د. أحمد الخليل
آباء وأبناء
يقول المثل القديم: ” إذا وقع البعير كثرت السكاكين“.
ويصحّ هذا المثل في الملك الميدي أستياگ (أستياجس)، فبعد أن خسر الرجل الحرب ضد حفيده من ابنته كورش الأخميني، وبعد أن خسر المملكة والعرش والصولجان، صار هدفاً يُرمى:
– تارة صار هدفاً يُرمى من قِبل الحكّام الأخمين خاصة والحكّام الفرس عامة، إذ صوّروه للأجيال الغرب آسيوية على أنه كان طاغية، وأنه (أژدهاك) الذي كان يأمر كل يوم بقتل شابين، ليُسكت بمخيهما أذى الحيّتين النابتتين على كتفيه، وكان الهدف من ذلك تبرير عدالة إسقاطه، والاستئثار بالإمبراطورية.
– وتارة صار هدفاً يُرمى من قِبل الزعماء الميد الذين نافسوه وحقدوا عليه، وجرّهم حقدهم ذاك إلى التعاون الوثيق مع كورش، والتآمر على الملك والمملكة ومصير الأجيال الميدية، وإن القائد العام للجيش الميدي هارپاك أبرز مثال على ذلك، وأحسب أن هؤلاء ما كانوا يقلّون عن الأخمين نشاطاً في تشويه سيرة الملك الميدي، وما كانوا أقلّ سروراً من الأخمين بسقوطه.
– وتارة كان هدفاً يُرمى من قِبل المؤرخين الذين قارنوه بأبيه كَيخسرو، وبجده خَشْتريت (فراوريس)، وبجده الأكبر دياكو، فوجدوا الفرق شاسعاً؛ أولئك كانوا رجال العزم والحزم وميادين المعارك، رجال القيادة والسياسة بجدارة، رجال التأسيس والبناء، أما هو فكان رجل الدَّعة والترف، رجل القصور، رجل الغفلة والسياسات الحمقاء، فعدّوه تصريحاً وتلميحاً المسؤول الأول عن انتقال الإمبراطورية الميدية إلى القبضة الفارسية على طبق من ذهب.
وصحيح أن أستياگ لم يكن في مستوى أبيه وجدّيه فطنة وهمّة، لكن مع ذلك ليس من الموضوعية أن نحمّل الرجل وحده جميع ما نزل بالدولة الميدية من سقوط وتفكك، وما حاق بالمجتمع الميدي من ضعف وتشرذم، وما حلّ بالمستقبل الميدي من نكد وظلمة وضياع؛ إذ لا ريب في أن زعماء ميد آخرين، مثل القائد العام للجيش هارپاگ، كانوا يماثلون أستياگ في رؤيته ونهجه وسلوكه، لكن أستياگ كان العنصر الأكثر تأثيراً في إيصال التفاعلات الداخلية والخارجية إلى ذلك المستوى المأساوي.
والخلاصة أن الآباء أكلوا الحصرم، وكان على الأبناء أن يضرسوا، وكان سميرديس (گوماتا) وأخوه پيرتزيثيس من أوائل الأبناء الميديين الذي ضرسوا، وها نحن نتناول سيرة ميدي آخر أكل آباؤه الحصرم، وكان عليه أن يضرس.
إنه الثائر فراروت الميدي.
فماذا عنه وعن ثورته؟
منطق التاريخ
وسبق أن ذكرت ضرورة قراءة التاريخ بحذر، وعلى نحو واقعي شفّاف، ووفق آليات بحثية علمية، وبذهنية موضوعية حازمة، كما ذكرت ضرورة عدم الوقوع في شَرك النوايا المبيّتة، وعدم الانسياق مع تيّار التفسيرات الخرافية، أو الانجرار إلى التأويلات المغرضة، ولا سيما إذا كان الطرف الآخر هو الذي دوّن ذلك التاريخ، أو روّج له، أو حرّفه وزوّره، وأجد في نفسي الشجاعة الكافية لأن أذكر ذلك مرة أخرى، من غير أن أتهم نفسي بالميل إلى الثرثرة، وفي هذا الإطار تحديداً أمنح الحق لنفسي بأن أعيد النظر في الروايات التي حيكت حول سقوط الإمبراطورية الميدية على أيدي الفرس الأخمين، وبخاصة تلك الروايات الأسطورية التي نُسجت حول ظروف سقوط الملك الميدي أستياگ، وانتصار الزعيم الأخميني كورش.
