جواد إبراهيم ملا: عظماء الأمة الكوردية: والدي ابراهيم الملا والعم أوصمان صبري والبروفيسور جمال نبز أحد العظماء السبعة الذين أسسوا كاژيك والجنرال مصطفى البارزاني (4)

كورد أونلاين |

جواد إبراهيم ملا

 الجزء الأول من الحلقة الرابعة
  1. والدي ابراهيم الملا

اسم والدي الكامل إبراهيم بن محمد بن بكر بن محمد بن زلفو بن “محمد ملاي مالان الزازا الكبير” الذي كان مشهورا بوطنيته وتقواه في منطقة جيرموك بولاية آمد (دياربكر) حيث بنى جامعا في قريته “بيدوان العليا” في القرن التاسع عشر ولا يزال قائما إلى يومنا هذا. اتخذ والدي وبعض من عائلتنا كنية “الملا” نسبة للجد الأكبر “الملا محمد ملاي مالان” ولكن معظم عائلتنا اتخذت كنية الزازا وبعضهم تكنوا بـ زلفو أو زلفو زازا أو مالان.

معظم الكورد في منطقة جيرموك بولاية دياربكر هم من الزازا ومن ضمنهم قرية جدي بيدوان العليا، نزحوا من درسيم أبان الإحتلال التركي لكوردستان في العام 1514م والذي فهمته من والدي ان الأتراك قد قتلوا وشردوا أهلنا في درسيم لأنهم كانوا يعتنقون الديانة الزرادشتية لذا فإن إضطهادهم من قبل الأتراك كان مضاعفا أي أكثر من الإضطهاد الذي مارسوه ضد الشعب الكوردي ولذلك قام شعبنا الزازا في درسيم بتغيير ديانتهم من الزرادشتية إلى الإسلام الطائفة العلوية ليحافظوا على أرواحهم ولكن إضطهادهم إستمر واجبروهم على النزوح إلى مختلف الأقاليم في غرب الاناضول لتتريكهم وقسم نزح إلى جبال الساحل السوري التي تسمى اليوم بجبال العلويين ومجموعة أخرى نزحت إلى منطقة جيرموك التابعة لولاية آمد وهؤلاء هم اجدادي وعشيرتي.

كان والدي الشهيد إبراهيم ملا أحد الكوادر المتقدمة لحزب خويبون ومن المقربين من رئيس حزب خويبون الأمير جلادت بدرخان وحينما كان والدي يذكر الامير جلادت بدرخان كان يذكره بقدسية والحقيقة أن الامير جلادت بدرخان كما ذكره العديد من المستشرقين في أنه ملك كوردستان غير المتوج.

في العام 1930 حينما فشلت ثورة آغري خبا نشاط خويبون في شمال كوردستان وانتقلت عناصره، ومن ضمنهم والدي، إلى غرب كوردستان التي تم إلحاقها بالدولة السورية والتي تم رسم حدودها بموجب إتفاقية سايكس بيكو الإستعمارية التي فصلت غرب كوردستان عن بقية الأقاليم الكوردستانية وبالتالي تم وضع سورية ومن ضمنها غرب كوردستان تحت الإنتداب الفرنسي.

إبراهيم ملا كان پيشمرگه في ثورة آغري 1930

لقد ناضل والدي مع الأمير جلادت بدرخان من أجل إعلان الدولة الكوردية في غرب كوردستان عن طريق اقناع سلطات الإنتداب الفرنسي وكان المندوب السامي الفرنسي في دمشق يجتمع مع الشخصيات الكوردية إجتماعات دورية وكان على رأسهم الأمير جلادت بدرخان ووالدي وفي نهاية كل إجتماع كانت سيارة المندوب السامي الفرنسي الشخصية توصلهم إلى بيوتهم.

وقد كان العمل من أجل الدولة في غرب كوردستان يجري في كافة الإتجاهات، فكان نادي كوردستان في حي الكورد بدمشق أحد تلك الإتجاهات وكان للعم اوصمان صبري الدور الكبير في جمع الشباب الكوردي وتعليمهم الكتابة والقراءة باللغة الكوردية في نادي كوردستان، كما ان النشرات والكتب والمجلات باللغة الكوردية كان لهم أثرهم في نشر الوعي القومي الكوردي ومن اشهرهم كانت مجلة هاوار في دمشق وروناهي في بيروت حيث نشرت بعض أشعار والدي باللغة الكوردية.

