سوريا وإسرائيل.. من العداء المطلق إلى التنسيق الأمني

غسان تقي
تحول كبير في العلاقات بين سوريا مع إسرائيل منذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة، في ديسمبر الماضي.

خرج الموضوع عن إطار التكهنات. هناك معطيات على الأرض وحراك فعلي في واشنطن وباريس وباكو والرياض.

لكن هذا الحراك لا يعني أن دمشق على وشك الدخول في سلام شامل مع إسرائيل، لكنه يكشف عن تحوّل جذري في معادلة الصراع.

كانت سوريا، على مدى عقود، رأس الحربة في ما عُرف بالصراع العربي الإسرائيلي، لكنها اليوم تتجاوز مرحلة “جس النبض” الدبلوماسي، إلى لقاءات سرية وتفاهمات أمنية، تلعب فيها العواصم الكبرى دور الضامن أو الوسيط.

وأمام ما قد يشكّل زلزالا سياسيا يعيد رسم التحالفات في المنطقة، هناك عقبات كبرى لا تزال قائمة: من ملف الجولان، إلى الاضطرابات في الداخل السوري، وصولا إلى خلفية الشرع المثيرة للجدل.

“التفاهم الأمني بين الطرفين هو على الأرجح الشيء الوحيد المتاح حاليا، لكن من يدري ما سيحمله المستقبل،” يقول كبير باحثي معهد دول الخليج العربي في واشنطن حسين أبيش لـ”الحرة” في تعليق على مراحل تطور العلاقات بين إسرائيل وسوريا خلال الأشهر التي تلت سقوط الأسد.

فور توليه الحكم في ديسمبر الماضي، طرح الشرع خطابا مختلفا جذريا عن خطاب الأسد، بالحديث عن “سلام عادل مع إسرائيل”، كما منح الضوء الأخضر لسلسلة لقاءات غير مسبوقة مع الإسرائيليين. هذا التوجه بدا واضحًا منذ الأيام الأولى، حين أبدى انفتاحا على قنوات خلفية واتصالات مباشرة تجاوزت حدود الشعارات التقليدية.

منذ تسلّمه السلطة في ديسمبر الماضي، طرح الشرع خطابا مختلفا جذريا عن خطاب الأسد، بالحديث عن “سلام عادل مع إسرائيل”، كما منح الضوء الأخضر لسلسلة لقاءات غير مسبوقة مع الإسرائيليين.

أول اللقاءات اللافتة جرى سريا في مايو في العاصمة الأذربيجانية باكو، وجمع بين رئيس شعبة العمليات في الجيش الإسرائيلي، اللواء أوديد بسيوق، ومسؤولين من الحكومة السورية المؤقتة، بحضور وفد تركي، وفقا لتقارير إسرائيلية.

اللقاء ركّز على القضايا الأمنية، خصوصا ضبط الحدود ومنع تهريب السلاح الإيراني عبر الأراضي السورية إلى حزب الله في لبنان.

تحدثت التقارير الإسرائيلية كذلك عن دور للإمارات، وقطر – قبل أن تتعرض عاصمتها الدوحة الأسبوع الماضي لقصف إسرائيلي استهدف قادة في حماس – في التوسط في هذه المحادثات.

لم يقتصر الحراك على القنوات السرية.

في مايو أيضا، التقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس السوري أحمد الشرع على هامش قمة في الرياض.

ترامب دعا الشرع صراحة إلى الانضمام لاتفاقات أبراهام، وطرح رفع جميع العقوبات الأميركية على دمشق كحافز.

وفي 20 أغسطس الماضي، التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني في باريس، بوفد إسرائيلي. وأشارت تقارير إسرائيلية إلى أن الوزير السوري بصدد اللقاء مع وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر، في العاصمة الفرنسية هذا الشهر.

يقول أبيش: “لا أعتقد أن سوريا وإسرائيل مستعدتان لإجراء محادثات مفتوحة مع بعضهما البعض في العلن، أعتقد أنهما في مرحلة يتعين فيها أن يتم كل ما تفعلانه خلف الكواليس”.

إلى أين يتجه المسار؟
حتى الآن، يبقى مسار التطبيع بين سوريا وإسرائيل في بداياته. اللقاءات جرت، والتفاهمات المبدئية وُضعت على الطاولة، لكن الطريق إلى اتفاق شامل لا يزال مليئا بالعقبات.

على الصعيد الميداني، وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع غير مألوف. فبعد عقود من التعامل مع نظام الأسد كـ”عدو معروف”، برزت فصائل مسلحة غامضة النوايا على حدودها الشمالية.

