الساحل السوري.. مشهد سياسي غير متوازن ومعطيات ضبابية

تشكل التطورات الأخيرة في الساحل السوري انعكاساً مباشراً لتعقيدات الملف السوري وتشابك عناوينه في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد. فعلى مدار أيام، شهدت قرى وبلدات الساحل أحداث عنف دموية، تسلط الضوء على الحاجة الملحة لتطبيق العدالة الانتقالية وتكريس مفاهيم السلم الأهلي والمصالحة المجتمعية. وقد لعب النظام السابق دوراً محورياً في تعميق الانقسام المجتمعي، ما أثّر بشكل بالغ على استقرار المجتمع السوري وتماسكه.

وفي ظل هذا الواقع، تبدو الأزمة التي تعصف بالساحل مرآةً لحالة اللا يقين التي تحيط بمستقبل سوريا الجديدة. فالمشاهد الصادمة التي تناقلتها وسائل الإعلام أثارت صدمة محلية ودولية، وطرحت تحديات جمة أمام الإدارة السورية الجديدة، لا سيما في ما يتعلق بملفات العدالة الانتقالية، ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة، وبناء منظومة قانونية تحفظ حقوق المواطنين.

روايات متضاربة ومشهد سياسي مرتبك

في أعقاب الأحداث، برزت روايات متناقضة حول الجهة المسؤولة عن التصعيد، وسط تبادل للاتهامات بين أطراف متعددة. بين الحديث عن اقتتال فصائلي، وظهور مصطلح “فلول النظام”، والدور الإيراني المحتمل في قلب موازين المشهد السوري، تبرز صورة سياسية غير مستقرة.

ورغم تعدد الروايات، يجمع مراقبون كثر على أن ما حدث هو نتيجة طبيعية لحالة الانفلات الأمني وتفكك المنظومة الأمنية، حيث تسيطر فصائل ذات طابع جهادي على المشهد، مقابل ضعف واضح في أداء القوى الأمنية الرسمية. ويكشف هذا الواقع عن حجم التحديات التي تواجهها سوريا في طريقها نحو نظام ديمقراطي تعددي ولا مركزي.

إشكالية أمنية معقدة

يُشير الناشط السياسي من اللاذقية، سامر شاهين، إلى أن أحداث الساحل السوري “تُمثل إشكالية أمنية عميقة تتعلق بطبيعة العلاقة بين الإدارة الجديدة وبين الفصائل التي لا تنضوي ضمن إطار عسكري مُنظم، وهذا ما يضع مستقبل سوريا والسوريين على المحك”. ويشدد على “ضرورة الإسراع بتشكيل قوات أمنية وعسكرية تُمثل درعاً لحماية السوريين والمكونات على وجه التحديد”.

ويُضيف شاهين: “القاعدة السابقة وتكريسها في تطورات الساحل، منحت حرية التصرف خارج القانون للكثير من الفصائل، وهذا يُبعدها عن المحاسبة الحقيقة، خاصة أن الكثير من الفيديوهات وثقت أشخاصاً قاموا بارتكاب الكثير من عمليات القتل، وبالتالي ثمة دلائل واضحة تُدين هؤلاء”. ويطالب بـ”إعادة هيكلة هذه الفصائل وضمها ‘بالقوة إن اقتضى الأمر’ إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية”، محذراً من أن استمرار العنف سيُفرغ مفاهيم المصالحة من مضمونها ويحوّلها إلى شعارات جوفاء.

ويختم سامر شاهين بالتأكيد أن “حالة التصعيد المستمرة في عموم مناطق الساحل السوري تفرض تحديات جوهرية على الإدارة الجديدة”، داعياً إلى “تقديم نموذج رشيد للسلطة، بعيداً عن المعالجات الأمنية العنيفة التي أثبتت فشلها”. ويرى أن “ما شهده الساحل السوري يرقى إلى أن يكون نتيجة لغياب استراتيجية واضحة لإدارة الأزمة”، مشدداً على أن “أي تجاوز من فلول النظام لا يُبرر ما حدث”، وأن المعالجة “يجب أن تكون تحت سقف القانون وبمنطق الدولة الحديثة”.

لجنة تحقيق… ولكن؟

أعلنت الرئاسة السورية تشكيل لجنة تحقيق في أحداث الساحل، في خطوة أثارت ردود فعل متباينة في الشارع السوري. فبينما اعتبرها البعض خطوة ضرورية لكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، رأى آخرون أن هذه اللجان ليست سوى محاولة لاحتواء الغضب الشعبي والدولي، خاصة أن “غالبية المشاهد التي وثقت تفضح صراحة المسؤولين عنها”.

ويقول المحامي عبدالله أسعد من مدينة جبلة: “إن عمل اللجنة وتحقيقاتها لن تكون كافية لتحقيق العدالة، لأن ما يهم السوريين يتخطى بيانات اللجنة وتقاذف الإتهامات، وما يهم أيضاً وجود إرادة حقيقية لتحقيق العدالة الانتقالية، والسير بالسوريين نحو الأمان ودولة الديمقراطية والتعددية”.

ويضيف عبدالله: “نشكر الإدارة السورية الجديدة على تشكيل هذه اللجنة، لكن المشكلة ليست فقط في تشكيل لجان تحقيق، بل يجب أن تكون هناك جدية حقيقية في التحقيقات ومن ثم الوصول إلى المسؤولين الحقيقيين ومحاسبتهم وفق القانون”. ويُحذر من تكرار سيناريوهات لجان التحقيق في عهد النظام السابق، التي كثيراً ما وُصفت بأنها “آداة لامتصاص الغضب الدولي وتخدير وعي السوريين”.

ويشدد في ختام حديثه على أن “غياب العدالة سيُبقي باب الصراع مفتوحاً، ويُشرعن التجاوزات، ويُعد عقبة رئيسية أمام الوصول إلى سوريا ديمقراطية مسارها الصحيح هو القانون والعدالة وحفظ الحقوق”.

يدرك السوريون جيداً أن ما جرى في الساحل هو نتيجة مباشرة للسياسات الطائفية والإقصائية التي انتهجها النظام السابق، غير أن هذا الإدراك لا يُبرر بأي حال من الأحوال تكرار العنف أو استخدامه كوسيلة لمعالجة الأزمات.

الحل الحقيقي يبدأ ببناء دولة المواطنة والقانون، وتفعيل مسار المصالحة الوطنية دون تأخير، بما يضمن تحييد المشاهد الطائفية مستقبلاً. كما أن السوريين في هذه المرحلة الانتقالية أحوج ما يكونون إلى مشروع وطني شامل يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع، ويحفظ حقوق الجميع، لا سيما الأقليات.

إن قيام دولة ديمقراطية تعددية لا مركزية هو السبيل الوحيد لتحقيق الاستقرار المستدام، وصون كرامة السوريين، وبناء وطن يليق بتضحياتهم.

معن الجبلاوي- اللاذقية

المصدر: مجلس سوريا الديمقراطية “مسد”