أرسل خويبون كوادره إلى القرى الكوردية من أجل توعية الشعب الكوردي وكان اشهر تلك الارساليات مجموعة من الاساتذة من كورد حي الكورد في دمشق ومنهم: إبراهيم ملا (والدي) توفي في 24-7-1969 وراشد جلعو توفي في العام 1991 وعزت فلو توفي في 4-4-1997 ومحمد رشيد شيخ الشباب توفي في العام 2009 وغيرهم كثيرون ليعملوا أساتذة في المدارس الرسمية في قرى المناطق الكوردية… وكانت مهمة الاساتذة توعية الطلبة والإجتماع مع الشخصيات الكوردية كل في منطقته للتباحث في شأن الدولة الكوردية… ولكن كل هذه المساعي لم تؤد إلى إعلان الدولة الكوردية لأن سلطات الإنتداب الفرنسي عدلت عن رأيها في إقامة الدولة الكوردية. مع انها كانت في البداية تسعى لإقامة دولة كوردية ودولة درزية ودولة علوية أيضا… وان تغيير السياسة الفرنسية لا يزال لغزا… هل وقعت فرنسا تحت ضغط أو تأثير قوة عالمية أم دولة اقليمية؟.

 

منذ العام 1946 اغلق الحكم العربي في سورية كافة المؤسسات الكوردية التي كانت في زمن الإنتداب الفرنسي لذا حاول الأمير جلادت بدرخان مرة أخرى من أجل إعلان الدولة الكوردية في غرب كوردستان ولكن عن طريق إنقلاب عسكري كوردي في سورية وبالفعل قام بتنفيذ الانقلاب الجنرال الكوردي حسني الزعيم عام 1949 كما أرسل الامير جلادت اخيه الأمير كاميران إلى أوروپا للقيام بإتصالات ديبلوماسية مع كافة دول العالم ومنهم دولة اسرائيل الحديثة العهد وعرض عليهم الامير جلادت إتفاقية سلام مع سورية مع الاحتفاظ بدولة كوردية في غرب كوردستان (القسم الشمالي من سورية) ولكن اسرائيل لم تتجاوب مع الامير كاميران بدرخان.

إستمر الامير جلادت نضاله من أجل الدولة الكوردية ومن اليوم الاول لإنقلاب الجنرال حسني الزعيم الذي قال للامير جلادت بدرخان: أنا رئيس الجمهورية ومعي رئيس الوزراء محسن البرازي موافقون على إعلان الدولة الكوردية في شمال سورية… وباشر الامير جلادت بدرخان إتصالاته من أجل إعلان الدولة الكوردية في غرب كوردستان. وحضرت الوفود الكوردية من الجزيرة وكوباني وعفرين وحلب وحماه وجبل الكورد في شمال مدينة اللاذقية وغيرهم إلى القصر الجمهوري السوري في حي المهاجرين لتهنئة رئيس الجمهورية حسني الزعيم ورئيس الحكومة محسن البرازي على استلامهم الحكم في سورية… واقترح وفد حي الكورد بمدينة دمشق على رئيس الجمهورية في نقل القصر الجمهوري إلى مبنى مستشفى ابن النفيس الكائن على سفح جبل قاسيون في حي الكورد وقال الوفد الكوردي للزعيم عندها تكون بيننا من أجل حمايتك فرد عليهم الزعيم لا تخافوا وإن من ينوي الإعتداء علي لم تلده أمه بعد… فقد كان الزعيم معتدا وواثقا بنفسه إلى حد التهور فكانت شخصيته القوية إلى حد الاستهتار بالعدو بالضبط كشخصية الجنرل الكوردي  بكر صدقي الذي قام بانقلاب عسكري في العراق في العام 1936.

ولكن لم يمض على الانقلاب العسكري الكوردي في سورية سوى ثلاثة شهور حيث قام العقيد سامي الحناوي بإنقلاب عسكري آخر وقضى على الحكم الكوردي وإعدام قادته كل من رئيس الجمهورية السورية الجنرال حسني الزعيم ورئيس رئيس الوزراء محسن البرازي.

