في 6 أيار/مايو، استولى الجيش السوري على تل عثمان – تل استراتيجي شمال غرب حماة – ليبدأ بالتالي هجوماً برياً يهدف إلى استعادة السيطرة على بعض أجزاء محافظة إدلب أو جميعها. ومنذ ذلك الحين سقط عدد كبير من البلدات، بما فيها قلعة المضيق، معقل المتمردين منذ عام 2011. وفي السابق، قصف طيران ومدفعية [الجيش السوري] جنوب غرب إدلب لأكثر من شهر لإضعاف دفاعات المتمردين ودفع المدنيين إلى الهروب. وبصرف النظر عن بعض القصف المتقطع على مدينة إدلب والضواحي الغربية لمدينة حلب، لم تتعرض عملياً [المنطقة] شمال “الطريق السريع حلب – اللاذقية” لأي قصف، مما يشير إلى أن هجوم النظام الحالي قد يقتصر على النصف الجنوبي من المحافظة. ولا يزال هدف بشار الأسد المتمثل باجتثاث آخر معقل رئيسي للمتمردين السنّة قائماً، لكن عوامل استراتيجية مختلفة ربما لا تزال تقيّده (وتُقيد روسيا وتركيا).

قوات النظام اكتسبت المزيد من القوة

من الصعب معرفة عدد القوات التي تشارك في الحملة الراهنة، لكن نظام الأسد لا يواجه خطراً كبيراً في أي منطقة أخرى من البلاد، لذلك فمن المنطقي افتراض أنه تمّ توجيه الجزء الأكبر من قواته إلى إدلب. ومن المرجح أن تكون العملية بقيادة العميد السوري سهيل الحسن من “قوات النمر” النخبوية. وعلى الرغم من مشاركة «حزب الله» وميليشيات شيعية أخرى للمساهمة في تعويض النقص في صفوف القوات السورية، إلّا أن الجيش عزّز مؤخراً قدراته من خلال ضم متمردين سابقين ومجندين جدد من درعا والغوطة الشرقية إلى صفوفه. ولاختبار ولاء هذه القوى الجديدة، أوْكَلها النظام باقتحام تل عثمان وقلعة المضيق.

وتدعم القوات الجوية الروسية إلى حدّ كبير الهجوم من قاعدة حميميم على بعد حوالي 50 كيلومتراً إلى الغرب. ومن ناحية أخرى، يمكن لنيران المدفعية القادمة من التلال الشرقية لجبل العلويين الوصول إلى سهل الغاب بكامله، حيث يفصل نهر العاصي الجيش السوري عن المتمردين. كما قصفت بطاريات المدفعية في حلب وأبو الظهور مواقع المتمردين أيضاً، رغم أنه من غير الواضح ما إذا كانت مؤشراً على هجوم بري وشيك من الشرق أو أنها هدفت ببساطة إلى إبقاء القوات الجهادية عن بُعد في إطار الحملة جنوبي غربي البلاد.

تنظيم «القاعدة» في طور الصعود ووكلاء تركيا قد رحلوا

لا يزال أكثر من 50 ألف مقاتل متمرد مدججين بالسلاح ومدربين تدريباً جيداً في إدلب. وينتمي بين 20 و 30 ألفاً منهم إلى الجماعة الجهادية «هيئة تحرير الشام»، ومعظمهم من السوريين المجندين في إدلب والمتمرسين من أراضي مختلفة كانت خاضعة للمتمردين والتي استعادها النظام خلال السنوات الماضية. وشكّل الأجانب أقليةً في صفوفها منذ أن نأت الجماعة بنفسها عن تنظيم «القاعدة» وحصرت جهادها في سوريا.

غير أن «هيئة تحرير الشام» بنت شراكات مع ما يتراوح بين 5 و 10 آلاف من حلفاء تنظيم «القاعدة»، بمن فيها الأويغور الصينيون من “الحزب الإسلامي في تركستان” (3 آلاف مقاتل) الذين بدأوا يتمركزون حول جسر الشغور في عام 2015. وقد دعم هذا الفصيل «هيئة تحرير الشام» في كافة المعارك التي خاضتها خلال السنوات القليلة الماضية، حتى أنه أرسل انتحاريين لاختراق الحصار الذي كان مفروضاً على شرق حلب. وقاتل تنظيم “حراس الدين” (2000 عنصر) إلى جانب «هيئة تحرير الشام» رغم انفصاله رسمياً عنها في عام 2017 بعد أن نكثت بقسم الولاء لتنظيم «القاعدة». وقد رفض مقاتلو “حراس الدين” مساعدة الهيئة على إخضاع الجماعات المتمردة الأخرى في إدلب، تمشياً مع أوامر زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري. ومع ذلك، لا يترددون في التعاون مع الهيئة ضد نظام الأسد.

