عايشها الشاعر سعدي عبد الكريم، منهم مَنْ رحل، ومنهم مقيماً في الحياة مازال، وحين يذكرهم مشيداً بخصالهم، وشخصياتهم التي تركتْ أثراً لم ينفكَّ عن نفسه وقلبه، فهو بذلك يضيفهم الى قافلة الملائكة المضيئين، وإلّا لما مرَّ عليهم، ليقدّمهم لنا شهداء وأحياء:

الوالدين وشقيقته رحمهم الله

القابلة المأذونه التي ولّدته

الأصدقاء

الشهداء منْ رفاق السلاح أيام الحرب

الشعراء: مظفر النواب، ابراهيم الخياط، رشدي العامل … وغيرهم

كلُّ هؤلاء هم ملائكة هبطوا في بغداد، بما قدّموه، وما حملوه في نفوسهم من طُهْر ونقاء، وعمل مثمرٍ  وخدمة. وهناك ملائكة ستهبط في بغداد كما هبط أولئك، ومنهم الشباب المنتفضّ في تشرين، فهم سيواصلون الهبوط، مكمّلين مسيرةَ أولئك الذين رحلوا إلى دار الخلود عند ربٍّ رحيم. وهنا الأملُ المُرتجَى من الشباب وثورتهم: ليقول في قصيدة “قرنفلة وثورة” عن انتفاضة تشرين:

يا ابن أمي ..

تعالَ نقتسمْ بيننا عشقَ العراقِ

ونوقدْ في دروبِ الفقراءِ مليون

شمعةْ..

ونحيلُ عتمتها نهاراً .. وأنهاراً

ووردةْ ..

فإنْ ضجّت هتافات الشباب

أينعتْ أغنياتٌ مناضلةٌ

وزهرةْ ..

ومواكبُ تضيءُ ليل العاشقينَ

لتحيل مواسم الأحزانِ

فرحةْ ..

شخصيات عثرَتْ على مؤلف/شاعر

عندما كتب المسرحي والشاعر الإيطالي لويجي بيراندللو (1867-1936) مسرحيته الشهيرة (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) كان يسعى لإثبات إزدواجية المعايير الاجتماعية من خلالها. لكنَّ المسرحي والشاعر العراقي سعدي عبد الكريم حين كتب في قصائده عن شخصياتٍ واقعية عايشها عن قربٍ: الأبوين والأشقاء، الأصدقاء، المعارف، رفاق السلاح في ساحات الحرب، أو شخصيات أخرى عامة، من خلال نشاطها السياسي، أو نشاطها الإبداعي، ومتابعة هذا النشاط، وسيرة شخصياته – كان يسعى من خلال ذلك إلى تثبيت تاريخ العراق الاجتماعي والسياسي والقيَمي في العقود الماضية، مثله مثل كثير من الشعراء. لكنّ الفرق أنّه خصّصّ ديوانه هذا لهذه المهمة؛ ليُثبتَ بهذا أنّ الشعر بحقٍّ هو ديوان العرب، مثلما قال القدماء.

فهو في مجمل قصائده عرض علينا الكثير من الشخصيات العراقية العامة والخاصة، ليسجّلَ شعراً تاريخَ العراق الحديث سياسياً واجتماعياً. هذا التاريخ الغارق في أحداثٍ جسام، واحتلالات، وغزواتٍ، وكوارث، وصراعاتٍ دموية، وظلمٍ وقهر، واستبداد، وحروب عبثيةٍ أودتْ بحياة الخيرة من شبابه آلافاً مؤلّفةً. إضافة الى اضطهادٍ وملاحقةٍ واعتقال وتعذيب الذين ناضلوا وانتفضوا، وقاوموا من أجل الحرية والعدالة والمساواة، والعيش الكريم، فكانَ السجنُ والتعذيبُ والقتل والاختفاء مصيرَهم. يقول في قصيدة “لم يبلغ بعدُ سنَّ التأمل”:

لم أعدْ بحاجةٍ لقطعة أرض في المقبرة

أشيِّدُ عليها قبري

فالوطنُ الذي أضاع شبابي

بالحروب ..

