مشاهير الكرد في التاريخ الإسلامي (الحلقة الثانية والعشرون) صلاح الدين الأيوبي ( ت 532 – 589 هـ ) البطل الأنقى

كوردأونلاين |

د. أحمد الخليل

لكل زهرة عطرها.
ولكل فراشة تهويمتها.
ولكل شجرة شموخها.
ولكل غيمة بهاؤها.
ولكل نهر جماله.

ولكل جبل جلاله.

وكذلك العظماء والمشاهير.

لكل منهم في التاريخ موقع.

وفي قلوب الناس موضع.

هذا لأنه حرّر الأوطان.

وذاك لأنه كرّم الإنسان.

وثالث لأنه عمّر البلاد.

ورابع لأنه أزاح البؤس عن كاهل العباد.

ومنهم من فعل كل هذا، فجمع الخير من أطرافه، وحاز المجد من ألفه إلى يائه.

ومن هذا الرعيل صلاح الدين الأيوبي، القائد الذي تحدّث عنه أصحابه بكل محبة وإجلال، وكتب عنه أعداؤه بكل إعجاب وإكبار، حتى إنه حاز لقب (البطل الأنقى)، والذي أضفى عليه هذا اللقب هو من حفدة الفرنجة الذين قاتلهم صلاح الدين، وقارعهم في كل ساحة من ساحات شرقي المتوسط، إنه ألبير شاندور، صاحب كتاب (صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام).

فمن هو صلاح الدين؟

ولماذا كان (البطل الأنقى)؟!

على تخوم قفقاسيا
كان الكرد يقيمون في مناطق أذربيجان وأرمينيا المتاخمة لقفقاسيا (القوقاز) منذ عهود أجدادهم الميديين، ولما اعتنقوا الإسلام شاركوا في الحروب التي نشبت في منطقة القوقاز بين المسلمين وجيرانهم المسيحيين، ثم أقاموا بعض الدول والحكومات المستقلة وشبه المستقلة ولا سيما في القرنين الرابع والخامس الهجري.
وفي القرن الرابع الهجري، ومنذ سنة (340 هـ/951 م)، كان الكرد الشَّداديون يحكمون أرمينيا، ودام حكمهم فيها (138 هـ)، واضطرهم موقعهم الجيوبوليتيكي إلى خوض الحرب على جبهتين: في الغرب ضد الدولة البيزنطية، وفي الشمال ضد الجورجيين وغيرهم من سكان القوقاز المسيحيين؛ ولا غرابة في ذلك، فقد كانت الإيديولوجيات الدينية هي التي تصنع الحرب والسلام حينذاك.
وتنتمي أسرة شادي (شاذي) بن مروان إلى عشيرة رَوادي (رُو آدي) الكردية، وكانت تقيم في بلدة دُوِين بأرمينيا، وتسمّى في بعض المصادر العربية القديمة (دَبِيل)، وكانت تلك الأسرة من طبقة الأعيان بمعايير ذلك العصر، ويبدو أنها كانت مقرَّبة من الأمير الكردي الشدادي فَضْلُون، لكن القبائل التركمانية غزت المنطقة قادمة من الشرق، واحتلّت دُوِين، وقتلت الأمير فَضْلُون، وفتكت بأنصار الأمير المقتول، فلم ير شادي بدّاً من أن يغادر موطنه، وينجو بأسرته.

في تَكريت
توجّه شادي بأسرته جنوباً وغرباً، نحو العراق، حيث كان يقيم صديقه القديم جمال الدولة بَهْرُوز شِحْنة بغداد (وزير الداخلية حسب التسميات المعاصرة)، وكان بهروز نفسه مقيماً في دوين سابقاً، واضطر إلى الرحيل عنها بسبب تهمة وُجّهت إليه، ورحّب بهروز بصديقه شادي، وثمة رواية تذكر أنه هو الذي استدعى نجم الدين، وعيّنه حاكماً على قلعة تكريت، وراح شادي يدير أمر تلك القلعة باقتدار، ويسهر على أمن الرعية مستعيناً بولديه نجم الدين أيوب وأسد الدين شَيرگُوه.

وبعد وفاة شادي عيّن بهروز نجمَ الدين حاكماً على القلعة خلفاً لأبيه، ولم يكن أيوب يقلّ عن والده نبلاً وشهامة وحكمة، فحرص كل الحرص على أن يقوم بواجبه خير قيام، واستعان في ذلك بأخيه الشجاع شَيرگُوه.

