الأربعاء 18 حزيران 2025

العلمانية: من تراثنا المهمل إلى معركتنا المؤدلجة

عبدو اللهبي

في زمن تتداخل فيه المفاهيم وتُختزل القضايا الكبرى في شعارات متنافرة، تصبح العلمانية – بما هي إطار عقلاني لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة – موضوعًا لصراع أيديولوجي محتدم، بدلًا من أن تكون فضاءً حياديًا يتيح لمختلف الأطراف العمل معًا لمواجهة مشكلات المجتمع، من فساد السلطة إلى استغلال الدين، ومن انحسار الحريات إلى تعثّر العدالة الاجتماعية.
لقد تحولت العلمانية في المخيال الجمعي العربي، بفعل عوامل متعددة، إلى مرادف للكفر أو العداء للدين. وساهم في هذا التشويه خطابان متوازيان، أحدهما متشدد ديني يرى في العلمانية تهديدًا لسلطته الرمزية، والآخر علماني متطرف تبنّى خطابًا عدائيًا تجاه التراث الإسلامي، وكأنه لم يكن يومًا جزءًا من سيرورة العقل والتاريخ العربي.
ولعل من المفارقات المؤلمة أن كثيرًا من المفكرين العرب العلمانيين – أمثال أدونيس وصادق جلال العظم وغيرهم
ممكن أكن لهم إحتراماً كبيراً.. – ساهموا، ربما عن غير قصد، في تعميق هذا الانفصال. إذ قدّم بعضهم العلمانية كبديل جذري عن الدين، لا كإطار تنظيمي يضمن حرية العقيدة ويحمي الدين من التوظيف السياسي. تم تصويرها على أنها “قوة نقيضة”، بينما جوهرها التاريخي والفلسفي أبعد ما يكون عن ذلك
إنّ القول بأن العلمانية دخيلة على الثقافة العربية، أو أنها فكرة مستوردة بالكامل من الغرب، ينمّ عن قراءة انتقائية للتاريخ، بل عن تجاهل للثراء الفلسفي والروحي في التراث الإسلامي ذاته.
منذ القرن الرابع الهجري، قدّمت إخوان الصفا – تلك الجماعة الفكرية التي مزجت بين العقل والدين والفلسفة – مشروعًا مبكرًا لرؤية إنسانية متسامحة، تسعى إلى تحرير الدين من سلطة الفقهاء والسلطة السياسية. ففي رسائلهم، نقرأ دفاعًا واضحًا عن فكرة أن الدين يجب أن يخدم أخلاق الإنسان وحريته، لا أن يتحوّل إلى أداة حكم. كانوا يعتقدون بأن الدين واحد في جوهره، متعدد في صوره، وبأن العقل هو الطريق لفهم النصوص وتنقية المجتمع من الجهل والتعصب. يمكن اعتبار هذا تصورًا مبكرًا لمبدأ “حيادية الدولة تجاه العقيدة”، وهو جوهر من جواهر العلمانية؟
يكفي أن نستعيد لحظات مشرقة من تراثنا، حين كان المتصوفة والفلاسفة – من أمثال ابن رشد والفارابي وابن عربي – يفرّقون بين الشريعة كمنظومة تعبدية، والحكم كمسؤولية بشرية. فابن رشد دعا إلى إعمال العقل في فهم النصوص، واعتبر أن الدين والفلسفة لا يتعارضان إذا فهمنا المقصد من كليهما. بينما نحت ابن عربي بفكره الصوفي نحو “وحدة الوجود” داعيًا إلى التسامح الكوني وتجاوز الأطر الظاهرية، ومبشّرًا بعقيدة رحبة لا تقصي المختلفين.
