محمد سيد رصاص===++
في رسالة مؤرخة بيوم 14كانون الأول/ديسمبر 1939 يقوم جواهر لال نهرو، زعيم (حزب المؤتمر الوطني لعموم الهند)، بالرد على رسالة من محمد علي جناح زعيم (العصبة “الرابطة”الإسلامية) التي دعت إلى تقسيم الهند بين الهندوس والمسلمين ثم كان جناح مؤسساً لدولة باكستان عام1947، بالكلمات التالية: “لقد أكدت في رسالتك..على أن المؤتمر يجب أن يعتبر العصبة الإسلامية المنظمة الممثلة لمسلمي الهند…. يبدو أن ما اقترحته يفترض نوعاً من التخلي عن المسلمين الذين لا ينتسبون إلى العصبة، فهناك كما تعلم عدد كبير من المسلمين في المؤتمر كانوا ومازالوا رفاقنا المقربين..العصبة الإسلامية مفتوحة للمسلمين فقط بينما المؤتمر دستورياً له قاعدته الوطنية ولايمكن التخلي عن ذلك دون أن ينهي وجوده بالذات”(1).
كان جواهر لال نهرو، زعيم حزب المؤتمر الوطني الهندي، ضد فكرة تقسيم الهند بين الهندوس والمسلمين، معتبراً، ومعه المهاتما غاندي، أن الرابط الوطني للهند المستقلة بمجموعها يمكن أن يجمع الهندوس والمسلمين وباقي الأديان في دولة مواطنة يتساوى فيها الجميع من المواطنين في الحقوق والواجبات. عارضهما في ذلك محمد علي جناح، وأيضاً القوميون الهندوس الذين يرون أن هناك قومية هندية تقوم على الدين الهندوسي كهوية حضارية- ثقافية، وأن الإسلام هو دين غزاة للهند، وأن من دخلوا فيه من الهندوس قد خلعوا هويتهم الهندية وأصبحوا غرباء. انفصلت باكستان، وبعد خمسة أشهر اغتال هندوسي متعصب المهاتما غاندي، ورغم هذا حكم حزب المؤتمر الهند بشكل متصل حتى عام 1989 ماعدا ثلاث سنوات بين عامي1977 و1980، وكان هناك تقييمات بأن الهند تعيش تجربة علمانية ناجحة ترفدها أكبر تجربة ديمقراطية في القارة الآسيوية. ولكن في عام 1998 وصل القوميون الهندوس للسلطة وحكموا حتى هزيمتهم في انتخابات 2004 ثم عادوا وحكموا بعد فوزهم بأغلبية برلمانية في انتخابات2014و2019، والهند الآن في حالة النار الكامنة أوالحطب القابل للاشتعال نتيجة التوتر الكبير بين الهندوس 72% والمسلمين 14%.
لاتختلف تركيا الآن بعد قرن من تجربة القومية الأتاتوركية عن وضع الهند، حيث سيطر الترك على مقاليد دولة وفرضوا هويتهم القومية بالقوة والعنف، وهم لا يتجاوزون ثلاثة أرباع السكان ، على الكرد وهم خمس السكان وعلى العرب. وعملياً كانت تركيا مثل القنبلة التي انفجرت بثورات كردية في أعوام 1925و1930و1937وبفترة 1984-2023.