وفي ذلك العهد كان السلاجقة يهيمنون على مشرق العالم الإسلامي، وكان العراق مسرحاً للصراع بينهم؛ إذ كان كل فريق يحاول السيطرة على بغداد مقرّ الخلافة العباسية، وكان عماد الدين زنكي – حاكم الموصل – قد اتفق مع السلطان السلجوقي مسعود سنة (526 هـ/1132 م)، على حصار بغداد، فاستعان الخليفة وأنصاره بحاكم فارس وخوزستان، ويدعى قراجا الساقي، ودارت معركة بين الفريقين، انتهت بهزيمة عماد الدين.

وتراجع عماد الدين بجنوده نحو الموصل شمالاً، وبالقرب من تكريت اعترض نهر دجلة مسيرتهم، وكاد يقع هو وجنوده في قبضة الفريق المعادي، فقدّم له نجم الدين المعونة، وساعده هو وجنوده على اجتياز دجلة، وداوى جراحاته، وزوّده بالمؤن، ولا ريب أن ثمة علاقة طيبة كانت تقوم بين عماد الدين ونجم الدين.

ليلة عصيبة
وفي سنة (532 هـ/1137 م)، وبينما كان شيرگوه يسير ذات يوم في أحد شوارع قلعة تكريت إذا بامرأة تستغيث، وإذا بأحد كبار الموظفين يتحرش بها، فزجره شيرگوه عن فعلته الذميمة، لكنه لم يرتدع، بل سخر من شيرگوه، وسرعان ما دارت بينهما معركة حامية، وسقط المعتدي صريعاً، وأنقذ شيرگوه المرأة، وثمة من يذكر أن الخلاف بين شيرگوه وذلك الشخص كان لأمر آخر.

سمع بهروز خبر مقتل الموظف، وكان مقرَّباً منه، وكان قد نقم على نجم الدين ساعد لقيامه بمساعدة عماد الدين زنكي على عبور دجلة، والتراجع نحو مقرّه في الموصل، فأصدر الأمر إلى نجم الدين بأن يترك منصب حاكم القلعة، ويرحل مع أسرته عن تكريت من غير تأخير.

وبينما كان رسول بهروز ينذر نجم الدين بالرحيل، إذا برسول يأتي من داره، ويبشّره بولادة طفل له، كان ذلك الطفل هو (يوسف) الذي اشتهر بعدئذ بلقب (صلاح الدين)، وما هي إلا ساعات قليلة حتى بدأت الأسرة رحلتها نحو المجهول، يرافقهما شيخ بغدادي مسيحي كان يعمل كاتباً عند نجم الدين.

كانت الرحلة شاقة، وكان الموقف عصيباً، وكان الوليد الصغير يوسف ينفجر باكياً بين حين وآخر؛ الأمر الذي كان يثير غضب نجم الدين، ويجعله متشائماً بمقدم طفله هذا، حتى إنه كاد يبطش به، لكن الكاتب البغدادي الشيخ رجاه قائلاً: أناشدك بالله أن تستبقيه، فهو طفل لا ذنب له، ولعل الله جاعل له شأناً.

ويمّمت القافلة الصغيرة وجهها نحو الموصل شمالاً، فرحّب بهم عماد الدين زنكي، وانضم نجم الدين وأسد الدين إلى جيش عماد الدين، وشاركا في الحروب التي خاضها عماد الدين ضد الفرنجة، وحينما سيطر عماد الدين على مدينة بَعْلَبَكّ في لبنان عيّن نجم الدين حاكماً عليها، فانتقل نجم الدين بأسرته إليها، وفي مرابع المدينة القديمة بعلبك (مدينة الإله بعل) عاش يوسف أيام صباه.

وبعد مقتل عماد الدين زنكي على أيدي بعض خدمه، نشب النزاع بين الأخوين سيف الدين غازي ونور الدين محمود على السلطة، فوقف القائدان نجم الدين وشيرگوه إلى جانب نور الدين، فرجحت كفّته، واستلم زمام الأمور، وسيطر على دمشق بمساعدة نجم الدين، وأصبح نجم الدين من كبار الأمراء في دولته.