والمسألة في اعتقادي، وحسبما يقبله منطق التاريخ، لا تعدو كونها مسألة صراع قومي بين شعبين جارين، ينتميان إلى أرومة عرقية واحدة هما (الفرس والميد):
- أما الشعب الفارسي فوجد نفسه محكوماً من قبل حكومة شعب جار (الميد)، وأبت عليه عزته القبلية/القومية أن يرضى بذلك الحكم، وأن يطأطئ رأسه لسيطرة أناس غرباء عنه، فانتظر الفرصة المناسبة لكي يتحرر، ويستقلّ بحكم نفسه، ويكون سيّد قراره وأرضه، وكان بحاجة إلى زعيم تاريخي يقود مسيرة شعبه نحو الحرية والاستقلال، زعيم يجمع بين الشجاعة والذكاء والدهاء والمرونة والحزم، ويمتلك القدرة على أن يلملم شتات أبناء شعبه، ويوحّد صفوفهم، ويوجّه جهودهم نحو هدف واحد، وكان ذلك الزعيم هو كورش (قورش) الثاني بن قمبيز الأول.
- وأما الشعب الميدي فوجد نفسه، بفضل زعماء كبار (دياكو، خَشتريت، كَيْخسرو)، يتحوّل من قبائل متفرقة متنازعة، تعاني من الغزو السكيثي والقهر الآشوري، إلى صاحب دولة قوية تقارع الإمبراطورية الآشورية، وتسقطها، وتحلّ محلها، ويصبح من أبرز سادات غربي آسيا، ويحكم الشعوب المجاورة له، ويتمتع بما يجبيه حكامه من أموال الضرائب والجزية، لكن هذا الشعب ابتلي بحاكم جمع بين الاستبداد والطيش والغفلة، أقصد أستياگ، وبزعماء سيطرت عليهم الذهنية الأنانية، فتفرّق ما كان موحَّداً، وتشتّت ما كان ململَماً، وتهيّأ المناخ الاجتماعي والسياسي لنشوب المنازعات وتفاقم الانقسامات، داخل المجتمع الواحد.
وكان من الطبيعي، والحال هذه، أن يحقق الفرس أهدافهم في الحرية والاستقلال، وذلك حق لهم بكل تأكيد، لكن المشكلة أن كورش لم يكتف بتحرير شعبه، وإنما تحوّل من النقيض إلى النقيض؛ تحوّل من ثائر وطني إلى حاكم إمبراطوري، واستبدّت به شهوة الغزو، فاحتلّ مملكة بابل وتوابعها في سوريا الكبرى، وهذا ما لم يفعله الميديون، واحتلّ مملكة ليديا وبقية الدويلات في آسيا الصغرى، وهذا ما لم يفعله الميديون أيضاً، وفي الشرق غزا مملكة ماسّاجيتاي Massagetae (شرقي بحر قزوين)، فخسر الحرب هناك، ودفع حياته ثمناً لجشعه الغزوي، وذكر هيرودوت أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها أمرت تومايريس (ملكة شعب ماسّاجيتاي) بالبحث بين القتلى عن جثة كورش، فلما أتوا بها دفعت برأسه في قربة ملأتها بالدم، وصاحت بملء صوتها: هيّا اجرع من الدم ما يروي ظمأك. (هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ص 130).
ولم يكن قمبيز أقل جشعاً إلى الغزو من والده كورش، فقد احتل مصر، وطمح إلى احتلال إثيوبيا وشمالي إفريقيا، ثم جاء دور دارا الأول في الحكم، فكان أكثر طموحاً فتوحاتياً، حتى إنه عبر مضيق البوسفور، وغزا بلاد السكيث في شمالي البحر الأسود (أوكرانيا حالياً)، وتطلّع إلى غزو اليونان في عقر دارهم، واستكمل ابنه أحشويرش مشروع الغزو الإمبراطوري، فاحتل جيشه أثينا، وأحرق الأكروبول حيث (المجمع الديني الإغريقي المقدس).
