الخميس, ديسمبر 26, 2024

ومضات من تاريخ الكرد في دير الزور ـ4

برادوست ميتاني

“الناحية الاجتماعية”

بتقادم الزمن تحول هذا الموقع التاريخي عبر تعاقب الحضارات إلى مدينة وقد شهدت بنياناً وتوسعاً كبيراً، وخاصة مع بدايات منتصف القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ولأسباب عديدة منها الموقع التجاري الذي يشغل وسط الحركة التجارية للمنطقة بين العراق وسوريا ولبنان، حيث الموانئ البحرية، وكذلك وجود نهر الفرات الذي تقع عليه المدينة بالإضافة إلى ظاهرة الاستقرار التي حدثت مع قبائل البادية، وخاصة هجرة عشائر الشمر والعقيدات والجبور من شبه الجزيرة العربية مروراً ببادية الشام والعراق وغيرها، وكذلك هجرة السكان من الريف التي تزايدت من المناطق المجاورة للمدينة إليها حيث ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بالجفاف الشديد في أواخر الخمسينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وكان أغلبهم يبحثون عن وظائف في مؤسسات الدولة. ناهيك عن ارتفاع معدل الولادات. فقد بلغ عدد سكانها في العام 1910 إلى ما يقارب (15.000) نسمة، وفي العامين (1915-1916) إلى ما يقارب (20-25) ألف نسمة. (بإحصائيات حديثة يناهز عدد سكان المدينة 500 ألف نسمة ومع ريفها 1600000 نسمة).
لقد شهدت المدينة حالة استثنائية للهجرة وهي الهجرة القسرية الأرمنية من ولايات الأناضول الشرقية بسبب الهرب من مجازر السيفو، التي ارتكبها العثمانيون بحق الأخوة المسيحيين. قامت إدارة ولاية حلب في العام 1915 بتوزيع اللاجئين الأرمن، الذين تدفقوا إليها على مدينة حماة والهسكه (الحسكة) ودير الزور. كانت مدينة درزور (دير الزور) مكاناً مفضلاَ للمهاجرين الأرمن بسبب ضمان الكردي علي سواد بك ”متصرف المدينة حياتهم، وقيامه بتوفير ظروف سليمة لإقامتهم، وخلال أربعة شهور، ضمن هذا المتصرف الكردي أمان المهجرين، وكان يقوم بمعاقبة البدو بشدة عندما يعتدون على المهاجرين الأرمن، وكان المهاجرون الأرمن يستلمون إعاناتٍ مالية، والأمانات المرسلة إليهم بوساطة البريد، وقد بنى لهم ذلك المتصرف مشفى عسكرياً، صممه مهندسون وبناؤون أرمن، وتحول تجمعهم  في المدينة إلى حي نشط بنيت فيه الأفران، وأنشئ فيه سوق صغير يعمل فيه عمال مهرة، وأطلق الأرمن الذين بنوا حياً خاصاً بهم تسمية “السوادية” على حيهم تكريماً لعلي سواد بك. وقد عاش في المدينة إلى جانب الكرد المسلمين العرب الأرمن وغيرهم، كما يعيش في المدينة مجموعة من الكرد الدروز، ومجموعة من الأشوريين أو السريان (1).
الملامح الكردية في المدينة
بات واضحاً وبناءً على مصادر متعددة بأن تعريب مدينة دير الزور ومناطقها حدث بدأ منذ القرن التاسع عشر بهجرة القبائل العربية كما ذكرناه أنفاً وقد كانت دير الزور تقع ضمن خارطة إيالة كردستان، التي تعود إلى العهد العثماني المحتل، وقد اشتد التعريب أبان جلب الإنكليز والفرنسيين فيصل بن الحسين 1918م من شبه الجزيرة العربية ووضعه ملكاً على سوريا، الذي أرسل في نهاية عام 1918م الأمير ناصر علي بن ناصر إلى دير الزور، على رأس فرقة غير نظامية من البغالة والهجانة والتقى بالعشائر العربية فيها، ونال مبايعة تلك العشائر للشريف حسين وعين مرعي باشا الملاح أول متصرف عربي على لواء دير الزور، الذي قام بإبطال الحكومة المحلية (2).
مع الأسف تحاول المراجع العنصرية خاصة المتأثرة بسياسة الأنظمة المستبدة كتم تاريخ الوجود الكردي في المدينة، ويـأتون بأفكار مبهمة بحقهم مثال على ذلك يقولون: إن سكاناً غير معروفين سكنوا مضيق حلبية قبل الآراميين بقرون وقد بينا بمراجع في الحلقات الفائتة صلة الكرد ثقافيا. كما أن بعضهم يقزمون دور الشعوب فيها وعلى رأسهم الكرد ويقولون دير الزور ذات الغالبية العربية مع القليل من العوائل الكردية والمسيحية.