وفي دمشق تلقّى صلاح الدين العلم على أيدي كبار العلماء، وأما في مجال الفروسية فقد كان عمه شيرگوه يشجّعه على إتقان فنونها، من ضرب بالسيوف، وطعن بالرماح، ورمي بالسهام، وركوب للخيل، ومنازلة للأبطال، فأتقن الفنون القتالية جميعها، وساعده في ذلك جسمه الرشيق، وإرادته القوية، وذكاؤه اللماح.

وفي رحلته مع العلوم والفروسية تشرّب صلاح الدين القيم النبيلة: من شجاعة وشهامة، وحلم وكرم، ونبل ومروءة، وكان السلطان نور الدين قد لمح فيه النَّجابة، فرفع من شأنه، وأسند إليه- وهو شاب – منصب رئاسة الشرطة في دمشق، فقام بذلك المنصب أحسن قيام، وطهّر دمشق من عبث اللصوص وشرور المفسدين، ونشر في رحابها الأمن والاستقرار.

في مصر وزيراً
كان العالم الإسلامي حينذاك يعاني من آثار الحملة الفرنجية الأولى التي بدأت سنة (489 هـ/1096 م)، وقد احتل الفرنجة خلال تلك الحملة الساحل السوري، ولبنان، وفلسطين، وقسماً من الأردنّ، وأسّسوا إمارة الرُّها، وإمارة أنطاكيا، وإمارة طرابلس، ومملكة بيت المقدس، وشرعوا يشنّون الغارات على المناطق الداخلية في بلاد الشام، ويهدّدون حلب وحمص ودمشق، وكانت مصر آنذاك تحت سيادة الدولة الفاطمية، لكن تلك الدولة كانت قد أصبحت ضعيفة، فشنّ الفرنجة الحملات على مصر بغية احتلالها.

وإزاء هذا التهديد استعان الخليفة الفاطمي العاضد لدين الله بالسلطان نور الدين، فأرسل السلطان جيشاً بقيادة أسد الدين شيرگوه لمساعدة الخليفة الفاطمي، واصطحب شيرگوه معه ابن أخيه صلاح الدين، ثقةً منه بشجاعته وحسن تدبيره، وخاض شيرگوه وجنوده معارك ضارية ضد الفرنجة، واستطاعوا دحر العدوان على مصر.

وأعاد الفرنجة محاولة السيطرة على مصر كرّة بعد أخرى، فتوجّه شيرگوه بدوره إلى مصر ثانية وثالثة بدعوة من الخليفة الفاطمي ووزيره شاور، للوقوف في وجه أطماع الفرنجة، ولما تآمر شاور مع الفرنجة على الجيش الشامي أمر الخليفة الفاطمي بقتله، وحلّ شيرگوه محلّ شاور في منصب الوزارة، وبعد شهور قليلة توفّي شيرگوه، وأصبح صلاح الدين قائدا للجيش الشامي، ونظراً لما كان يتمتع به من شجاعة وحسن قيادة، اختاره الخليفة الفاطمي وزيراً.

وسرعان ما باشر صلاح الدين حكم البلاد بمهارة وحكمة وإخلاص، إنه بدأ بالجبهة الداخلية، فأزال الضرائب الثقيلة عن كاهل الجماهير، وأرسى دعائم العدل، واعتنى بمصالح الشعب، وحرص على تقوية البلاد لردّ عدوان الفرنجة الغزاة، وتمكن من ردّ الهجوم الذي شنّوه على مدينة دمياط، وكسب احترام الخليفة والجماهير في مصر لما أبداه من بسالة وصبر.

السلطان

لم يكن العباسيون السنّة راضين عن قيام خلافة شيعية منافسة لهم، وكان الصراع شديداً بين الخلافة العباسية في بغداد والخلافة الفاطمية في القاهرة، ويبدو أن الاتفاق كان قد تم بين كل من الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله والسلطان نور الدين على إزالة الخلافة الفاطمية، لذلك أمر نور الدين واليه على مصر- وهو صلاح الدين- أن يعلن إلغاء الخلافة الفاطمية، ويجعل مصر تابعة للخلافة العباسية.

ورغم أن الخليفة الفاطمي العاضد بالله مريضاً، وكان في الأيام الأخيرة من عمره، فإن صلاح الدين لم ير بدّاً من تنفيذ أوامر كل من الخليفة العباسي والسلطان نور الدين سنة (567 هـ/1171 م)، لكنه حرص في الوقت نفسه على ألا يعرف الخليفة العاضد أن دولته قد زالت وهو على فراش الموت.