اليقظـة
إن هذه النهم الأخميني الإمبراطوري يؤكد الورطة التي وجد فيها الميديون، وخاصة الزعماء، أنفسهم بعد أن تخلّوا عن ملكهم أستياگ، واصطفوا إلى جانب الزعيم الشاب كورش الأخميني، طمعاً في الخلاص من استبداد أستياگ وطيشه، وبما أن كورش قد تربّى في بلاط جده الميدي أستياگ، وتشرّب الثقافة الميدية، وعمل في المؤسسة العسكرية الميدية، وكان قائداً كبيراً فيها، فالأرجح أن الزعماء الميديين الكبار، من أمثال هارپاگ، كانوا على يقين من أنه سيُبقي على الدولة الميدية كما هي، ولن يزيح القادة الميد عن قمة هرم السلطة، ولن يجعل الدولة أخمينية فارسية شكلاً ومضموناً.
وإن عدم ورود الحديث عن ثورات ميدية في عهد كورش دليل على أنه كان يحكم باعتباره ملكاً ميدياً وليس فارسياً، وهذا هو السبب في أن ملكة ماسّاجيتاي وغيرها كانوا يخاطبونه في مراسلاتهم بلقب (ملك الميديين)، وهذا هو السبب أيضاً في أن الجيش الميدي، والقواد الميديين مثل مازاريس وهارپاگ، كانوا يقاتلون تحت إمرته بإخلاص، ويساهمون بفاعلية في غزواته.
لكن مع حكم قمبيز بن كورش تغيّرت الأمور، وانقلبت الدولة فصارت أخمينية فارسية، واستأثر الفرس بالمناصب العليا وبالثروة؛ الأمر الذي أيقظ القادة الميد من غفلتهم، وجعلهم يفتحون أعينهم على الحقيقة المُرّة، فحاول بعضهم، بقيادة الكاهنين سميردس (گوماتا) وأخيه پيرتزيثيس، القيام بانقلاب مضاد، واستعادة النفوذ الميدي، لكن دارا ورفاقه نفّذوا (وصية قمبيز) بالتصدي للميديين، وعدم السماح لهم بالعودة إلى السلطة، فأحبطوا المحاولة الانقلابية، وفتكوا بمدبّري الانقلاب، لا بل ارتكبوا مجزرة عامة بحق الميديين، لقطع الطريق على كل محاولة لعودة الدولة الميدية إلى الظهور.
ويقتضي منطق الأحداث أن يكون دارا ورفاقه قد قاموا بعمليات تطهير واسعة في أرجاء ميديا، وقضوا خلالها على كل ميدي تحدّثه نفسه بالخروج عن طاعة السلطة الأخمينية، ويقتضي منطق الأحداث أيضاً أن يكون دارا قد أرسى سياسات إدارية وعسكرية واقتصادية وثقافية، أتاحت للفرس أن يُحكموا قبضتهم على جميع المراكز والمؤسسات والمواقع الهامة في الدولة والمجتمع، وأدّت تلك السياسات، بطبيعة الحال، إلى تهميش العنصر الميدي رويداً رويداً، وزحزحته إلى الدرك الأسفل على جميع الأصعدة، وأدّت في النهاية، وخلال قرنين تقريباً، إلى تغييبه وطمس وجوده ليس عن الساحة الإقليمية فقط، بل عن الساحة العالمية أيضاً.
والدليل أننا لم نعد نجد ذكراً للميديين في العهد البارتي حوالي (250 ق.م- 226م)، ولا في العهد الساساني (226 – 651م)، وأُخرج الشعب الميدي من دائرة التحضر، فاضطر إلى أن ينكفئ على نفسه في الجبال، ويعيش كما كان في السابق مجرد شعب رعوي بدائي، واجبه تزويد خزانات الإمبراطوريات المتعاقبة على حكمه بالضرائب الباهظة، ورفد جيوشها بالمقاتلين البواسل وبالجياد، وأُلغي اسمه العالمي (ميد) الذي كان شائعاً، واختير له اسم جديد هو (كُرد)، لكن بدلالة رعوية بدائية، تنضح تخلّفاً، حتّى إن ملوك فارس كان أحدهم إذا أراد أن يحطّ من قدر الآخر أطلق عليه لقب (كردي) وخاطبه بقوله: (أيها المربّى في خيام الأكراد)؛ كما فعل الملك أَرْدوان في رسالته إلى أَرْدَشير بن بابك الساساني.