ونزق الساسة .. ومجون الطغاة

لم يُسجّل لي في دائرة العقاري

عقد امتلاك أرض

أو عقد ايجار طويل الأمد

قررتُ بمحض تفردي أن أُدفَن في العراءِ

دون قبر ..!

لكي .. لا أضايق الموتى

والشهداء .. والقتلى الأبرياء

ولا يدوس على قبري الحفاة

فأنا على موعد مع الحواري العِين

وفاكهة منْ كلِّ زوج اثنين

وأنهار من خمرٍ

سألتقي هناك بولدي البكر

الذي تلقفته الحرب الطاحنة

فأردته شهيدا

وهو لم يبلغْ بعدُ سنَّ التأمل

ويقول في قصيدته الرثائية في المرحوم أبيه (كم أنت جميل يا أبي حتى في موتك):

في محبسه الانفرادي

اصفَّرتْ سبابة أبي والوسطى،

منْ جمر السجائر، واللوعات

احتفلت به جدران السجن

بمناسبة إقامته الطويلة بينها

ماتت أمي كَمَداً في غيابه

فالقصيدتان أعلاه تختصران تاريخاً عراقياً مُثقَلاً بالاضطهاد والمطاردة والقضبان، والحروب والشهداء. وهو ما يسعى من خلاله شاعرنا سعدي عبد الكريم الى توثيقه شعرياً، وتوثيق ما لاقى العراق وشعبه من ويلات الحكام وطيشهم ونزواتهم، إذ يُطلقُ أيضاً صرخته المدوّيةَ في قصيدته “عملٌ منْ رجسِ الحكومات”:

في وطني لا نملك إلا الحزن

ولافتات سوداء مُعلّقة

على جدران البيوت الآيلة للسقوط

وأكوام القمامة!

تتناثر أجسادنا على قارعةِ الطريق

لا شيء في وطني غير الموت

والخيانة!…

أنا عاشق بدائي

آتٍ منْ أزمنة الحنظل

والنخل .. ألتحفُ الفقر دثاراً

من أول سوط نخر ظهري

في حجر التعذيب

وفي زنازين الحكومات المتعاقبة

والأمن السريّ!

هذه الصرخات التي يطلقها الشاعر هي أرخَنَةٌ للوقائع  والأحداث والزوابع والعواصف التي مرّت وتمرّ، وهبَّتْ وتهبُّ، على العراق دون انقطاع، وكأنها قدرٌ منَ الأقدارِ. وهي بذلك صرخةُ إدانة إنسانية لمعاناة شعب وقع بين براثن الذئاب البشرية التي يُسمَون حكاماً، ورعاةً مسوولين عن رعيتهم، كما قال الرسول الكريم.

وقد مرّ الشاعر من خلال رثائياته في الديوان على نفس الوقائع والزوابع والعواصف القاصفات قصفاً، التي تهبُّ على الوطن، منذ أن أصبح وطناً. رثائيات لشخصيات مثل الأبوين والشقيقة، وشهداء التعذيب في السجون، وشهداء الحروب العبثية الكارثية، والشعراء الذين عُرفوا بمواقفهم الوطنية، ونضالاتهم التاريخية، مثل مظفر النواب، وابراهيم الخياط، مروراً برشدي العامل… وغيرهم.

كما ضمّنَ قصائده الأخرى بعدد كبير من أسماء كبار شعراء العراق، في سياقها ومضمونها، وهو بذلك يشير الى عظمة العراق في ولادته لهكذا اسماء كبيرة عظيمة قدَّمتْ عصارةً مواهبها الإبداعية الشعرية، وتجاربها الحياتية، ومعايشتها لواقع أرضها، وتحمّلها المطاردةَ والاعتقال والسجن والتعذيب، وحتى سحب الجنسية، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصْر: الجواهري، النوّاب، السيّاب، إبراهيم الخياط، يحيى السماوي، گزار حنتوش، الحصيري، يوسف الصائغ … وغيرهم.