أدرك عبدالله أوجلان، زعيم (حزب العمال الكردستاني PKK)، ودرس بعمق التجربة التركية، وهو في فترة مابعد اعتقاله وسجنه في جزيرة إمرالي منذ 15شباط 1999، وقد تلمّس فكرياً ضرورة أن يكون هناك تجاوز للحل القومي الكردي في مواجهة فشل التجربة القومية التركية الأتاتوركية التي سيطرت على الدولة التركية منذ إنشائها عام1923، ومقترحاً كحل لذلك مشروع “الأمة الديمقراطية”، وهو يقول أثناء محاكمته في مرافعات إمرالي التي قدمها أمام المحكمة، المسمّاة: “مانيفستو الحضارة الديمقراطية” بكتابها الخامس المعنون: “القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، مايلي:” قدم PKK نقده الذاتي محققاً تحوله المطلوب في هذا المضمار. ويتجسد النهج الأم للتحول بشأن القضية الوطنية في التراجع عن الحل الدولتي القومي، والعمل أساساً بالحل الديمقراطي البديل. والحل الديمقراطي بدوره يعبر عن البحث عن دمقرطة المجتمع خارج الدولة القومية”(2) ثم يضيف “هذا وينبغي عدم تصور نموذج الحل الديمقراطي على أنه دولة قومية موحدة في هيئة فيدرالية أوكونفيدرالية، أي إن الحالة الفيدرالية أوالكونفيدرالية للدولة القومية ليست بحل ديمقراطي”(3) أي “إن تحول الدولة القومية في الاتجاه الإيجابي متعلق عن كثب بتحقق الدمقرطة وبشبه الاستقلال الديمقراطي وإنشاء الأمة الديمقراطية”(4) ف”الحل السائد في عموم العالم يتجه نحو تجاوز الدولة القومية”(5)،أي (أمة ديمقراطية) يتساوى أفرادها ومواطنوها في الحقوق والواجبات بمعزل وبغض النظر عن قوميتهم أو إثنيتهم أو دينهم أو طائفتهم أو جنسهم أو منطقتهم أو قبيلتهم أو عشيرتهم أو اتجاههم السياسي.
تعيش إيران وضع تركيا منذ حكم آل بهلوي 1925-1975الذين كانوا يحملون توجهاً قومياً فارسياً في دولة فيها الفرس هم الأقلية الكبرى وفي رقم أعلى لايتجاوزون نصف السكان، وعندما ضعف الحكم المركزي في طهران مع وجود الجيش السوفياتي باتفاق بين تشرشل وستالين أثناء الحرب العالمية الثانية كان الظرف،غداة انتهاء الحرب عام1945، مناسباً أو مساعداً على قيام ثورات قومية قادت إلى تأسيس جمهوريتين واحدة كردية في مهاباد والثانية أذربيجانية في تبريز، وهو ماتكرر عقب الثورة الإيرانية عام1979، التي حاولت إيجاد رابط وحدوي للإيرانيين اسمه الإسلام، عندما قامت ثورات كردية وأذربيجانية وعربية بوجه الخميني، الذي اتبع معها القمع الشديد في عامي 1979و1980، وليس من دون دلالة أن يكون السيد على الخامنئي من أصول آذربيجانية، ولكن تجربة الحكم الإسلامي، التي ظلت فيه القومية الفارسية هي المهيمنة مرفوقة بمذهب شيعي اعتبر هو المذهب الرسمي للجمهورية الإسلامية في بلد لا يتجاوز فيه الشيعة 80%من مجموع السكان، لم تستطع بعد أكثر من أربعين عاماً أن تهيل التراب على التوترات القومية التي أحياناً تأتي من التمييز الطائفي أيضاً ضد الكرد والبلوش السنة أو التوترات القومية عند العرب والآذربيجانيين الشيعة. في العراق وسوريا حكم حزب قومي عروبي ولكنه لم يستطع إيجاد حل للقضية الكردية التي ازدادت اشتعالاً في ظل الحكم العروبي، وقبل حكم العروبيين في بغداد ودمشق لم تكن القضية الكردية بتلك القوة في العراق وسوريا.
مع استقلال السودان عام 1956 الذي حكمته أقلية عربية شمالية انفجر تمردان في الجنوب بين عامي 1955و1972، و1983و2005 وحصل تمرّد إقليم دارفور منذ عام2003 وثلاثتهم ثورات إفريقية على العرب. كان جون غارانغ، قائد (الحركة الشعبية لتحرير السودان) التي قادت تمرد الجنوب الثاني، قريباً من نهرو، وهو يشبه أوجلان في طرح “الأمة الديمقراطية”، عندما طرح فكرة “السودان الجديد” الذي يتساوى فيه المواطنون السودانيون بغض النظر عن قوميتهم وإثنيتهم ودينهم وانتماءاتهم القبلية والجهوية والسياسية، ولكنه في النهاية لم يستطع أن يهزم الانفصاليين الجنوبيين الذين انتصروا بعد مقتله بحادث طائرة عام2005 عبر استفتاء عام 2011 في الجنوب ولا العرب الذين فضّلوا الانفصال للتخخف من “عبء الجنوبيين”.