وبعد وفاة الخليفة الفاطمي العاضد، أصبح صلاح الدين سيد البلاد، فساس الناس أحسن سياسة، وهاجم معاقل الفرنجة في جنوبي فلسطين والأردن، بتنسيق مع السلطان نور الدين في بلاد الشام.

وفي سنة (569 هـ/1174 م) توفّي السلطان نور الدين، وكان ابنه إسماعيل صغير السنّ، غير قادر على ممارسة الحكم في تلك الظروف الصعبة، وبدأ بعض كبار القادة يسيّرون الأمور كما يريدون، ويعقدون المعاهدات والأحلاف مع الفرنجة، فاستعان ابن المقدَّم – وهو من كبار القادة في دمشق – بصلاح الدين، كي ينقذ البلاد من حالة الضعف والانحطاط، ويوحّد مصر والشام للوقوف في وجه الفرنجة.

فاتجه إلى صلاح الدين إلى دمشق، وقضى على نفوذ القادة المتعاونين مع الفرنجة، وأعلن نفسه سلطاناً، وظل يعمل لتوحيد شعوب شرقي المتوسط، ولمواجهة الخطر الذي يحدق بالمنطقة، واستطاع، بعد جهود مضنية، توحيد شمالي السودان، واليمن، والحجاز، وشمالي العراق، والشام، ومصر، وليبيا، وأنشأ دولة كبيرة، كثيرة الخيرات، هائلة القدرات، مرهوبة الجانب، هي الدولة الأيوبية.

واستعداداً لتحقيق النصر على الفرنجة، حرص صلاح الدين على الجمع بين العلم والقوة، ففتح المدارس، وشجّع العلم، وأكرم العلماء، كما أنه اهتمّ بتحسين الأحوال الاقتصادية، فشجّع الزراعة والصناعة والتجارة، أضف إلى هذا أنه اهتمّ بالجيش، فدرّب الجنود على فنون القتال، وبنى أسطولا قوياً قادراً على مواجهة الأساطيل الفرنجية في كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر.

معركة حِطّين

بعد أن أعدّ صلاح الدين للحرب عدّتها، وتأكّد من قوة الجبهة الداخلية، انتقل إلى بلاد الشام فهي أقرب إلى المناطق التي يحتلها الفرنجة، وشرع يهاجم قلاعهم وحصونهم، ويفتحها قلعة تلو أخرى، وحصناً بعد آخر، ويفاجئهم تارة هنا، وتارة هناك، ولا يدع لهم سبيلاً إلى الراحة والاطمئنان.

ويذكر الرحّالة الأندلسي ابن جُبَيْر أنه رأى في الحرم المكي سنة (579هـ/1183م) مجموعة من أسرى الفرنج، راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها، وحولهم الطبول والأبواق، وعلم أن هؤلاء هم من الفرنج الذين أرسلهم أمير الكرك رينو دي شاتيون، المعروف في المصادر العربية القديمة باسم (أرناط)، لمهاجمة شواطئ الحجاز والفتك بالحجّاج المسلمين، وأحرقوا في البحر الأحمر ستة عشر مركباً للمسلمين، وفتكوا بالحجّاج القادمين من مصر واليمن.

وفي سنة (582 هـ/1186 – 1187 م) نقض أرناط العهد الذي كان قطعه على نفسه، فاعترض قافلة من الحجّاج العائدين من بيت الله الحرام، وأخذهم أسرى، ونهب أموالهم، فغضب صلاح الدين أشدّ الغضب، وقرر معاقبة هذا الفارس الفرنجي، فقاد جنوده وهاجم قلعة الكَرك فحاصرها، فهبّت الإمارات الفرنجية الأخرى جميعها لمساعدة أرناط، بقيادة ملك القدس الفرنجي غي دي لوسينيان.

وفي سنة (583 هـ/1187 م)، ورداً على استفزازات الفرنجة، استنفر صلاح الدين القوات الإسلامية في كل من مصر والشام وكردستان، ثم هاجم حصون الفرنجة وقلاعهم، وخاض ضدهم معركة فاصلة قرب بحيرة طبرية بفلسطين، في منطقة تدعى (حِطِّين).