وسرعان ما تُرجم القلق الأولي إلى خطوات عسكرية مباشرة: فقد توغلت القوات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية عقب سقوط النظام، وأعلن بنيامين نتنياهو من الجولان “انهيار” اتفاقية فضّ الاشتباك لعام 1974. ومنذ ذلك الحين، أنشأت إسرائيل تسع قواعد ونقاطا عسكرية جديدة في ريف القنيطرة الجنوبي، بينها قاعدة الحميدية، ووسعت انتشارها في مرتفعات الجولان وجبل الشيخ.

هذا الانخراط ترافق مع تدخلات متكررة، قالت إسرائيل إنها لحماية الأقليات الدرزية والعلوية والمسيحية في سوريا، إما عبر عمليات محدودة أو تحذيرات مباشرة لدمشق.

“قبل أن يشن الجهاديون السنة السوريون المدعومون من النظام هجمات على مناطق الدروز ويرتكبوا فظائع جسيمة، كانت هناك محادثات حتى حول انضمام سوريا إلى اتفاقيات أبراهام، وأعتقد أن الأمر كان سابقا لأوانه،” يقول الباحث الإسرائيلي دان فيفرمان لـ”الحرة”.

ويضيف: “إسرائيل متشككة جدا في مثل هذه الأمور. هي بحاجة إلى ضمانات كثيرة، من الشركاء الإقليميين والمجتمع الدولي، وخاصة الأميركيين”.

لكن الداخل السوري لم يكن أقل تعقيدا. ففي السويداء وحدها قُتل مئات الأشخاص في يوليو الماضي بعد اندلاع مواجهات بين عشائر محلية وفصائل درزية، ثم تفاقمت الأحداث مع دخول القوات الحكومية، حيث اتهم الأهالي الجيش بتنفيذ إعدامات ميدانية موثقة بالكاميرات. مثل هذه الفوضى تزيد الشكوك الإسرائيلية حول استقرار الحكم الجديد في دمشق.

إلى جانب ذلك، تظل شخصية الرئيس أحمد الشرع نفسها عائقا مركزيا. فخلفيته كجهادي في تنظيم القاعدة تطارد صورته كزعيم براغماتي، وتثير قلقا عميقا في إسرائيل والغرب بشأن صدقيته في محاربة الإرهاب.

“ليس من السهل أن تُقدم إسرائيل على اتفاق مع الشرع، رغم تصريحاته وتبدّل مواقفه،” يؤكد الباحث حسين أبيش.

ويفرض ملف الفصائل المسلحة المنخرطة في صفوف القوات الحكومية السورية، وقضية الجولان قيودا إضافية على المدى الذي يمكن أن تذهب إليه حكومة الشرع في تقديم التنازلات.

الخط الأحمر”
لن يكون من السهل على الشرع أن يوافق على التطبيع دون معالجة قضية الجولان الذي يعتبره السوريون “أرضا محتلة” لا تنازل عنها.

إسرائيل، من جهتها، تعتبر أن ضمها للجولان عام 1981 “نهائي وغير قابل للتفاوض”. هذه الفجوة تجعل أي اتفاق سلام شاملا مهمة شبه مستحيلة.

“قد يستمر تطبيع أمني سري لفترة من الزمن، خصوصا إذا خدم مصالح آنية للطرفين في منع الانزلاق أو ضبط الجبهة، لكن استقراره على المدى الطويل أمر مشكوك فيه، لأن قضية الجولان ستظل حاضرة كعقدة أساسية،” يقول الباحث الأكاديمي السوري مالك الحافظ.

“إضافة إلى ذلك، فإن طبيعة المرحلة الانتقالية في سوريا تجعل أي تفاهمات من هذا النوع هشّة بطبيعتها، لأنها لا تستند إلى شرعية دستورية أو إجماع وطني” يضيف الحافظ لـ”الحرة”.

بالتالي فإن هذا النوع من “التطبيع الأمني” قابل للاستمرار مرحليا، لكنه غير مستقر ولا يمكن أن يتحول إلى إطار دائم، يشير الحافظ.

كذلك الخلفيات الدينية التي تنتمي لها الإدارة الجديدة في سوريا، والتي لديها موقف معلن مناهض للتعامل مع إسرائيل.

“يجب أن ندرك مدى صعوبة التطبيع بالنسبة للحكومة السورية، سيكون هناك الكثير من المقاومة داخل سوريا وداخل الحكومة التي قيادتها قد تكون مهتمة، لكن الكوادر التي كانت تنتمي إلى هيئة تحرير الشام قد لا تكون كذلك،” يؤكد أبيش.

المصدر: الحرة

Scroll to Top