الانتفاضة
ويبدو أن الجيل الثاني من القيادات الميدية، بعد جيل الكاهنين سميرديس (گوماتا) وأخيه، كان أكثر تضرراً من السياسات الأخمينية، وأشد إحساساً بالقهر الفارسي، ومن هذا الجيل برز القائد الميدي الثائر فراورت (فرؤرت/فرورتيس/فراورتيش)، ولا توجد معلومات كافية حول شخصية هذا الزعيم، سوى أنه ميدي عريق الأصل، وكان من طبقة النبلاء التي تنتمي إلى الأسرة الميدية المالكة (أسرة دياكو)، وأنه كان يسمّي نفسه خشتريت (گشتريتي)، وهو الاسم الذي كان يسمّى به فراورت المؤسس الثاني للدولة الميدية، ودعونا نلق نظرة على أوضاع بلاد ميديا وفارس وسائر أجزاء الإمبراطورية الأخمينية؛ إبّان الانتفاضة التي قادها فراروت.
فصحيح أن دارا الأول أفلح في تشكيل قوة فارسية مناهضة للانقلاب الذي قاده الكاهن الميدي سميرديس (گوماتا) وأخوه پيرتزيثيس، وصحيح أنه ورفاقه اقتحموا القصر الملكي، وقتلوا الأخوين الميديين، وقضوا على الانقلاب، لكن لم يكن الميديون وحدهم الذين يتململون من وطأة الحكم الأخميني، وإنما كانت الشعوب المحتلة الأخرى تتطلّع إلى التحرر والخلاص من ذلك الحكم، ولذلك اندلعت انتفاضات عامة مع نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر وبداية شهر كانون الأول/ديسمبر سنة (522 ق.م).
ففي الجنوب ثار شعب عيلام بقيادة زعيم يدعى (أشين). وفي الشمال بدأت الثورة في أرمينيا. وفي الغرب ثار الشعب البابلي بقيادة زعيم يدعى (تي دين توبل)، وهو ابن نابونيد آخر ملوك بابل قبل الاحتلال الأخميني سنة (539 ق.م). وفي الشرق ثارت انتفاضة ضد السلطات الأخمينية في (مرغيانا)، وهي جزء من بلاد باكتريا (باختريا) في شرقي بحر قزوين، بقيادة زعيم يدعى (فرادا)، كما أن مصر وأجزاء أخرى من الإمبراطورية رفعت راية الثورة في نهاية سنة (522 ق.م). (دياكونوف: ميديا، ص 407 – 408).
وقد تكون ذاكرة بعض الأفراد منقوبة، لكن ذاكرة الشعوب لا تكون منقوبة أبداً، وكان من الطبيعي ألا يمرّ بطش القادة الفرس بالكاهنين سميرديس وأخيه دون إحداث النقمة عند الشعب الميدي عامة، وعند القادة الميد، أو على الأقل عند بعضهم، بوجه خاص، فالرجلان كانا من طبقة النبلاء، بل كانا كاهنين مرموقي المكانة في المؤسسة الدينية الميثرائية أو في سليلتها المؤسسة الزردشتية (الأمر غير واضح بدقةُ)، ولا ريب في أنه كان لهما أنصار، وإلا فكيف حكم سميرديس الإمبراطورية سبعة أشهر؟ والأرجح أن سميرديس استعان بالمتعاطفين معه من الميد، بل يقتضي منطق السياسة أن يكون قد عمل لتعيين الميديين في المناصب القيادية رويداً رويداً، تمهيداً لإزاحة العنصر الفارسي، وإحياء الدولة الميدية من جديد.
ولا شك في أن قادة الفرس كانوا يراقبون الموقف عن كثب، وأنهم أدركوا أن الدولة الميدية قادمة ثانية، وأنهم سيخسرون المكاسب التي حصلوا عليها في عهد كورش وقمبيز، وهذا الذي دفعهم إلى القيام بانقلاب مضاد، يقوده سبعة نبلاء فرس بقيادة دارا الأول، وعدم الاكتفاء بقتل الأخوين الكاهنين، وإنما الانتقام من الميديين على شكل إبادة جماعية، وما من شك في أن عمليات الانتقام الجماعي أثارت المزيد من الغضب في نفوس الميديين، وهيّأت المناخ النفسي المساعد على الانتفاضة، ويبدو أن النبلاء الميد كانوا يشاركون الجماهير غضبتهم، باعتبار أنهم الأكثر وعياً، والأدرى بخفايا الأمور، والأكثر تعرضاً لحملة الانتقام الفارسية.
