كوردستان وقادم الشرق الأوسط تحولات كبرى وصراع على المستقبل

د. محمود عباس

بناءً على المؤشرات المتتابعة الصادرة عن الإدارة الأمريكية، يتضح أن الشرق الأوسط يقف على أعتاب تحولات كبرى ترسم معالمها منذ سنوات، تمامًا كما هي الحرب الروسية – الأوكرانية التي شكّلت منعطفًا في النظام الدولي، ومن بين هذه المؤشرات تصريحات لافتة صدرت اليوم عن السيناتور الأمريكي (ليندسي غراهام) التي اتسمت بالحدة والوضوح في مواقفه تجاه حماس وحزب الله، إلى جانب ذلك، جاءت نشاطات وفد من أربعة أعضاء في الكونغرس الأمريكي، برئاسة السيناتور (جين شاهين) والسيناتورة (جوني إرنست) حيث التقوا أولاً بما يسمى رئيس الحكومة السورية الانتقالية أحمد الشرع – الجولاني، ثم بالجنرال مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية.

السيناتور غراهام شدد على أن هزيمة حماس في غزة أمر غير قابل للتفاوض، وأن عودة الأسرى إلى ديارهم مسألة وقت ليس إلا، وقبل أواخر هذه السنة سنكون قد انتهينا من المسألة، كما أكد أن الشرق الأوسط يتجه نحو حلول جذرية، وأنه لن يبقى هناك أي تهديد على الأمن الإسرائيلي، وبنبرة أشد، صرّح بأن سلاح حزب الله يجب أن يُنزع قبل نهاية العام الجاري، معتبرًا ذلك شرطًا لاستعادة لبنان سيادته وجذب الدعم الدولي، كما حذّر من محاولات بعض الدول الأوروبية دفع خيار “الدولة الفلسطينية” بشكل متسرع لأنه، حسب رأيه، قد يقوّي موقف حماس.

هذه التصريحات تعكس أن الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط بدأت تتغير بشكل جوهري، وبدون رتوش سياسية، مع توافق معظم القوى الكبرى عليها، وبالنسبة لسوريا، فهذا يعني أن مسارها يتجه، في أفضل حالاته، نحو نظام لا مركزي سياسي، قائم على أربع أو خمس فيدراليات، أو سيكون التقسيم إلى اربع دويلات هو الحل، وفي هذا السياق، فإن مهمة الجولاني وهيئة تحرير الشام ستنتهي تدريجيًا بعد نهاية هذا العام أو على الأكثر العام القادم، مع انكشاف الغطاء العصري الذي صنعته له تركيا وقطر والسعودية، وانفضاح وجهه الإرهابي، ومهما حاول الجولاني التبرؤ من الإسلام السياسي، بإعلان براءته من الإخوان المسلمين قبل توجهه إلى الأمم المتحدة، فإنه لا يستطيع التبرؤ من القاعدة، فهو جزء منها، مثلما كان خلافه مع البغدادي في عام 2013 خلافًا بين إخوة سلفية متطرفة لا أكثر.

الاستراتيجية الأمريكية – الأوروبية، والتي تتبناها وتدفعها إسرائيل بقوة، تسير نحو تعزيز القوى التي يمكن أن تؤمّن مصالحها في المنطقة، وفي مقدمتها القوى الكوردية، ومن هنا تبدأ بوادر الدولة الكوردية بالظهور، وهو ما يثير رعب تركيا ويكشف عمق خلافها الاستراتيجي مع إسرائيل، رغم أن الأخيرة تمثل في جوهرها مصالح أمريكا في المنطقة، إن جدلية كوردستان القادمة تتجاوز الحدود الضيقة، فتركيا نفسها جزء من هذا الواقع الجيوسياسي، مهما حاولت التمويه.

وفي مواجهة هذه الاستراتيجية، دفع أردوغان بالحكومة السورية الانتقالية، للتحرك نحو مسارين، دولي وداخلي، في البعد الأول، دفعها للتوجه نحو روسيا، تجسد بزيارة وزير خارجيتها أسعد الشيباني، وتقديم صلاحيات إضافية لموسكو، رغم كل ما ارتكبته الأخيرة من جرائم في سوريا ضد المعارضة والشعب، بما فيهم التكفيريون أنفسهم وعلى رأسهم تنظيم الجولاني، إلا أن هذه الخطوة لم تكن لمصلحة سوريا، بل لتثبيت استراتيجية تركية هدفها مواجهة المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، حتى ولو كان على حساب دماء السوريين ومصيرهم.

وفي المسار الداخلي، عملت المنظومة الشمولية على تجنيد شرائح متعددة من المتطرفين الإسلاميين والقوميين العروبيين لمحاربة الكورد، شعبًا وحراكًا، مستخدمة أساليب متنوعة ومنهجيات متشابكة، فمنهم من مارس عداءه بشكل مباشر وبدون أي غطاء، ومنهم من التفّ وراء أقنعة دبلوماسية وحجج واهية، يزعمون أنهم “ليسوا ضد الشعب الكوردي” بل ضد القوى القادمة من قنديل، أو أنهم يعارضون فقط دعاة الانفصال، وهي ذات الحجج التي أتقن نظاما البعث والأسد تسويقها طوال نصف قرن، لتبرير سياسات الإقصاء والإنكار، ولإدامة هيمنتهما على المجتمع السوري.

هذه الاستراتيجيات لم تتراجع، بل ازدادت حدّة كلما تصاعدت القضية الكوردية ودخلت المحافل الدولية، وكلما ازداد الاهتمام العالمي بها، فكلما اقترب الكورد من تثبيت حقوقهم المشروعة، ارتفعت أصوات النكران والتشويه، في محاولة يائسة لإعادة إنتاج رواية السلطة القديمة في ثوب جديد، غير أن الحقيقة تبقى جلية، كان بإمكان الحكومة السورية الانتقالية أن تطيل عمرها لو لم ترضخ لإملاءات تركيا، ولو تجاوزت تعنتها الإيديولوجي الإسلامي – السياسي – العروبي، وقبلت بالنظام اللامركزي السياسي، وعملت مع الكورد على إعادة تركيب سوريا على أساس أربع فيدراليات تضمن التعددية والشراكة الوطنية الحقيقية.

كل هذه المؤشرات تعني أن قادم كوردستان سيكون مبهرًا ومليئًا بالفرص، ومن هنا، فإن المسؤولية تقع على عاتق الحراك الكوردي وقوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، لاغتنام اللحظة التاريخية عبر توحيد الجهود، وتفعيل مخرجات مؤتمر قامشلو، والعمل على مستوى بناء الدولة، لا على مستوى الحزبية الضيقة، المطلوب تفعيل الإدارات والمؤسسات الحكومية، وإعادة الحياة إلى ما توقف منها بعد سقوط النظام المجرم البائد، إن وحدة الصف الكوردي وتأسيس مؤسسات دولة فعلية ستكون الضمانة الوحيدة لحماية المكتسبات، واستقبال التحولات القادمة بثبات وإرادة.

الولايات المتحدة الأمريكية

28/8/2025م

Scroll to Top