إن فشل الانقلاب العسكري الكوردي عام 1949 جعل الامير جلادت بدرخان ان يغير من سياسته وان يتجه نحو أ‌مريكا والإتحاد السوڤيتي التي ظهرت كقوى عظمى بعد الحرب العالمية الثانية فأوعز الامير جلادت إلى بعض عناصر خويبون للانتساب إلى المنظمات العالمية التي لها تأثيرا على السياسة الأ‌مريكية والسوڤيتية من أجل أن يكون للكورد الكلمة المسموعة والدور السياسي فيها. فإختار الامير جلادت بدرخان الحزب الشيوعي السوري والحركة الماسونية.

وكان والدي من أكثر كوادر خويبون وعيا وإلماما باللغات الاجنبية فقرر الامير جلادت تكليفه في أن ينتسب للحركة الماسونية (حصل والدي على عدة شهادات باللغة الإنگليزية والفرنسية من جامعات كامبريج والسوربون) وكان استاذا باللغة الكوردية والعربية والفرنسية والإنگليزية.

لوطنية والدي وثقافته العالية اعتمد عليه الامير جلادت بدرخان اعتمادا كبيرا في نضاله ولهذا كان الامير جلادت ووالدي من أوائل ضحايا الإرهاب السوري… ألف رحمة على أرواحهم الطاهرة.

إحدى الشهادات التي حصل عليها ابراهيم ملا باللغة الإنكليزية من جامعة كامبردج.في العام 1948

كما كلف الامير جلادت بدرخان بعض كوادر خويبون النشيطين مثل حسين عاقو وجميل ميقري وغيرهم للانتساب إلى الحزب الشيوعي السوري. 

كما كلف الامير جلادت بدرخان أحد كوادر خويبون علي بوظو أن يؤسس حزبا سوريا ليدخل معترك السياسة من أجل معرفة نوايا العنصرية العربية تجاه الشعب الكوردي.

ولكن مع الاسف الشديد لم يكن التعامل مع الأ‌مريكان والسوفييت والأحزاب السورية أوفر حظا من التعامل مع الفرنسيين.

شارك إبراهيم ملا (والدي) في كافة النضالات السياسية والعسكرية والثقافية الكوردية ولم يكن نضاله أقل نضالا من غيره من القادة الكورد في جميع أجزاء كوردستان… ولكن بعض القادة الكورد ظهروا على المسرح النضالي أكثر من والدي ليس بسبب تقصير والدي النضالي على الاطلاق بل بسبب أن السياسة الدولية لمنطقة كوردستانية كانت ظروفها الدولية أسوأ من الأجزاء الأخرى من كوردستان حيث كان والدي.

وفي هذا الصدد يقول أمير الشعراء أحمد شوقي البيت التالي:

ما كلنا ينفعه لسانه           في الناس من أنطقه مكانه

ولم تترك المخابرات السورية فرصة أخرى للأمير جلادت بدرخان ورفاقه في خويبون ليقيموا الدولة الكوردية فخططت ونفذت مؤامرتها لإغتيال الامير جلادت بدرخان في حادث البئر المفبرك مخابراتيا عام 1951 ولاحقت اخيه الامير كاميران مما جعله يقضي بقية حياته في المنافي كما اغتالت المخابرات السورية إبراهيم ملا (والدي) بوسائل أخرى عام 1969 رحمة الله عليهم أسكنهم فسيح جناته.

دفن الشهيد الاستاذ إبراهيم ملا 1917-1969 في مقبرة الشيخ خالد النقشبندي في حي الكورد بدمشق في 24-7-1969 وأعتقد انه تم تأخر تسجيل تاريخ ولادته بضع سنوات أي أعتقد إنه من مواليد 1912.

كان إبراهيم ملا متحدثا لبقا ومفوها وصوته جهوريا وذو ثقافة عالية جدا وكان يتحدث إلى الآخرين بذكاء وبشكل تتقبله كافة المستويات… فكان جديا حينما يتحدث في المسائل المهمة وسريع البديهة وكأنه قائدا عسكريا وبنفس الوقت كان لطيف المعشر وحلو الحديث.

فمثلا وهو الذي كان يناضل من أجل إستقلال كوردستان إلا إنه كان ودودا وجميل المعشر فحينما كان يشتري لنا أي طعام أو فاكهة كان يسمي مشترياته بأسماء جميلة ليحببنا فيها ويفتح شهيتنا واتذكر مرة اشترى موزا وقال لقد اشتريت لكم “موز ابو نقطة” وفي الأساس لا توجد فاكهة أسمها موز منقط وموز غير منقط، لان كل أنواع الموز بعد أيام تصبح منقطة.