وكان فراورت أحد النبلاء المنتسبين إلى السلالة الملكية، وكان من الطبيعي أن يلتفّ سائر النبلاء الميد حوله، فالذاكرة الميدية كانت ما تزال عامرة ببطولات وأمجاد دياكو وخشتريت وكيخسرو، وكان الميد يتوسّمون الخير في تلك السلالة التي صنعت من القبائل الميدية المتفرقة إمبراطورية عظمى، وانتهز فراورت انشغال دارا بقمع ثورة شعب بابل في الغرب، فقاد انتفاضة كبرى ضده، وقد ذكر ديانوكوف أن فراورت لم يكن قد حشد جماهير ميديا وحده وراءه، وإنما سانده المواطنون في بارتيا (شرقي بلاد فارس)، وفي هيركانيا (جنوبي بحر قزوين، وشمالي إيران حالياً)، وفي أرمينيا (دياكونوف: ميديا، ص 408)؛ وهذا دليل على أنه سلك نهج مؤسسي ميديا الأوائل في نسج علاقات الصداقة والتحالف مع الشعوب المجاورة المضطهَدة، والتحالف مع زعمائها للخلاص من السيطرة الفارسية.
وفي الوقت الذي قامت فيه ميديا بالانتفاضة اندلعت انتفاضة أخرى في الولايات الشرقية، وكان يقودها زعيم يسمّى (وهيزدانه)، ومثل سميرديس الميدي الذي سمّى نفسه برديا بن كورش الثاني، ولا نجد في المصادر معلومات دقيقة عن هذا الزعيم؛ ترى أهو فارسي أم أخميني؟ لكن دياكونوف أورد خبراً عن انتفاضتي (فراورت، وهيزدانه) يثير الانتباه، إنه قال: “كان الهدف من الانتفاضتين هو إحياء قانون برديا المزيّف (گوماتا)؛ القانون الذي قضى عليه نظام داريوش الأول ” (دياكونوف: ميديا، ص 407).
والمقصود بـ (قانون گوماتا) هو القرار الذي أصدره سميرديس الميدي (گوماتا) حينما تولّى السلطة، وكان ذلك القرار يقضي بإعفاء جميع ولايات الإمبراطورية من الخدمة الإجبارية في الجيش مدة ثلاث سنوات، وبإعفائها من ضريبة رؤوس المواشي المفروضة سابقاً ( دياكونوف: ميديا، ص 400). والأرجح أن وهيزدانه كان من القبائل الميدية في الولايات الشرقية، أو أنه كان من القبائل الآريانية غير الفارسية، وإلا لو كان فارسياً لما وقف مع فراورت ضد السلطة الفارسية بقيادة دارا.
السقوط
وتفاقمت الانتفاضتان: انتفاضة فراورت في ميديا، وانتفاضة (وهيزدانه) في الولايات الشرقية، وتحوّلتا إلى ثورتين جماهيريتين عارمتين، وقد جاء في نقش بهيستون أن المواطنين الثوار في المجتمع التحقوا بفراورت ( دياكونوف: ميديا، ص 407 – 408). لكن الملك دارا لم يكن بالرجل السهل، إنه كان زعيماً يتصف بمزايا قيادية عالية، أبرزها البسالة والذكاء والدهاء والحزم، ولا ننس أنه هو الذي شكّل الفريق الفارسي المناهض للانقلاب الذي باشره سميرديس الميدي، وهو الذي قاد النبلاء الفرس الستة الآخرين لاقتحام القصر الملكي، والفتك بالأخوين الميديين.
