طبيعة العلاقة بين اللغة والهوية؛ طبيعة أصيلة ومتجذرة، لذا تعد اللغة من مقومات الهوية الهامة وأكثرها عمقاً وخصوبةً، لكنها ليست المقوم الوحيد لها، وربما باتت اللغة هوية، في عملية صنعها تاريخاً طويلاً من العراك مع الطبيعة، ومن الصعوبة قهرها أو شطبها.

وقد تعرضت اللغة الكردية إلى حروب كثيرة وطويلة، مثل السطو والاغتصاب، والقرصنة لجمال وسحر المفردات والسياقات الدلالية لمعنى صوتياتها، كما أنها تعرضت للتهميش والتشويه، والتعريب والتفريس، وللتتريك، وعانت الإهمال، رغم ذلك كله بقيت عصية عن التلاشي والاندثار، لكن ربما تقهقرت على المستوى الشعبي، وأصابها الصدأ نتيجة ظروف جيوسياسية، وفكرية أو دينية.
فالهوية مفهوم ملتبس ومعقد، وليس مجرد التقاء الفرد مع المجموع أو الجماعة، ومن هنا تبدأ إشكالية التعريف في حالته الراهنة، فارضة ذاتها في صيغ عدة تبدأ باللغة، ولا تنتهي بالفن، أو الرموز المورفولوجية من سمات شخصية وراثية إلى الأزياء التراثية وبنيتها الأسطورية المرتكزة إلى لغة التعريف الأدبية والنابعة من لغته الأم.  اللغة ليست تراكيب ومفردات، وتعابير وقواعد فقط، وإنما هي روح جماعية، وفكر، ومكتسب حضاري ساهم التاريخ في بنائه، وبالتالي فاللغة سابقة على عصر القوميات، سابق لظهور أي نزعة قومية أو أثنية، وتصنيفها كمرتكز وجوهر للهوية القومية، ظهر في فترات لاحقة ومتأخرة من تاريخ البشرية، مع ظهور النظريات القومية في أوروبا، التي سمحت لنفسها بإعادة قراءة التاريخ والجغرافيا من منظور اللغة الواحدة كتشكيل للقومية الواحدة. والوطن الواحد، وهذه التصورات والنظريات، تم نقلها أو استيرادها من فلسفات قوموية فاشية أوروبية وفقاً لتوجهات أيديولوجية محددة، نابعة من تطور الذهنية العصبوية القبلية والعشائرية، واحتياجاتها الحديثة.
فظهرت النظرية الاستعلائية اللغوية، واشتد عودها عند الألمان مع فلسفة نيتشه، وصعود الفاشية سدة الحكم، ومارس الأتراك القضية ذاتها، فعملوا على تحديث (لغتهم) عبر عمليات بتر، وتجميل، وعبر السرقات من لغات الجوار من الكرد، والفرس واللاز، كما استقدمت مفردات الحداثة من لغات أوروبية كالإيطالية. والفرنسية، وانتقلوا إلى تتريك الأقوام المجاورة في محاولة صهر اللغات ومصادرة لغاتهم لصالح التركية كلغة واحدة للجميع، بل وذهبوا إلى أكثر من ذلك، وأشاعوا بين الجهلة بأن لغة الجنة هي التركية.
والتفت العرب إلى القرآن لغة الإسلام، وحاولوا الربط بين الرسالة السماوية المقدسة، و”بعض أفكارهم العنصرية” في صناعة هوية واحدة، ومارسوا سياسة التعريب، وهكذا الفرس، الذين قالوا بأنه لا وجود للغة الكردية، وإنما هي ليست إلا مجرد لهجة من اللغة الإيرانية.
فاللغة إحدى الركائز الأساسية لحياة الأمم والوعاء الذي يحوي حضارة الأمة، وفكرها، وعلومها وينبغي أن تكون أداة التعبير في ميادين المعرفة، تتوارثها الأجيال للحفاظ على هويتها من الضياع والتلاشي.
ولم يكن هناك ثمة نزعة قومية لغوية حينما سطر الشعراء الكرد قصائدهم باللغة الكردية. وحينما غنى المنشدون والمغنون أغنيات العشق والبطولة، فكان وعي الكردي اللغوي وإحساسه أن يعبر ويتنفس بشهيق لغته الجميلة الرشيقة، وأن يبوح بآلامه، وآماله ويسرد خيباته وبطولاته.
وأثناء الحروب والمحاولات الرامية إلى إفلاس اللغة الأم لصالح لغات حاولت الهيمنة السياسية بالدرجة الأولى لاستكمال الهيمنة الثقافية ظهر العقد الاجتماعي، الذي يقر صراحة وبكل قوة على استقلالية كل لغة، وكل ثقافة وأهمية التعلم باللغات الأم لمجمل مكونات شمال وشرق سوريا، كأحد أهم الوسائل لمجابهة محاولات التهميش والإنكار من لدن سياسات طافحة بالاستعلاء القومي المقيت، ومن جهة ثانية لمقاومة العولمة ومجابهتها، ولذلك فإن التحدث باللغة الأم لا تكفي لمجابهة العولمة اللغوية، فالعالم يتحول إلى غول قبيح قاسي الملامح، لا يتقن إلا لغة المال والربح، ومن هنا تبقى أهمية التعلم باللغة الأم ونشر الكتب باللغة الأم والعمل على صناعة أعلام قوية ناطقة باللغة الأم وربط التعليم باللغة الأم، والتخلص من عقدة الدونية، وعقدة الشعوب القومية، تأتي كاستحقاقات للمرحلة بغية الحفاظ على اللغات الأم من الانقراض،  ستستمر اللغة الأم حية عصية على الزوال.

​المصدر: صحيفة روناهي

شارك هذه المقالة على المنصات التالية