وقد اعتمد صلاح الدين خطّة حربية بارعة، تقوم على إنهاك العدوّ، واستنفاد طاقاته القتالية، وجرّه إلى القتال في ظروف نفسيّة وجغرافية وتعبوية غير مناسبة، وفي يوم السبت (24 ربيع الثاني 583 هـ/4 تموز 1187م) حقق صلاح الدين نصراً حاسماً على الجيش الفرنجي، وأسر الفارس الكردي المِهْراني دِرْباس الملك الفرنجي (غي)، ووقع في الأسر أخو الملك، وأرناط أمير الكرك، وقادة كبار آخرون.

استرداد القدس

لم يخلد صلاح الدين إلى الراحة بعد النصر الكبير في حطّين، فتقدم بسرعة نحو حصون الفرنج يدكّها دكّاً، إنه فتح حصون: طبريّا، وعكا، والناصرة، وقيساريا، وحيفا، وصَفُّورية، واستولى أيضاً على صيدا، وبيروت، وجُبَيْل، وزحف أخوه الملك العادل بجيش من مصر ففتح يافا.
وبعد هذه الفتوحات الكبيرة أصبحت طريق القدس مفتوحة أمام جيش صلاح الدين، فسار بجنوده نحوها، ووصل إليها في 15 رجب سنة (583 هـ/20 أيلول 1187 م)، ولم يرغب صلاح الدين في إراقة الدماء، فأجرى المفاوضات مع حاميتها الفرنجية بشأن الاستسلام، وتعهّد باحترام الأماكن المقدسة وشعائر الديانة المسيحية، لكن الإفرنج رفضوا الدعوة إلى السلم، وأصروا على القتال.
وكان قد اجتمع بالقدس كثير من جنود الفرنج، ولما كان يوم 27 من رجب (583 هـ/2 تشرين الأول 1187 م)، حمل صلاح الدين وجنوده على المدينة حملة رجل واحد، وتقهقر جنود الفرنج عن مواقعهم، واضطروا إلى دخول المدينة والاحتماء بالأسوار، وواصل الجيش الأيوبي زحفه تحت وابل من قذائف الفرنج وسهامهم، ووصلوا إلى الخندق فاجتازوه، ثم وصلوا إلى السور فنقّبوه، واشتد القتال بين الفريقين، وشرع المسلمون يحفرون الأنفاق تحت الأسوار والأبراج، تمهيداً للدخول إلى المدينة.
ولما تأكّد للفرنج أنهم غير قادرين على الاستمرار في المقاومة، اجتمع رأيهم على طلب الأمان، فأرسلوا وفداً إلى صلاح الدين بزعامة قائدهم باليان، ودارت المفاوضات بين الجانبين، ولم يكن صلاح الدين راغباً في إراقة الدماء، فوافق على استسلام الفرنج وفق شروط محددة، وشرع الفرنج يغادرون القدس، وشرطة صلاح الدين تحفظ الأمن، كي لا يقع أي اعتداء أو انتقام على أحد من الفرنج المغادرين.
وقد أثنى المؤرخون جميعاً- شرقيين وغربيين- على الموقف النبيل الذي وقفه صلاح الدين أثناء فتح بيت المقدس، وتحدثوا بإعجاب عن عطفه على المرضى والمسنّين والمحتاجين من الفرنجة، وعن إكرامه للنساء، ورأفته بالأطفال، ورعايته للضعفاء منهم، وشهدوا أن جنوده كانوا على غراره في المروءة والشهامة، هذا بخلاف ما ارتكبه الفرنج من قتل وسفك للدماء، ونهب للأموال، وهتك للأعراض حين احتلوا بيت المقدس قبل ثمانية وثمانين عاماً من ذلك التاريخ.
وكانت فرحة شعوب شرقي المتوسط بتحرير القدس كبيرة، وتذكّر صلاح الدين أنّ سلفه السلطان نور الدين كان قد أمر بصناعة منبر في مدينة حلب، كي يضعه بجانب المحراب في المسجد الأقصى، استعداداً لتحريره، فأمر صلاح الدين بإحضار ذلك المنبر من حلب، وأقيمت صلاة الجمعة في اليوم الرابع من شهر شعبان، بعد ثمانية أيام من تحرير القدس، ” وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكُرُبات، وأقيمت الصلوات “؛ حسبما ذكر ابن كثير في كاتبه (البداية والنهاية).

