فضيحة الألف عام والألفي عام، ترامب يقرأ من كتاب أردوغان

د. محمود عباس

كيف يمكن لرئيس أقوى دولة في العالم أن يتحول، في لحظة، إلى تاجر يبيع التاريخ مقابل صفقة تجارية؟ وكيف يمكن لمن يجلس على كرسي البيت الأبيض أن يكرر أخطاء فادحة في أبسط الحقائق، وكأنها بضاعة رخيصة يتداولها بلا تمحيص؟ هكذا بدا دونالد ترامب، متناقضًا إلى حد الفضيحة، لا في سياساته فقط، بل في عمق نفسيته وطريقة تعامله مع قادة العالم، إذ يقيس كل شيء بميزان واحد: من يقدّم له الصفقات، ومن يفتح أبواب الاستثمار للشركات الأمريكية.

وقد تجلى ذلك بوضوح في مؤتمره الصحفي يوم 16 كانون الأول/ديسمبر 2024 في البيت الأبيض، حين تحدث عن علاقة تركيا بسوريا قائلاً: «لقد أرادت تركيا ذلك لآلاف السنين، وهم هناك منذ ألفي عام، بل منذ ألف عام على الأقل، وهم يتعاملون مع سوريا منذ ذلك الوقت»【Reuters, 16 Dec 2024】في جملة واحدة، اختصر تاريخ الأناضول إلى أرقام متناقضة، مرة ألفي عام ومرة ألف عام فقط، وكأن الزمن لعبة أرقام يحركها كما يشاء، وبذلك محا حضارات وإمبراطوريات إسلامية كبرى، من الهاشمية إلى الأموية فالعباسية وصولًا إلى الأيوبية، ليختصر الجميع في الدولة العثمانية وحدها، كما لقّنه أردوغان ليكرّس روايته الخاصة بالتاريخ.

أما في لقائه مع أردوغان في البيت الأبيض يوم 25 أيلول/سبتمبر 2025، فقد كرر الفكرة نفسها بعبارات ملتبسة وهو يجيب عن سؤال حول سوريا، مشيرًا مرة أخرى إلى “آلاف السنين” من طموح تركيا، وعلى أن تركيا تريد أن تسيطر على سوريا لألفي عام، في سياق دفاع غير مباشر عن سياسات أنقرة، تضمن نقد غير مباشر على طموح تركيا في سوريا، لكنه هذه المرة ربط الحديث بملفات الصفقات التجارية، من الغاز إلى الأسلحة، وكأن التاريخ لا يُستحضر إلا لتبرير تبادل المصالح.

إن خطورة مثل هذا الاختزال لا تكمن في الجهل ولا في خروج كلمات ترامب عن الجغرافية الدبلوماسية في أحيانا عديدة، بل في أثره على وعي الشعوب وصورة الشرق في الإدراك الغربي، فحين يُمحى التاريخ بكل تعقيداته وتنوعه ويُستبدل بسردية أحادية، يصبح من السهل تبرير الهيمنة والتغطية على الجرائم وإعادة إنتاج الاستعمار بثوب “عثماني جديد”. لم تكن كلمات ترامب مجرد زلة لسان، بل كانت امتدادًا لخطاب أردوغان الذي يسعى لإعادة الشرعية لإمبراطورية بائدة، فيما يُقصي عمدًا عظمة حضارات سبقت وأسست للعلم والفكر والسياسة، والأسوأ أن هذه السقطات مرّت عبر رئيس الولايات المتحدة كحقائق مفترضة، وسط صمت الإعلام والمحللين، حتى غدت الفضائح التاريخية لترامب أمرًا عاديًا لا يثير سوى ابتسامات عابرة، بينما يعاد تشكيل الوعي العالمي على مقاس رواية زائفة.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، ألا يوجد حول ترامب مستشارون وخبراء في التاريخ يصححون له ويضعونه على الطريق الصحيح قبل أن يرتكب مثل هذه الفضائح؟ أم أن الحقيقة أبعد من مجرد جهل، وأن الرئيس لم يكن بحاجة إلى الحقيقة أصلًا، بقدر حاجته إلى ما يخدم صفقاته ومصالح داعميه؟

وربما، كما بيّنتُ في سلسلة مقالاتي السابقة، لم يكن ترامب مجرد رئيس عابر أو رجل أعمال متهور، بل كان تجسيدًا لرجل الدولة العميقة العصرية، وحارسًا أمينًا للشركات الخوارزمية العملاقة التي باتت تتحكم في إعادة تشكيل العالم على مقاس مصالحها الاقتصادية.

صحيح أن إنسانًا عاديًا قد يقع في مثل هذه الهفوات بحكم جهله بالتاريخ، لكن أن يأتي ذلك على لسان رئيس أقوى دولة في العالم، فالمسألة تتجاوز الجهل لتكشف عن استخفاف بالحقيقة التاريخية وتهاون في تدقيق المعلومة، إنه مؤشر على عقلية رئيس شركة يبيع ويشتري في سوق السياسة، أكثر منها عقلية رجل دولة يقود نظامًا عالميًا.

لقد أظهر ترامب دونية لافتة أمام أردوغان حين وقّع صفقة مع شركة بوينغ، حتى تدنى به الأمر إلى أن يسحب كرسيه كمرافق له، في مشهد أقرب إلى إذلال ذاتي منه إلى دبلوماسية، ومشهد مشابه تكرر في السعودية، حين قبِل بالجلوس إلى جانب أحد المطلوبين على لائحة الإرهاب الأمريكية وكأن الأمر لا يعنيه، ثم أعاد الكرة في قطر، حيث بالغ في مجاملة أميرها، رغم أن مساحة دولته لا تكاد تتجاوز مساحة مدينة هيوستن الأمريكية. كل ذلك يعكس استعداد ترامب للتنازل المفرط أمام من يضمن له عقد صفقة أو رفد الاقتصاد الأمريكي بعوائد سريعة.

وعلى النقيض من تودده المفرط لأصحاب الصفقات، فإن ترامب، حين يتعلق الأمر بقادة دول يبحثون عن المساعدات أو يواجهون أزمات إنسانية واقتصادية، يتحول دونالد ترامب إلى رجل فظّ وقاسٍ، يفرض شروطًا مذلة ويتعامل بجلافة بعيدة عن أي اعتبار إنساني أو سياسي. هذا ما فعله مع زيلينسكي، رئيس أوكرانيا، حين أدار ملفه من مكتبه البيضاوي كأنه مساومة تجارية، ثم خفف من حدة استراتيجيته فقط عندما برزت إلى السطح قضية الثروات المعدنية النادرة التي تطمح إليها الشركات الأمريكية. أما عن مواقفه من التحالف الأمريكي – الكوردي سنأتي عليه في مقال مفصل لاحقاً.

هذا التناقض يكشف بجلاء طبيعة نفسيته: انبهار مرضي بالقوة المالية وصفقات الشركات، يقابله استعلاء وتعالٍ على الضعفاء والمحتاجين. إن شخصية ترامب لم تكن انعكاسًا لرئيس أمريكي تقليدي، بل تجسيدًا لرجل أعمال يضع مصالح الشركات فوق مصالح الشعوب، فحوّل الدبلوماسية إلى مزاد علني، والسياسة إلى بورصة تفاوضية خالية من أي بُعد أخلاقي أو تاريخي.

الولايات المتحدة الأمريكية

27/9/2025م

Scroll to Top