أما “الجبهة الوطنية للتحرير”، وهي ائتلاف متمرد أنشأته تركيا عام 2017، فلم تعد موجودةً بعد أن هزمها تحالف «هيئة تحرير الشام» تماماً في شباط/فبراير. وقد فر قادتها إلى الباب وعفرين على الرغم من أن الهيئة سمحت لمقاتلي التحالف المحليين بالبقاء في إدلب لأنها بحاجة إليهم لمواجهة الجيش السوري. يُذكر أن جماعتين بقيتا على الحياد في هذا الاقتتال بين الفصائل وهما -“فيلق الشام” و”جيش العزة” – لكن يبدو أنهما رضختا لانتصار «هيئة تحرير الشام» على “الجبهة الوطنية”. وتجدر الملاحظة أن “جيش العزة” كان في السابق تابعاً لـ «الجيش السوري الحر» ولديه بين ألفي و3 آلاف مقاتل في جنوب غرب إدلب. وهو لا يدّعي اعتناق إيديولوجيا محددة، لكنه تحالَفَ مع جماعات جهادية في كافة الهجمات ضد الجيش السوري (وكان يحظى سابقاً بدعم واسع من البنتاغون الذي كان يزوّده بصواريخ “تاو” المضادة للدبابات، من جملة أمور أخرى).

ملاذ في شمال إدلب؟

بشكل عام، يُعتبر جنوب إدلب أكثر هشاشةً من شمالها – ويعزى ذلك جزئياً إلى أن الاقتتال الذي جرى مؤخراً بين «هيئة تحرير الشام» و”الجبهة الوطنية” قد أضعف مواقع المتمردين هناك، ولكن أيضاً لأن “جيش العزة” وغيره من الجمعات المتمركزة في الجنوب لا تكّن المودّة للهيئة وقد تكون مستعدةً لإبرام صفقات مع النظام. وسيواجه الجيش صعوبات أكبر بكثير في مهاجمة شمال إدلب الذي يشكّل معقلاً قديماً لم يُمسّ به عموماً لـ «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجهاديين.

وهناك سبب آخر يدعو الأسد إلى عدم شنّ هجوم على الشمال في الوقت الحالي وهو أن المدنيين والمتمردين الهاربين من الجنوب يمكنهم اللجوء إلى هناك. فطوال فترة الحرب، ترك الجيش في الإجمال مخرجاً لقوات المتمردين لكي لا يشعروا أنهم مضطرون للقتال حتى الموت. ولعل الأهم في هذه الحالة هو أن النظام لا يريد إغضاب تركيا التي ستواجه موجةً جديدةً من اللاجئين الوافدين إذا تعرض شمال إدلب للتهديد.

وفي هذا السياق، تصنّف الأمم المتحدة نحو نصف سكان إدلب البالغ عددهم 3 ملايين شخص على أنهم مشردون داخلياً، والكثير منهم أتوا من حلب والغوطة وحمص ودرعا. ويميل هؤلاء النازحون داخلياً إلى دعم التمرد، ولا يرغبون في الخضوع مجدداً تحت سيطرة الأسد. وصحيح أن الحدود السورية – التركية مغلقة بجدار، لكن مئات الآلاف من النازحين داخلياً كانوا يتجمعون بالقرب من مخيمات غير رسمية منذ عام 2012، آملين أن يحميهم تواجدهم بالقرب من الحدود من القصف. وإذا حاول هؤلاء اللاجئون اجتياز الحدود بالقوة، فلن تتمكن أنقرة من منعهم من دون وقوع مجزرة.

وفي الوقت نفسه، إنّ تركيا غير مستعدة لاستضافة عدد متزايد من اللاجئين السوريين – 3.8 مليون لاجئ وفقاً لآخر إحصاء. ولتجنّب أسوأ الأحوال، من المرجح أن تكون أنقرة قد حصلت على موافقة روسيا لتحويل الجانب السوري من إدلب إلى ملجأ للاجئين إذا لزم الأمر.

الفيتو التركي، والحساب الروسي

حتى وقت قريب، عارضت تركيا بشدة أي هجوم سوري على إدلب – ويعود ذلك جزئياً إلى قضية اللاجئين، ولكن السبب الرئيسي لأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يرد الابتعاد عن هدفه الأول المتمثل بمنع «وحدات حماية الشعب» الكردية من تعزيز سيطرتها على الحدود الشمالية الشرقية لسوريا. وعندما بدت الحملة على إدلب وشيكةً في أيلول/سبتمبر الماضي، توصّل المسؤولون الأتراك والروس إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في سوتشي لمنع الأسد من شنّها.

