السبت 19 تموز 2025

الكرد في قلب العاصفة: من ورقة وظيفية إلى مشروع تاريخي مستقل

محمد شيخموس

لم تكن الحرب التي اندلعت في يونيو 2025 بين إسرائيل وإيران مفاجئة تمامًا، بل كانت حلقة متوقعة في سلسلة طويلة من التصعيدات والتوترات التي بدأت منذ أكثر من أربعة عقود. فمنذ الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، انقلبت العلاقات بين الطرفين من تعاون محدود إلى عداوة استراتيجية. وبينما عملت طهران على دعم فصائل المقاومة مثل حزب الله وحماس، سعت تل أبيب إلى تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة بكل السبل، من خلال العقوبات، الاغتيالات، والهجمات الجوية عبر أطراف ثالثة.

لكن الشرارة المباشرة للحرب الحالية جاءت في 13 يونيو 2025، عندما نفذت إسرائيل عملية عسكرية مفاجئة تحت اسم “الأسد الصاعد”، استهدفت فيها منشآت نووية وعسكرية إيرانية في عمق البلاد، بما في ذلك منشآت في ناتانز وأصفهان وآراك. تسببت هذه الضربات في تدمير كبير للبنية التحتية الإيرانية، وخاصة البرامج المرتبطة بتطوير الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى.

رد إيران لم يتأخر، بل جاء مدويًا. في غضون 48 ساعة، أطلقت طهران أكثر من 150 صاروخًا و100 طائرة مسيّرة نحو إسرائيل، استهدفت قواعد عسكرية ومدنًا مثل حيفا وبئر السبع. كانت ضربة على مستشفى “سوروكا” في بئر السبع واحدة من أكثر الهجمات التي أثارت الرأي العام، إذ أوقعت عشرات الضحايا بين قتيل وجريح. إسرائيل من جانبها كثّفت الضربات، مستهدفة مواقع القيادة في الحرس الثوري الإيراني ومراكز الأبحاث النووية.

في خضم التوترات الجيوسياسية المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، وارتداداتها العنيفة التي تعيد رسم خارطة الشرق الأوسط بالدم والنار، يظهر مجددًا الشعب الكردي كعنصر “وظيفي” في نظر القوى الإقليمية المتنازعة، لا كفاعل تاريخي مستقل يمتلك مشروعه وقراره. هذه النظرة ليست جديدة، لكنها تتكرر في كل منعطف استراتيجي، حيث تُعاد هندسة التوازنات، ويُستدعى الكرد فقط حين تقتضي المصالح ذلك.

إيران، التي تقاتل على أكثر من جبهة، تنظر بعين الريبة إلى كردستان الشرقية (روژهلات) وتخشى من تسرب الدعم الغربي أو الإسرائيلي إلى الداخل، بينما تمضي تركيا في حربها الممتدة ضد الطموحات والحقوق القومية للكرد داخل حدودها وخارجها، عبر أدوات عسكرية وأمنية وسياسات إنكار ممنهجة. واقع الحال أن الكرد يدفعون مجددًا ثمن فشل الدول القومية الأربع التي خُلقت في معاهدة سايكس – بيكو، والتي عجزت حتى اللحظة عن استيعاب مفهوم التعددية والعدالة والشراكة في القرار.

غير أن ما تغيّر اليوم هو أن الوعي القومي الكردي بات أكثر رسوخًا، وقد أصبح بناء الذات الكردية في فضاء سياسي مشترك ومشروع قومي جامع ضرورة نضالية وليست ترفًا تنظيريًا. لم يعد مقبولًا الارتهان للمحاور الإقليمية، أو الانخراط بوصف الكرد أداة في مشاريع الآخرين. فحين لا تملك مشروعك، ستُستخدم في مشاريع غيرك.

القوتان الإقليميتان، إيران وتركيا، بمشاريعهما التوسعية المغلفة بالطائفية والمذهبية، تقفان عقبة أمام المشروع الأمريكي–الإسرائيلي–الخليجي الذي يعيد هندسة طرق التجارة والطاقة من مومباي إلى حيفا، عبر الممرات الحيوية التي تتقاطع مع الجغرافيا الكردية. وهنا تبرز حقيقة جيوسياسية مهمة: إضعاف النفوذ الإيراني والتركي بات أولوية للقوى الدولية، والكرد في قلب هذه المعادلة الجديدة.

إن الجغرافيا الكردستانية، المقسمة قسرًا بين أربع دول تنكرت لحقوق هذا الشعب، وارتكبت بحقه المجازر والإبادات، تستحق اليوم أن يُعاد لها الاعتبار. من السذاجة أن يُطلب من الكرد “الولاء” لدول لم تعترف بوجودهم أصلًا. بل من الإنصاف أن تسأل هذه الدول نفسها: أي مشروع نريد أن نُشرك فيه الكرد؟ أفي مشروع التهميش أم في مشروع الدولة الديمقراطية الجامعة؟

يبقى الأمل معقودًا على أن تدرك تركيا أنها باتت محاطة بثلاث فيدراليات كردية بحكم الأمر الواقع، وأنها أمام خيار تاريخي: إما الاستمرار في المكابرة والخسارة، أو القبول بالقوة الناعمة الكردية والدولية بوصفها طريقًا نحو استقرار إقليمي حقيقي.

إن التحول من الورقة الوظيفية إلى الفاعل التاريخي يبدأ من الداخل الكردي أولًا، عبر مؤتمر وطني جامع، يؤسس لمشروع حرّ ومستقل، لا ينتظر الإذن من أحد، بل يستمد شرعيته من شعب ما زال يدفع الثمن كونه كرديًا.