مناقب صلاح الدين

كان صلاح الدين حاكماً عادلاً، رؤوفاً رحيماً، ينصر الضعفاء، وينصف المظلومين، وكان كريماً بالمال، ويتحلّى بالخصال الحميدة، من تواضع وحب للخير، وعطف على المحتاج والغريب، وصبر على المكروه، وحلم عن الجاهل، ولطف في المعشر، ونجدة للملهوف، وإكرام للضيف وإن كان من الأعداء.

ويقول ابن الأثير الجزري :

” وكان- رحمه الله – كريماً، حليماً، حسن الأخلاق، متواضعاً، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، … وكان عنده علم ومعرفة، وسمع الحديث وأسمعه، وبالجملة كان نادراً في عصره، كثير المحاسن والأفعال الجميلة، … “.

ويقول القاضي ابن شدّاد في وصف شخصية صلاح الدين:

” وكان حسن العِشرة، لطيف الأخلاق، طيّب الفكاهة، حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم، عارفاً بسيرهم وأحوالهم، حافظاً لأنساب خيلهم، عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره، وكان حسن الخلق، يسأل الواحد منّا عن مرضه ومداواته، ومطعمه ومشربه، وتقلّبات أحواله، وكان طاهر المجلس، لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير، وطاهر السمع، فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير، وطاهر اللسان، فما رأيته يشتم قط، وطاهر القلم، فما كتب بقلمه إيذاء مسلم قط “.

وأما عن قلبه الرحيم فحسبنا هذا الخبر الذي يرويه ابن شدّاد، قال:

كنت راكباً معه ذات يوم في مواجهة جيش الفرنج في إحدى المعارك، وإذا بأحد الحراس يصل ومعه امرأة فرنجية تبكي بحُرقة، وتضرب صدرها بيديها، وقال الحرسي: خرجت هذه المرأة من جيش الفرنج، وطلبت الحضور بين يديك.

فأمر صلاح الدين الترجمان أن يسألها عن مشكلتها، فذكرت أن اللصوص دخلوا خيمتها، وسرقوا طفلتها الصغيرة، فظلّت تبكي طوال النهار، وأضافت: قيل لي: إن السلطان صلاح الدين رحيم، فأتيت إليك، ولا أعرف ابنتي إلا منك.
فرقّ قلب صلاح الدين، ودمعت عيناه، وحرّكته مروءته، فأمر الحرس بالذهاب والبحث عن الطفلة، ولم يزل مهتماً بالأمر حتى أُحضرت الطفلة وتسلّمتها المرأة، وخرّت إلى الأرض وهي تمرّغ وجهها في التراب شكراً، والناس يبكون من حولها على ما نالها، وأمر صلاح الدين بأن تعاد إلى معسكر الفرنج في أمان.
وكان بعض أولاد صلاح الدين الصغار يرافقونه في إحدى المعارك، فأرادوا ذات يوم أن يأذن لهم بقتل أحد الأسرى من الفرنج، فغضب لطلبهم ذاك، وزجرهم عن ذلك، لئلا يعتادوا على سفك الدماء منذ الصغر، ويهون ذلك عليهم من بعد.
الرحيل

ظل صلاح الدين بعد تحرير القدس يخوض المعارك ضد الفرنجة، ويتصدّى بقوة للحملة الفرنجية الثالثة التي استهدفت استرداد بيت المقدس سنة (585هـ/1189 م)، وكانت حملة هائلة من حيث العدد والعدّة، وقادها أكبر ملوك أوربا، وهم: فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا، وفيليب أوغست ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وظل صلاح الدين يخرج من معركة ليخوض معركة أخرى، إلى أن ألحق الفشل بالفرنجة، وأعادهم خائبين من حيث أتوا.

وفي سنة (589 هـ/1193 م) كان صلاح الدين في دمشق، يتفقّد أمور الرعية، ويعدّ لخوض معارك جديدة ضد الفرنجة، فخرج يستقبل الحجّاج القادمين من مكة، ثم عاد إلى داره فمرض مرضاً شديداً، وكان في السابعة والخمسين من العمر.