هنا درس جون غارانغ بعمق التجربة السودانية، التي قال الإحصاء البريطاني بفترة الحكم الذاتي السوداني 1953- نهاية عام 1955 بأن العرب 39 بالمئة من مجموع السكان وبأن الأفارقة 61 بالمئة والمسلمون 70 بالمئة، وقد استخلص بأن هناك حاجة إلى “سودان جديد” تكون فيه (السودنة) هي الهوية بعيداً عن (العروبة) و(الاسلام) و(الهوية الافريقية)، وهو كان في مانيفستو (الحركة الشعبية لتحرير السودان)، الصادر في تموز/يوليو1983، يؤكد على أنه يريد بناء هذا “السودان الجديد” وأنه لايريد انفصال الجنوب بل سوداناً موحداً ولكن جديداً، وفي هذا يؤكد زيغمونت أوستروسكي، وهو بولندي اشتغل مع منظمات إنسانية في جنوب السودان وكتب كتاباً عن تجربته مع جون غارانغ صدر بباريس عام2022، على أن “من البداية في تمرده عام 1983 كان غارانغ يحارب دائماً من أجل فكرة سودان جديد موحد فيه تعطي الدولة العلمانية كل المناطق والمجموعات الإثنية وضعاً اجتماعياً متساوياً، مع مشاركة في الثروة القومية وفي فرص متساوية نحو طرق الوصول للسلطة السياسية”(6).
ربما، من الدال على نجاح التجربة البريطانية أن يتولى شخص من أصول هندية الحكم في لندن الآن من غير أن يثير حساسية عند أحد، وفي حزب اسمه حزب المحافظين. وعلى الأرجح أن شيمون بيريس، وهو يعتبر مع دافيد بن غوريون من أكثر السياسيين الذين مروا على إسرائيل من حيث الذكاء، كان واعياً لعيوب الحل القومي اليهودي الصهيوني عندما حذّر يهود دولة اسرائيل من مصير شبيه بالبيض في دولة الفصل العنصري بجنوب إفريقيا وذلك في عام1994مع تولي نيلسون مانديلا الحكم بعد أشهر من اتفاق أوسلو الذي يقول بحل الدولتين وبالانفصال بين اليهود والعرب في دولتين حيث أن فكرة اليسار العمالي الصهيوني أن السيطرة والضم في الجغرافية والديموغرافيا ستقودان إلى أغلبية فلسطينية سكانياً بين البحر والنهر وبالتالي فقدان الطابع اليهودي لدولة اسرائيل، فيما اليمين القومي في حزب الليكود يرى ومنذ أباه الروحي زئيف جابوتنسكي أن حدود الدولة اليهودية تمتد في غرب وشرق نهر الأردن وهو بتحالفه اليوم مع تيار الصهيونية اليهودية التي تشبه القومية الهندوسية لا يمانع من اتباع حل ترحيل عرب فلسطين (الترانسفير) إلى خارج دولة اسرائيل الذي تقول به الصهيونية الدينية، وناس مثل بن كفير وسموتريتش، زعماء هذا التيار، يضعون الآن دولة اسرائيل في وضعية النار الكامنة القابلة للاشتعال مثل الهند.
هوامش البحث
(1) مجموعة رسائل جواهر لال نهرو المعنونة :” صفحات مطوية من حياتي”،المكتب التجاري، الطبعة الأولى، بيروت1960، ص ص 234-235.
(2) عبدالله أوجالان:”مانيفستو الحضارة الديمقراطية”،الكتاب الخامس المعنون:”القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”،الطبعة الثالثة،بيروت2018،مطبعة داتا سكرين،ص 404.
(3) أوجالان:”المرجع السابق”،ص405.
(4) أوجالان:”نفس المرجع”ن ص 406.
(5) أوجالان:”نفس المرجع”ن ص 406.
(6) زيغمونت أوستروسكي:”واحد وعشرون عاماً مع الدكتور جون غارانغ1985-2005″،دار هارماتان، الطبعة الأولى،باريس2022،ص 1.
نقلاً عن: المركز الكردي للدراسات
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=23694