لعائلة النقشبندي الكردية -التي قال لي أحد كبارها بلسانه إننا كرد- وجود ودور قوي في المدينة وخاصة من الناحية الدينية ولهم تكايا ومساجد ما زالت موجودة في المدينة وتحمل اسمهم بالإضافة إلى دورهم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما أن الكرد أثروا  في عادات وتقاليد سكان المدينة منها اسم مادة  الحنة واسم هبرية يشمر أي دسمال والكراس وخفتان (الثوب والقفتان) وربط أوجك وحلويات كليجة في المناسبات والمثل القائل  هرا ورا (أي اذهب وتعال) ومقشرة الحبوب دنكة، والتي ما زالت تحمل عندهم اسم  دنكة (3) أي مكان الدان والدان في اللغة الكردية هي حب القمح  المقشور النيء، وأيضاً التنور والبُقجة أي بخجك ولعبة “هفاك” للصغار، هذا ماعدا العادات المشتركة في المأكل والمشرب والمصاهرة، لأن العديد منهم يبينون صلتهم بالكرد، وخاصة من خلال الأجداد منهم من يقول أن جدتي أو والدتي كردية، ومنهم من يقول أن أحد أجدادي كردي والأثر في هذا تم خلال انخراط السكان مع الكرد وخاصة أبناء العشائر الكردية كعشيرة ملان. أما اسم حلبية فمثلها أسماء شبيهة في الكردية كحلبجة، وكذلك اسم حلب التي في تاريخها تسمى على يد الخوريين والهيتيين أسلاف الكرد بـ “خلب” أما اسم دير الزور فقد بيننا اسمها التاريخي درة زور ووضحناه في الحلقات السابقة.
بسبب قساوة مناخ دير الزور وامتداد الصحراء إليها من جهة وهجمات ونزاعات العشائر العربية تمدد بعض كرد المدينة نحو الشمال حيث مدن روج آفا، وقد جاء ذلك لصالح الوجود العربي في المدينة وازدياد نسبتهم السكانية فيها إذا ما قارناه بوجود الشعوب الأخرى كالكرد والسريان وغيرهما.
العشائر العربية وصلتها بالأصل الكردي
“بافي خورشيد” أحد الأخوة العارفين بالتاريخ الكردي وتاريخ المنطقة وعشائرها وقبائلها في حديث مصور في منتدى ميتاني قال: “الكثير من أفخاذ العشائر العربية كرد”، -وهو يتحدث عن زيارته بعد تحرير الباغوز وضيافته في قرية صبحة القريبة من البصيرة شرقي دير الزور القريبة من بوغاز-قلت لهم: إن قرية “برشم” هي برجم الكردية وفي ذلك قد أثرت على قناعة البعض منهم وقد سمعت قبل ذلك بأن عشيرة  gera(أو قرا) العربية هي عشيرة بادينا الكردية.
كذلك أحد الأخوة العرب من “الموصل” قال: إن لهم أقرباء في منطقة عامودا. قلت له تقصد عائلة “حجي سعدون” في منطقة حجي سعدون قال نعم. قلت له حسناً فمن أنتم. قال لي أنهم من عشيرة gera . وهم بادينيون.
وهذا مثال واحد وهناك عشرات الأمثلة لعائلات تنسب لقبائل عربية وهي كردية في الأصل، وعلى سبيل المثال لا الحصر” كالكلاعين، والعبد الحميد في الكريا، والعكيدات”. “من محادثات في زيارات ودية للمنطقة”.
دير الزور حالياً
بالرغم من جود العوائل وبقايا العشائر الكردية في المدينة واعترافهم بكرديتهم لكنهم لم يتمكنوا من الحفاظ على لغتهم؛ وذلك لتزايد العنصر العربي القادم إلى المدينة من جهة، وسياسة الأنظمة المتعاقبة المتناغمة مع فرض الثقافة العربية من جهة أخرى.
بقدوم عام 2011م وما طرأ على الوضع السوري من تغيير وتلاطم  الأحداث احتلت داعش قسماً كبيرا من المدينة وخاصة القسم الشرقي، ولم يتمكن النظام ولا ما يسمى بالمعارضة من تحريرها وإعادة الأمن والاستقرار إليها، ولكن قوات سوريا الديمقراطية التي بنيتها العسكرية مكونة من مختلف الشعوب السورية، وانتهاجها أخوة الشعوب، التي حاز فيها الكرد والعرب على مكانتهم الطبيعية قادت حرباً تحررية وطنية بامتياز، وبمساعدة قوات التحالف الدولي ونجحت بتضحيات كبيرة من تحريرها، الذي انتهى بتحرير هجين والباغوز وسواها، وكسر شوكة داعش وطرده ولكن النظام ومعه الروس والإيرانيون في الميادين والبوكمال وغربي الفرات شكلوا فصائل باسم القبائل العربية، وبين الفينة والأخرى يهاجمون قرى شرق سوريا؛ للسيطرة عليها وتحدث قلاقل تتسبب في ذلك إراقة دماء السوريين، ومع الأسف يقود تلك الفصائل المدعومة من الأطراف، بعض من العشائر والشخصيات العربية المعروفة ولا حاجة لذكرها.
“من كتاب الوجيز من الوجود الكردي في سوريا منذ فجر التاريخ”
المراجع:
1-دراسة تاريخية بعنوان هوية وتاريخ مدينة درزور (دير الزور) على شكل حلقات في صوت كردستان منها مقالة للمؤرخ بيار روباري.
2- صفحة أ. مؤنس بخاري19-7-2023م بحث بعنوان مذابح تيمورلنك إلى قيادة حرب العثمانية على الصفويين إلى سنجق الزور البريطاني.
3-الفنان التشكيلي إ. محمد غناش – كتاب الفن والموروث الشعبي في منطقة الفرات.

​المصدر: صحيفة روناهي

 

شارك هذه المقالة على المنصات التالية