في قصيدته عن الراحل الكبير مظفر النوّاب (محاكمة النواب)  قدّم لنا الشاعرُ سعدي عبد الكريم المناضلَ والشاعرَ النوّابَ على شكل محاكمة، يجيب فيها النواب على أسئلة القاضي، ومن خلالها يذكّرنا بتاريخ مظفر النضالي ومواقفه الإنسانية والفكرية، ومحبة الناس له من طبقاتٍ مسحوقة مُهمَّشة مضطهَدَةٍ:

القاضي/ما اسمك؟

النوّاب/مظفر عبد المجيد النواب

القاضي/ أين تسكن؟

النواب/ في قلب الشعر

القاضي/من معك؟

النواب/ أحرار الشعوب

القاضي/هل أنت مذنب؟

النواب/نعم ..

مذنبٌ بحبِّ العراق

والفقراء ..

والضعفاء ..

والمساكين ..

والنائمين على الرصيف

…………

وهكذا حتى ختام القصيدة. وبهذا المشهد الشعري المسرحي نقرأ أثر تخصّص الأديب الفنان سعدي عبد الكريم المسرحي على خطابه الشعري، وأسلوبه في التعبير الفني، إذ يتسلّل السردُ خفيةً من خلف الستار ليدخلَ في جسد قصائده عفويّاً طبيعياً دون صنعةٍ. وبالنظر الى مجمل قصائد المجموعة نلحظ هذا التسلل الفنيّ، الذي يضفي عليها سمة القصة والحكاية، لكنْ في الوقت ذاته يبقى الشعرُ هو سيدَ الموقف بقامة عالية مطلَّةٍ من ذروتها على وادي القصيدة، مهندساً معمارياً بتخطيط هندسيٍّ شعري دقيق، وبلاغة مصاغةٍ بأنامل ماهرة، يقفُ خلفها تجربة شعرية ومسرحية وتشكيلية غنية طويلة الباع، والثقافة، والتجربة الحياتية الحبلى بالأحداث، والوقائع والتأمل، والمعاناة. وكلُّها كانت صقيلةً، فصقلتْ فنَّ سعدي عبد الكريم، بنحتها في نفسه، وذاكرته المتوقدة التي عرضتْ وتعرضُ علينا ما مرَّ به من أحداث شخصية خاصةٍ، ووقائع تاريخية عامةٍ، وذكرياتٍ حُبلى بالأحداث والشخصيات. كلُّ ذلك بقلمه اللمّاح، وحسّه الشعري، والفنيّ المسرحي والتشكيلي، ولغته الثريّة، وبلاغته العالية.

 وأخيراً، وليس آخراً:

في ديوان (الملائكة تهبط في بغداد) جوانبُ عديدة، وصوراً ولوحاتٍ مرسومة بالكلمات، يمكن الولوج في زواياها، والبحث فيما وراءها، والنظر فيها، وقراءتها نقدياً وبحثياً؛ لاستخراج ما تكتنزه منْ معنىً ومبنىً، مضموناً وشكلاً، لغةً وبلاغةً، وتناصّاً فنيّاً يضفي على الديوان غنىً منْ مثل عنوان قصيدته “عملٌ منْ رجسِ الحكومات”، وهو تناصٌّ مع القرآن الكريم في قوله تعالى:

“يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” (المائدة 90 )

وغيرها من التناصّات:

“قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ” (هود 40)

وذلك في قصة النبي نوح. حيث يردُ في قصيدة “أميرُ صعاليك بغداد”:

وأنادمُ الحور العِين من كلِّ لون

اثنين ..

اثنين ..

وأقضمُ الفاكهة من كلِّ زوجين

اثنين ..

اثنين ..

وكذلك هناك في النصّ أعلاه تناصٌّ آخر مع الكتاب الكريم، وهو (الحور العين)، وغيرهما في متن القصيدة.

يرد التناصّ في الديوان ليسَ مع القرآن الكريم فحسب، وإنّما مع الشعر العربي  أيضاً ، ولمختلف الشعراء، وهذه إشارة الى الثقافة الموسوعية المتنوعةِ الأجناس، مابين المسرح، والفنِّ التشكيلي، والشعر، والدين، وعموم الثقافة.

عبد الستار نورعلي

تموز 2023

الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين

شارك هذه المقالة على المنصات التالية