كان والدي يتحدث مع والدتي باللغة الكوردية ولم أراهم يوما ان تحدثوا باللغة العربية على الاطلاق بينما كانا يتحدثان معي ومع اخوتي باللغة العربية. وأغلب الظن انه كان يريد تأمين وظيفة لنا بالحكومة، لأن الذي لا يعرف العربية لا يتم قبوله في أي عمل.

لم يكن والدي يواظب على ممارسة الواجبات الدينية إلا أن والدتي كانت مواظبة على واجباتها الدينية… لأن والدي كان يعتقد ان الارشاد للأشرار والجهلة. وحسب رأيه ان الله سبحانه وتعالى أمر بالصلاة وجعلها خمسة صلوات من أجل أن يقف الاشرار والجهلة خمسة مرات في اليوم الواحد بخشوع أمام الله سبحانه وتعالى وهذا الخشوع هدفه من أجل أن يضع في قلبهم الطيبة والمحبة لأن الله ليس بحاجة إلى صلاتنا بل الهدف منها من أجل أن يكون الإنسان محبا لأخيه الإنسان وساعيا إلى الخير.

وبنفس الوقت حينما كنت أصلي في شبابي المبكر ومواظبا على صلاة الجمعة في جامع أبو النور للشيخ أحمد كفتارو وكذلك حينما بدأت النضال الكوردي أيضا فلم اسمع من والدي أية كلمة ممانعة على صلاتي أو نضالي من أجل القضية الكوردية… فكنت أنا وإخوتي على حريتنا… ومرة حينما إعتقلتني المخابرات السورية من أجل نضالي القومي الكوردي وكنت طالبا في المدرسة الثانوية أتذكر كلمة والدي لي: يا بني خذ البكالوريا وبعدها اعمل ما تريد… وفهمت من كلمته هذه إشارة منه في أن العلم كان عنده في الدرجة الأولى من الأهمية.

لقد كانت علاقة والدي معي ومع اخوتي ووالدتي والاقرباء وأهل الحارة أيضا مثالية وبشكل فرض احترامه على الجميع وحتى من يخالفه في الرأي… فكان واسع الافق وحينما يخاطب الناس كان يخاطبهم حسب سنهم واهليتهم فلم يك يتكلم عن الفلسفة والعلوم امام أي كان بل كان يتناقش في اعقد المسائل السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفلسفية مع من يفهمها.

في العام 1961 اشترى والدي لنا تلفزيونا قبل أن يبدأ البث التلفزيوني السوري بأيام وكنت وإخوتي والاقارب والجيران نلتف حول جهاز التلفزيون ونتابعه بكل اهتمام… ولكن والدي لم يك يتابع البرامج التلفزيونية بل كان عنده راديو ترانزيستور صغير وكان مواظبا على توقيت نشرة الاخبار من كافة الاذاعات وخاصة الـ BBC البريطانية ومونتكارلو الفرنسية… ولكنه حينما كان يرى المطربة سميرة توفيق على التلفزيون السوري كان يحضّر نفسه ويعيد ترتيب جلسته المعتادة متكأ على طرف الصوفا التي يجلس عليها… ويبدأ في تحضير غليونه للتدخين وكان يطلب مني ان احضر له فنجان قهوة وكان يقول لي لا تنس ملعقة ونصف سكر وملعقة وربع قهوة… والطريف أيضا ان والدتي في تلك اللحظة كانت تتكلم مع والدي وتقف فيما بينه وبين صورة سميرة توفيق على شاشة التلفزيون ولا أعرف كانت صدفة أم ان والدتي كانت تشعر بالغيرة من سميرة توفيق لأن والدي كان يعشق صوتها وصورتها. وفي بعض الأوقات كان والدي يتمتم لي ولإخوتي بعض الاغاني الكلاسيكية للأطفال باللغة الإنگليزية وأتذكر بعضها:

Row, row, row your boat

Gently down the stream

Merrily merrily, merrily, merrily

Life is but a dream

ومعناها بالعربية:   صف، صف، صف زورقك

بلطف أسفل النهر

بسعادة، بسعادة، بسعادة، بسعادة

الحياة ليست سوى حلم

إن إبراهيم ملا بالإضافة إلى كونه مقاتلا من أجل إستقلال كوردستان فقد كان شاعرا ومثقفا وقوميا كورديا من الطراز الاول أيضا.

