لو أصاب القناص ترامب هل كانت أمريكا ستغزو العالم بالذكاء والتعريفة أم بالصواريخ؟ الحلقة الحادية عشرة

د. محمود عباس

لم يكن وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حدثًا سياسيًا عابرًا في تاريخ الولايات المتحدة، بل كان انعطافة فجّرت سؤالًا أكبر، إلى أين تتجه البشرية؟ هل ما زال مصير العالم يتحدد عبر الحروب العسكرية الكلاسيكية وصواريخ الردع، أم أننا انتقلنا إلى عصر الحروب الاقتصادية والخوارزميات حيث تدار المعارك في الأسواق والمنصات الرقمية بدل ساحات القتال؟ وهل كان ترامب سوى واجهة معلنة لصراعٍ خفي بين الدولة العميقة الكلاسيكية والدولة العميقة العصرية التي تنسج خيوطها عبر الاقتصاد الرقمي والشركات العملاقة؟

لكن الأخطر مما يجري اليوم أن تتحول الشعوب نفسها إلى أدوات في حربٍ صامتة بين هذين النظامين، نظام كلاسيكي يعيش على منطق الدولة والجيوش، ونظام عصري يبني سلطته عبر تدفق البيانات وتوجيه الوعي. شعوب تُستَخدم دون أن تُستشار، وتُستثمر دون أن تُحمى. في الأمس كانت الديمقراطية تعني أن صوتك يُحدث فرقًا؛ أما اليوم، في زمن تسليع الوعي، صار الصوت يُقاس بمدى قابليته للتحليل والاستهداف وإعادة البرمجة.

لم تعد الانتخابات التعبير الأسمى عن الإرادة الشعبية، بل غدت ميدان اختبار لمن يضخ رسالته بأكثر فاعلية عبر خوارزميات المنصات الرقمية، في السابق كانت الشعوب تُقاد ذهنيًا وعلنيًا عبر الأديان والإيديولوجيات السياسية، وتُباد جسديًا في الحروب الكلاسيكية، أما اليوم وغدًا، فيُعاد إنتاج ذلك تحت غطاء “الحرية الاقتصادية” وزوال الحواجز الجغرافية، الديمقراطية تحوّلت تدريجيًا إلى واجهة أنيقة لنظام بلا مركز، لكنه يفرض سيطرة مطلقة، حيث لم تعد الأحزاب ممثلة للأفكار، بل علامات تجارية تتنافس في ساحة رقمية، تقرر فيها المنصات من يصل ومن يُحجب.

المواطن لم يعد مواطنًا بقدر ما صار منتجًا للبيانات؛ كل ما ينتجه يُباع ويُعاد ضخه إليه على شكل رأي، أو دعاية، أو خوف ممنهج، في هذا النظام الجديد، تُفرغ الحرية من مضمونها وتُحقن بإحساس زائف بالسيطرة، يُخيَّل للناس أنهم يختارون، لكن اختياراتهم تحددت سلفًا عبر تنبؤات الخوارزميات، وكما تساءل أحد المفكرين المعاصرين، هل ما زلنا نعيش في ديمقراطية إذا كانت المنصات التي نكتب عليها لا تعترف إلا بما يخدم أرباحها؟

إن مستقبل الديمقراطية لم يعد يُختبر في صناديق الاقتراع، بل في معايير خوارزميات الترويج والتهميش، وفي قدرة الأفراد على الوصول المتكافئ إلى الساحات الرقمية، وفي الشفافية التي تحكم صناعة “الحقيقة” نفسها، وهنا يكمن جوهر الصراع داخل الإدارة الأمريكية، وفي قلب الإمبراطورية التي تعيد تعريف ذاتها، هل ستتخلى عن الحروب الكلاسيكية لتعتنق الخوارزميات والتعريفات الاقتصادية كسلاح الغزو الجديد، أم أنها ستعود إلى صواريخها وجيوشها لتفرض هيمنتها بالطريقة القديمة؟

في القرون السابقة، كان للسلطة وجه يُرى، الملك، الإمبراطور، الزعيم، ثم صارت مؤسسات، الدولة، الحزب، النظام، أما اليوم فقد تحوّلت إلى منظومات؛ كأنها قررت أن تتوارى، أن تسدل على نفسها قناع “اللا وجه” ما نعيشه ليس تحديثًا في أدوات الحكم، بل انزياحًا كاملًا في طبيعة السيطرة، فالمنظومات ليست هرمية ولا خاضعة لهيكل واحد، بل شبكات تتكرر وتتشابك وتعيد إنتاج ذاتها بلا نهاية.

فكر في غوغل، أمازون، تسلا، البنتاغون، تويتر، وكالة الأمن القومي، صندوق النقد الدولي، وادي السيليكون، ميتا، مجلس الأمن، هذه ليست كيانات متنافسة، بل عقد في نسيج واحد من تدفقات السلطة، كل منها يمارس سلطة على مجال، الاقتصاد، البيانات، القانون، الحرب، الوعي، لكنها جميعًا تتكامل ضمن منظومة واحدة غير معلنة، نظام بلا عاصمة.

السلطة الجديدة لا تحكم بالأوامر، بل بالمقاييس، لا تُصدر قوانين، بل تحدد الشروط الخفية لما هو ممكن، من يتحكم في تدفق المحتوى، في الخوارزمية، في شروط الوصول، يتحكم في الحقيقة ذاتها، ومن يملك الحقيقة، لا يحتاج أن يواجه، إنها سلطة تعمل في الخلفية بصمت، مثل نظام تشغيل أو نبض كهربائي يدير الجهاز دون أن يُرى.

والأخطر أن هذه المنظومات لا تحتاج إلى شرعية جماهيرية، ولا إلى كاريزما سياسية، لأنها لا تخاطبك مباشرة، إنها تندمج في حياتك اليومية حتى تنسى أنها موجودة أصلاً، ومع ازدياد هذا الاندماج، نصبح عاجزين عن التمييز بين ما هو طبيعي وما هو مفروض، بين ما نريد وما تم اقتراحه لنا سلفًا.

إن أخطر ما في هذه المنظومات أنها لا تموت، الدولة قد تنهار، النظام السياسي قد يسقط، لكن المنظومة تعيد إنتاج نفسها بمسميات أخرى، بأدوات جديدة، وربما بوجوه بشرية “منتخبة” ظاهرًا، نحن لا نعيش في ظل نظام عالمي، بل داخل شبكة بلا مركز ولا مخرج واضح، وكما كتب إيتالو كالفينو: “في المدن غير المرئية، هناك مدن لا يُعرف من بنى جدرانها، لكن الجميع يسكنها” وكأننا اليوم نسكن جميعًا مدينة اسمها، المنظومة.

من هنا يصبح التمرد مختلفًا، لم يعد مجرد مظاهرة أو ثورة تسقط رئيسًا، بل تمرينًا على الوعي النقدي، على كسر الإيقاع العام، على الانفصال عن السلاسة التي تخدّر الفكر، أن تتمرد اليوم يعني أن تسأل عن الخريطة بدل أن تصرخ في الفراغ.

ويبقى السؤال، لو أصاب القناص ترامب، هل كانت هذه المسيرة ستتوقف؟ أم أن بديله كان سيظهر بالثقل ذاته ليواصل اندفاع المنظومة؟ هل كان ترامب مجرد واجهة مؤقتة في صراعٍ أكبر من رجل واحد، أم أنه بالفعل كان الشرارة التي سرعت هذا الانتقال من الصاروخ إلى الخوارزمية؟

 

الولايات المتحدة الأمريكية

11/4/2025م

 

Scroll to Top