فنان منفي في وطن لا يوجد فيه غير اللافتات

كوردأونلاين |

أحمد ديبو_
في الإنترنت، شاهدت اللقاء التلفازي، الذي أجرته في مدينة باريس، الروائية اللبنانية نجوى بركات مع الفنان السوري يوسف عبد لكي ضمن سلسلة حلقات “موعد في المهجر” على قناة الجزيرة.
وقد فاجأت نجوى بركات ضيفها بالسؤال الآتي: سافرت لوحاتك الى دمشق مراراً، فهل كنت كمن يرسل بعضاً من روحه إلى الأهل، فيما يبقى جسده أسير أبواب مؤصدة بآلاف القتلى، والبيوت المدمرة، وآلاف آلاف المساجين والمفقودين؟
يوسف عبد لكي، المدهونة يداه بسواد قلم الفحم، والواقف في مواجهة إحدى لوحاته، يشيح بنظره عن الكاميرا، ويغرق في صمت يدوم ثواني عدة، ويتنهد لنطل مع تنهيدة آهٍ، عميقة ومترددة، اختزلها الفنان في دواخله سنوات طويلة.
تطل آهٍ مبتلة بالدمع، والقهر ويترجرج الصوت، ويستعصي الكلام في مطلع قوله: “أعمالي اللي بتروح ع الشام وبتنعرض وأنا …” يستنجد عبد لكي ثانية قواه بحثاً عن الكلمات الملتاعة بالغربة، ويقول بصوت جريح النبرة: “يعني بالحقيقة، أعمالي منذ سنوات طويلة بتروح على الشام، وأنا قاعد ما بتحرك هون. الواحد بيحس وكأنه عم يبعت للبلد، عم يبعت بالتحديد لأصحابه وللناس الذين يحبهم ويحبونه، كأنّه هيك عم يبعت لهم رسالة يقول فيها: إنهم موجودون معه، وإنهم بشكل، أو بآخر العصب تبع كل الشغل”.
لا أدري ما الذي حل ببقية الأصدقاء الدمشقيين، الذين رأوا هذا المشهد، ولم يغادر عبد لكي، الإنسان والفنان، أما أنا فبكيت دهراً وقهراً على هذا البلد، الذي يحرم كبار فنانيه، وكتّابه العودة إليه.
ورحت أسأل نفسي، عن أي حال طوارئ، أو عن أي إجماع، وثوابت وطنية، وعن أي خطوط حمر، وعن أي مصالح عليا يتحدثون، ويبررون حرمان كبار الفنانين التشكيليين السوريين العودة إلى بلده.
تحاملت على دموعي، وأطفأت “النت” على صورة عبد لكي، التي لم تزدها السنوات إلا بهاء وشيباً. خرجت مسرعاً إلى أزقة وشوارع قامشلو، وبالتحديد الى شارع عامودا، ومنه الى شارع منير حبيب، وتهت بالشوارع، هربت من عيني فنان مبدع منفي من وطن لا يوجد فيه غير اللافتات، التي تمجّد القائد، ويُنسب قائد بقضه وقضيضه إليه.
خرجت مرددا قول عبد لكي: كلمة وطن، واحدة من الكلمات، التي تستعمل في شكل متواصل منذ خمسين عاماً؛ لتضليل الناس والكذب عليهم، لذلك أكرهها. بينما كلمة بلد لها علاقة بالشوارع، وبالناس، وبالبيوت، وبالشجر وبالأرض، وهي كلمة غير مستهلكة، وغير مشبوهة، وغير ممضوغة، على عكس كلمة وطن. شوقي، هو أن أعيش بشكل عادي في بلد عادي. بلدي ليس بالبلد الاستثنائي، لكنه ببساطة، وبالصدفة، بلدي أنا.
خرجت أسأل الناس، والشوارع، والشجر، لماذا باسم الوطن، حُرم ابن البلد المشاركة في جنازة أخيه فواز؟ ولماذا تحرم الخالة، أم يوسف رؤية وحيدها، والعيش معه في البلد نفسه؟ وهل وجود عبد لكي، وأمثاله يهدد لحمتنا الوطنية في معاركنا المصيرية، التي هزمنا فيها جميعاً؟!!.
خرجت أسأل، فإذا بالأزقة والبشر، وإذا بالأرض وبالسماء، وبالنجوم، تقول لي بلسان عبد لكي، وهو يشير بيده من شاشة التلفاز: القصة ليس فيها إعجاز، وهي متوافرة للبشر كلهم.
الواحد يخطر في باله ببساطة، أن يمشي في حارة قريبة من الملعب البلدي، التي حصلت فيه، وقربه مجزرة على أيدي قوات أمن الوطن؟! ضد الكرد وانتفاضتهم العادلة.
ويمكن يطلع ليرى الأصدقاء، الذي كانوا شهوداً على تلك المجزرة؟! ويستذكر معهم الأحداث، وأسماء بعض الأصدقاء، الذين استشهدوا، وقصصهم.
قصص كثيرة، وحكايا أغلبها مؤلم نتبادلها نحن الذين نسكن هذه البقعة الجغرافية، التي تُدعى سوريا.

​الثقافة – صحيفة روناهي  

شارك هذه المقالة على المنصات التالية