وبعد أيام قليلة، وفي فجر اليوم السابع والعشرين من شهر صفر، الموافق 4 مارس/آذار، وحين انتهى المقرئ من تلاوة قوله تعالى: “لا إله إلا هو عليه توكّلتُ”، توقّف ذلك القلب الكبير عن الخفقان، وكم كان حزن المسلمين عليه شديداً! وخرج أهل دمشق كباراً وصغاراً يشيّعونه إلى قبره بعيون دامعة وقلوب تتفطر حزناً، وما زال قبره ينتصب بشموخ إلى جانب المسجد الأموي بدمشق.

هكذا العظماء!

إن ذكرى صلاح الدين لتخفق في قلب كل محب للقيم السامية، وإن تاريخه الكفاحي ما زال شعلة وقّادة لشعوب شرقي المتوسط، كما أن شهامته وأخلاقه الرحيمة مع أعدائه خير مثال على أن صناعة التاريخ المجيد لا تكون بسفك الدماء، وإنما عبر ممارسة القيم الإنسانية بأبهى الأشكال في أكثر الميادين عنفاً وشراسة.

ولم يكن صلاح الدين عظيماً لأنه كان سلطاناً فقط، وإنما لأنه كان الابن البارّ لشعوب شرقي المتوسط، عرباً وكرداً وتركاً، ومسلمين ومسيحيين، واستطاع بحكمته قيادة هذه الشعوب في واحدة من أخطر المراحل التاريخية، من غير تعصبٍ لقومية، ولا تحيّز لدين، فرسّخ بذلك حقيقة أن التعايش بين مكوّنات البيت الكبير ممكن جداً، وأن قوة شعوب هذه المنطقة إنما تكمن في تآلفها وتكاملها ووحدتها.

وكان صلاح الدين عظيماً لأنه كان الابن البارّ للإنسانية، لم يحمله عداؤه للفرنج على ارتكاب المجازر، وسفك الدماء البريئة، وإنما كان يقاتل بشرف، ويتصرف مع أعدائه بكرم أخلاق، ففي أحيان كثيرة كان يعفو عن الأسرى، وعلم في إحدى المعارك أن فرس خصمه الملك الإنكليزي ريتشار قلب الأسد قد صُرع، فأرسل له في قلب المعركة بجوادين، كما كان يهدي إلى ملوك الفرنجة الفواكه النادرة، ويرسل لهم طبيبه الخاص إذا مرضوا.

ألا بهذه الرؤية الإنسانية تُصنع الأمجاد.

وبهذه القيم الرفيعة يُحاز التقدير والإجلال.

المصــادر
1- ألبير شاندور: صلاح الدين الأيوبي البطل الأنقى في الإسلام، ترجمة سعيد أبو الحسن، دار طلاس، دمشق، 1988م.

2- ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية بالموصل، تحقيق عبد القادر أحمد طليمات، دار الكتب الحديثة، بغداد.

3- أحمد بن إبراهيم الحنبلي: شفاء القلوب في مناقب بني أيوب، مكتبة الثقافة الدينية، مصر، 1996 م.

4- بهاء الدين بن شدّاد: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، ط 1، 1964 م.

5- ابن جبير: رحلة ابن جبير، دار صادر، دار بيروت، بيروت، 1964 م.

6- جنفياف شوفيل: صلاح الدين بطل الإسلام، ترجمة جورج أبي صالح، دار الأميرة، بيروت، 1992 م.

7- ابن خلّكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عبّاس، دار الثقافة، بيروت، 1968 م.

8- ستانلي لين بول: صلاح الدين وسقوط مملكة القدس، ترجمة فاروق سعد أبو جابر، وكالة الأهرام، القاهرة، 1995 م.

9- الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الحركة الصليبية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1982 م.

10- أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين، تحقيق أحمد البيسومي، وزارة الثقافة، دمشق، 1991 م.

11- الفتح بن علي البنداري: سنا البرق الشامي، تحقيق فتحية النبراوي، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1979 م.

12- فوشيه الشارتري: الوجود الصليبي في الشرق العربي، ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1993 م.

13- المرتضى الزبيدي: ترويح القلوب في مناقب بني أيوب، تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجّد، دمشق، 1969.

14- المقريزي: الخطط، تحقيق الدكتور محمد زينهم، مديحة الشرقاوي، مكتبة مدبولي، 1998 م.

وإلى اللقاء في الحلقة الثالثة والعشرين.

د. أحمد الخليل في 16 – 8 – 2006

شارك هذه المقالة على المنصات التالية