وقد تصرّف دارا بحنكة، فوجّه جيشاً إلى أرمينيا تحت لواء القائد الأرمني (دادرشيش)، ووجّه جيشاً ثانياً، بقيادة ” أقرب أصدقائه (ويدارنا)“- حسبما يقول ديانوكوف- إلى ميديا لمقاتلة فراورت، ولا ندري شيئاً عن هوية ويدرانا؛ هل هو فارسي أم ميدي؟ إذ كان في جيش دارا نفسه قوّاد ومقاتلون ميديون، ومهما يكن فإن اختيار دارا أقرب أصدقائه لقيادة الحرب ضد ثورة فراورت دليل على أن جبهة ميديا كانت الأكثر خطراً على السلطة الفارسية ( دياكونوف: ميديا، ص 409).
وتوجّه ويدرانا بجيشه إلى ميديا، واشتبك، بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير سنة (521 ق.م)، في محاربة جيش ميدي كان يقوده أحد قادة فراورت، وقد دارت المعركة في غربي ميديا، لكنه لم يحقق النصر، وأدرك أن جيشه عاجز عن القضاء على الثورة، فانتظر وصول تعزيزات عسكرية من دارا. ومعروف في العلوم العسكرية أنه بقدر ما يتشتّت جيش العدو بقدر ما يصبح عرضة للهزيمة، ولم تكن هذه الحقيقة غائبة عن دارا، إذ تفصح سيرته العسكرية أنه كان قائداً حربياً ستراتيجياً على صعيد التخطيط والتنفيذ، وقد لجأ إلى تكتيك (التشتيت) في حربه ضد فراورت، وكان قد عيّن والده هيشتاسب (ويستاسب) حاكماً على بارتيا المتاخمة لميديا شرقاً، وكان من الطبيعي أن يفتح والده جبهة حربية هناك، وأن يشتبك مع القوات الميدية الثائرة، وكان ذلك في آذار/مارس سنة (521 ق.م)، وعلّق دياكونوف على ذلك بقوله: ” كان على فراورتيش مضطراً أن يحارب في جبهتين حربيتين” (دياكونوف: ميديا، ص 409).
وفي شهر نيسان/أبريل من سنة (521 ق.م) انتهى دارا من حسم المعارك في بابل، والسيطرة على الموقف، فاتجه بجيشه إلى ميديا، وفي الوقت نفسه أرسل قسماً من جيشه الخاص المكوّن من الفرس والميديين لمحاربة وهيزدانه وقواته في باكتريا، وحوالي شهر شباط/فبراير سنة (521 ق.م) أُلقي القبض على قائد جيش وهيزدانه، واستسلم وهيزدانه نفسه في شهر حزيران، وصار بإمكان دارا توجيه القوة الضاربة في جيشه لمواجهة قوات فراورت في (كوندورو) Kunduru على الأراضي الميدية (دياكونوف: ميديا، ص 409).
وهكذا أصبح فروارت بين فكّي كمّاشة، جيش دارا من الغرب، وجيش هيشتاسب من الشرق، يقول دياكونوف: ” أخفق فرورتيش في هذه المعارك، وتسلّل مع عدد قليل من فرسانه إلى منطقة رِغَه (رَيْ)، في الطرف الآخر من حدود بلاده ميديا، وكان يأمل في مساعدة هيركانيا وبارت له كثيراً ” (دياكونوف: ميديا، ص 410).
وأطلّ شهر حزيران/ يونيو من سنة (521 ق.م) ودارا ما يزال عاجزاً عن إخماد نار الثورة في ميديا؛ إذ في ذلك الوقت كان القائدان (وافوميسارا) و(دادرشيش) ما يزالان يحاربان في جبهة أرمينيا، للقضاء على الثورة هناك، ولقطع الإمدادات التي يمكن أن تصل إلى الميديين من أرمينيا، واضطرّ دارا إلى تجهيز جيش قوي آخر، وتوجيهه للزحف على ميديا، لمساندة قواته السابقة، وكان يعلم أن لجوء قيادة الثورة الميدية بزعامة فراورت إلى بارتيا وهيركانيا، وبقائها بسلام هناك، يعني أن الثورة ستظل مشتعلة، لذلك قرر ضرب قيادة الثورة نفسها، فكلّف مجموعة من القوات الخاصة لتعقّب فراورت ورفاقه.