وللتراث الشيعي العقلاني نصيبه أيضًا من هذه الرؤية التحررية. فقد وُضِع العقل – لا النص – في كثير من الأحيان كمصدر أول في التشريع، كما في مقولة الإمام جعفر الصادق: “إن لله على الناس حجتين، حجة ظاهرة وهي الأنبياء، وحجة باطنة وهي العقول.” وهذه الرؤية تمثل نواة لفصل المعرفة الدينية عن سلطة الدولة، ومن ثم تمهّد لتصور سياسي يُبقي الدين بعيدًا عن أدوات القمع أو التوظيف السلطوي.
أما في زمن لاحق، فقد ظهر في التيارات الشيعية الإصلاحية، خاصة مع المفكرين المجددين كـالشيخ محمد حسين النائيني، دعوات صريحة لقيام دولة تقوم على العدالة والمؤسسات، لا على الولاية المطلقة للفقيه، وهو ما يمهّد لتبني شكل من العلمانية السياسية التي تُبقي القيم الدينية في دائرة الأخلاق، لا الحكم.
ولا تقتصر هذه الرؤية التنويرية على التيار الشيعي فقط، بل نجد في المدرسة السنّية الإصلاحية أيضًا أصواتًا بارزة دعت إلى فصل الدين عن الحكم، دون أن تفصل الدين عن الأخلاق.
الإمام محمد عبده، رأى أن الإسلام دين هداية لا حكم، وأن الدولة ليست إلا أداة مدنية لتحقيق مصالح الناس، لا لتطبيق “الشريعة” بمعناها الضيق كما يطرحها المتشددون. بل إنه كتب صراحة: “إنما جاء الإسلام ليحرر العقل، لا ليقيّده، وليهدي الإنسان، لا ليحكمه بالسيف.”
أما المفكر جمال البنا، فقد ذهب أبعد من ذلك، إذ اعتبر أن “الإسلام دين لا دولة”، وأن الخلط بين العقيدة والسلطة هو السبب في فساد التجارب الإسلامية السياسية. وأكّد أن القيم الدينية الحقيقية لا تزدهر إلا في ظل بيئة حرة، تفصل بين ما هو روحي وما هو سياسي، دون عداء، بل باحترام متبادل
في مقال سابق ذكرت بأن:
فكرة ” لا إكراه في الدين” وحدها هي تعزيز لمبداء حرية المعتقد الذي هو جزء لا يتجزاء من قيم الفلسفة العلمانية والمدنية، وفصل الدين عن الدولة بالكامل..
المعركة الحقيقية، إذن، ليست بين العلمانية والدين، بل بين من يرى في الدين مصدرًا للسلطة والهيمنة، ومن يريده ضميرًا حيًا في مواجهة الطغيان. فالعلمانية، في أصلها، لم تأتِ لتقصي الدين، بل لتحميه من التوظيف السياسي، تمامًا كما تحمي الدولة من أن تُختزل في عقيدة واحدة.
حين نُصِرّ على تقديم العلمانية كمعول لهدم المقدس، فإننا نفوّت على مجتمعاتنا فرصة تاريخية لبناء تعايش حقيقي. وحين نختزل الإسلام في سلطة الفقيه أو خطاب الواعظ، فإننا نخون جوهر الدين ذاته
إن المطلوب اليوم ليس استيراد النماذج الجاهزة من الغرب، ولا شيطنة تراثنا العربي الإسلامي، بل استعادة جذورنا العقلانية المنسية، واستنطاق لحظات النور التي شهدتها حضارتنا، لا لتأليه الماضي، بل لصياغة مستقبل لا يقصي أحدًا.
العلمانية ليست سلاحًا في معركة، بل أرضًا مشتركة نلتقي فيها كبشر، باختلاف معتقداتنا، لبناء مجتمع عادل. والعقلانية ليست بديلًا عن الإيمان، بل رفيقة له تمنعه من أن يتحوّل إلى أداة قمع ومعمول هدم..
إذا فلنخرج من ثنائية “الدين ضد العلمانية”، ولنعد إلى سؤالنا الأول: كيف نعيش معًا بجميع معتقداتنا بحرية، وعدالة، وكرامة..!