ومع ذلك، ففي كانون الأول/ديسمبر، أعلنت الولايات المتحدة أنها ستنسحب من شمال شرق سوريا، متخليةً على ما يبدو عن شركائها القدامى في «وحدات حماية الشعب». وقد تكون المحادثات اللاحقة المتعلقة بمستقبل المنطقة قد خففت بعض المخاوف التركية إزاء الأكراد، وحدّت ربما من قلقها من أن الهجوم على إدلب سيبعدها عن هدفها الأساسي. وقد أدان أردوغان بصرامة روسيا لسماحها بتنفيذ العمليات الراهنة، لكن من غير الواضح ما إذا كان يركّز على التبجّح علناً لحفظ ماء الوجه، محذراً الأسد بالفعل بالبقاء خارج شمال إدلب بسبب مخاوف تركيا الأمنية الداخلية، أو تأكيد دوره في عملية إرساء الاستقرار الطويلة الأمد في سوريا.

ومهما يكن الأمر، لم يتمكن من تنفيذ الشروط الأساسية لوقف إطلاق النار المبرم في سوتشي، مثل إقامة منطقة منزوعة السلاح تمتد على مسافة 20 كيلومتراً بين قوات المتمردين وقوات النظام في إدلب، وحرية التنقل على الطريقين السريعين “حلب – اللاذقية” و “حلب – حماة”. ولم يرغب المتمردون في التخلي عن خطوطهم الدفاعية أو خسارة المبالغ الضخمة التي يجنونها من حركة السلع على هذين الطريقين السريعين. وحالما تعجز “الجبهة الوطنية” الموالية لتركيا عن انتزاع النفوذ من «هيئة تحرير الشام» بصورة تامة، فلن يعد لدى أردوغان سبب تكتيكي وجيه لمواصلة معارضته لهجوم النظام.

وتنبع هذه الإخفاقات أيضاً من واقع عدم تعامل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع اتفاق سوتشي على أنه اتفاق حقيقي يجب احترامه على المدى الطويل، بل كونه وسيلة مؤقتة لإبقاء تركيا في صفه في وقت كان يريد فيه أردوغان تحديداً الانتقام من واشنطن بسبب دعمها «وحدات حماية الشعب». بالإضافة إلى ذلك، قد يعتقد بوتين أن شنّ هجوم على إدلب والتسبب بتدفق محتمل للاجئين/الجهاديين إلى تركيا قد يمارسان ضغوطاً على أنقرة بشأن الضرورات الثنائية الأخرى، مثل إتمام عملية الشراء المثيرة للجدل لأنظمة الصواريخ الروسية من طراز “أس-400”.

وخلال المرحلة القادمة، قد يمضي أردوغان في السعي لاستعمال إدلب كوسيلة لضمان حرية التصرف ضد «وحدات حماية الشعب». وقد منحت روسيا مثل هذه الضمانات في الماضي (على سبيل المثال، في عفرين في الشتاء الماضي) وربما فعلت ذلك مجدداً هذا الشهر – ففي 4 أيار/مايو، بدأت القوات الوكيلة لتركيا هجوماً ضد معقل «وحدات حماية الشعب» في تل رفعت شمال حلب.

وبعبارة أخرى، لا يزال المتمردون السنّة والأكراد يشكّلون “عملة الصرف” الرئيسية بين تركيا وروسيا، لذا فإن مصيرهم مترابط بشكل وثيق. وفي ظل هذه الظروف، يمكن تفهم عدم رغبة تركيا في استعادة الأسد لإدلب بالكامل وعلى الفور، لأن ذلك قد يؤثر على وتيرة انسحاب الولايات المتحدة من سوريا وقدرة المبعوث الأمريكي الخاص على حل المشاكل بين أنقرة و «وحدات حماية الشعب» بشكل سلمي. وقد تنصاع روسيا لهذه الوسيلة بشكل مؤقت إذا ما زادت اعتراضات تركيا على الهجوم. ومع ذلك، فعلى المدى الطويل، من الصعب تخيّل موافقة موسكو على وجود معقل جهادي في إدلب ما لم تنفصل «هيئة تحرير الشام» فعلاً عن تنظيم «القاعدة» – وهو أمر يصعب تصوّره أيضاً. لذلك، قد ينتهي الأمر بـ”الإمارة الإسلامية” في إدلب كحال تنظيم «الدولة الإسلامية» في الرقة.

*فابريس بالونش، هو أستاذ مساعد ومدير الأبحاث في “جامعة ليون 2″، ومؤلف دراسة “معهد واشنطن” لعام 2018 بعنوان “الطائفية في الحرب الأهلية السورية: دراسة جيوسياسية

“معهد واشنطن”

شارك هذه المقالة على المنصات التالية