وذكر ديانوكوف أن: ” مجموعة من المحاربين الذين أرسلهم داريوش إلى رغه استطاعوا إلقاء القبض على فرورتيش في نهاية شهر زوئين، ثم بثّ داريوش الأول مجموعة إلى رغه (رَيْ) [مدينة قديمة تقع آثارها قرب طهران] لنجدة والده هستاسب، وفي معركة (باتي كيان) في أرض البارت من يوم 12 زوئيه، سنة 521 ق.م، قضت هذه المجموعة على الحلفاء والمساعدين لفرورتيش هناك” (دياكونوف: ميديا، ص 410).
وكتب ديانوكوف معلّقاً: “ إن فرورتيش صمد مدة طويلة، سبعة أشهر أكثر من غوماتا، وقاوم في محيط مملكته جيش درايوش، لكنه أخفق في الأخير” ( دياكونوف: ميديا، ص 410).
وبعد أن خسر فراورت الحرب كيف كانت نهايته؟
لندع دار نفسه يحدّثنا عند ذلك، من خلال سرد أمجاده التي أمر بنقشها على حجر بهيستون، فقد جاء في ذلك النقش على لسان دارا: “فرورتيش أََلقوا القبض عليه، وجلبوه عندي، أنا قطعت أنفه وأذنيه ولسانه، وفقأت عينيه، وربطوه بالقيود في بلاطي، كي يراه جميع المواطنين الأحرار، عند ذلك أمرت أن يرموه بالسهام في إكباتانا، والذين كانوا يؤيدونه من البداية أعدمتهم في إكباتانا داخل القلعة” (دياكونوف: ميديا، ص 410).
إنه النهج الانتقامي الباطش ذاته الذي كان حكّام آشور ينهجونه، والغرض من هذا النهج الوحشي في معاقبة قادة الانتفاضات معروف؛ إنه إلغاء إرادة التحرر، وإرهاب كل من تحدّثه نفسه بالوقوف في وجه الاحتلال والقمع والعسف، وترويض الشعوب على الخضوع التام من خلال تجريدها من زعمائها الذي يتمثّلون روحها، ويقودونها في مسيرة التحرر، ومع ذلك لم يخضع بعض قادة ميديا، ولم يرهبهم الانتقام الوحشي الذي تعرض له فراورت، قال دياكونوف:
” مع هذا لم تنته ثورة ميديا عند هذا الحد، إن قبيلة الساگارتيين لم تسلّم نفسها بعد، ورجلٌ آخر من ضمن هذه القبيلة أعلن نفسه ملكاً، وقال إنه من نبلاء عائلة كياكسار، وكان اسمه جيتران تخمه” ( دياكونوف: ميديا، ص 410).
وكي يخمد دارا هذه الثورة الجديدة لجأ إلى أسلوب ضربها من الداخل، وهو أسلوب أشارت إليه الحكمة الشعبية الكردية في المثل القائل: “Kormî daré ne ji daré be dar nakeve ” (ما لم يكن دود الشجرة من الشجرة نفسها فالشجرة لا تنهار)، إن دارا لجأ إلى شراء ذمم عدد من النبلاء الميد، (هؤلاء كانوا موجودين مع كل ثورة كردية طوال التاريخ)، ووعدهم ببعض الامتيازات والمكافآت إذا ساعدوه في القضاء على ثورة جيتران تخمه.
ومعروف أن اللعاب الأناني الانتهازي سرعان ما يسيل بغزارة أمام المناصب والأموال، وهكذا كان لعاب أولئك النبلاء الميد، فوعدوا دارا بالوقوف إلى جانبه ضد أبناء شعبهم، وليتهم اكتفوا بذلك، بل إن أحدهم، ويدعى (نهما سباداي) هو الذي قاد الجيش الفارسي إلى ميديا، وقضى على الثورة، أما جيتران تخمه نفسه فأُلقي القبض عليه في أربيل، ووُضع تحت وابل من السهام، وقُتل عقاباً له على قيادة الثورة.
المراجع
- دياكونوف: ميديا، ترجمة وهبية شوكت، رام للطباعة والنشر، دمشق.
- هيرودوت: تاريخ هيرودوت، ترجمة عبد الإله الملاح، المجمّع الثقافي، أبو ظبي، 2001م.
وإلى اللقاء في الحلقة الواحدة والخمسين.
د. أحمد الخليل في 15 – 1 – 2008
الآراء الواردة في المقالات لا تعكس بالضرورة رأي صحيفة كورد أونلاين
رابط مختصر للمقالة: https://kurd.ws/?p=35441