بالرغم من انه نشأ في زمن كان الجهل مستفحلا في المجتمع الكوردي… إلا انه كان مثابرا على تحصيله العلمي وعلى أعلى المستويات، فمكتبته كانت تحوي على الكتب والمجلات الكوردية كما كانت تحوي على الكتب العربية والإنگليزية والفرنسية وأتذكر كان بينها مجلدات دائرة المعارف البريطانية بالإنگليزية وبكامل أجزائها وعلى ما اذكر انها كانت مطبوعة في اربعينيات القرن الماضي.

كان إبراهيم ملا يعطي كل زمان ومكان حقه ومستلزماته فأعطى أهمية كبرى من أجل تهيئة مجموعة من الكوادر الكوردية فإستأجر هو ومجموعة من الكورد من مالهم الخاص منزل علي بوظو وجعلوه مدرسة من أجل تعليم الشباب الكوردي الكتابة والقراءة وتثقيفهم لكي يكونوا مؤهلين للقيام بأعباء النضال الوطني الكوردي أو استلام عمل لتأمين معيشتهم.

وفي خمسينيات القرن الماضي كان لإبراهيم ملا برامج في اذاعة دمشق وكان يتحدث فيها حول حياة مختلف الشعوب وآدابهم وبشكل غير مباشر كانت برامجه من أجل توعية الشباب الكوردي لكي يعلم ما عملته الشعوب الأخرى حتى انتصروا واثبتوا وجودهم… وفي ذلك الزمان كان مدير اذاعة دمشق الامير يحي الشهابي الذي كان من اعز اصدقاء والدي والذي كان ماسونيا أيضا… واني اسعى منذ زمن للحصول على نصوص تلك البرامج التي كان والدي يكتبها ويذيعها بصوته من إذاعة دمشق وأعتقدها لا زالت موجودة في ارشيفات اذاعة دمشق صوتا وكتابة.

كما كان إبراهيم ملا من أوائل المشاركين في شركة “منهل” لإستخراج البترول حيث تم إكتشاف وجود البترول في غرب كوردستان واشترى والدي كمية كبيرة من أسهم الشركة ولكن مجئ حكم الوحدة السورية-المصرية عام 1958 أدى إلى تأميم شركة منهل. واصبح بترول المناطق الكوردية ملكا للحكومة السورية.

وفي ستينيات القرن الماضي افتتح إبراهيم ملا عدة مدارس خاصة ومنها ثانوية سيف الدولة وثانوية الرائد العربي وثانوية الأمين وكان من مؤسسي ثانوية دار الحكمة أيضا. ومن أهم المشاريع العلمية لوالدي كان مشروع افتتاح جامعة اهلية في مدينة دمشق مع عدد من الشخصيات الكوردية والسورية العلمية وكان المشروع مدعوما من اصحاب المعامل والشركات التجارية الكبيرة في سورية وعلى ما اذكر كان احدهم صاحب مصانع “كونسروة الشلاح” ولكن مجئ زمن الوحدة فيما بين سورية ومصر عام 1958 وبدأ الحديث عن الاشتراكية والتأميم مما جعلهم التراجع عن المشروع خوفا من التأميم ومصادرة إموالهم كما حدث لشركة منهل البترولية.

 

كان والدي يقبل الطلبة الكورد المسحوبة منهم الجنسية السورية في منطقة الجزيرة في مدارسه لأنهم لا يستطيعون من التسجيل في المدارس الحكومية. فكنت أتلقى إتصالات بين الحين والآخر من العم أوصمان صبري والدكتور نور الدين زازا وغيرهم من الزعماء الكورد المقيمين في دمشق بأن آخذ أحد الشباب الكورد المسحوبة جنسياتهم إلى والدي لتسجيله في إحدى مدارسه. وكان الطلبة بدون جنسية سورية الذين سجلتهم بمدارس والدي بالعشرات ولا أتذكر أسماءهم ولكني أتذكر واحدا منهم وأسمه معروف ملا أحمد واتذكره لأن شقيقه عبد الرزاق ملا أحمد كان جاري ورفيقي في الحزب الديمقراطي الكوردي وقد عرفني به الدكتور نور الدين زازا وأخذته إلى والدي الذي قام بتسجيله في المدرسة والحمد لله ان العزيز معروف ملا أحمد تعلم وكبر اصبح عضوا قياديا في أحدى الأحزاب الكوردية الحالية.

 

بالرغم من النضال القومي لإبراهيم ملا وكتاباته وأشعاره إلا إنه لم يقصر تجاه عائلته في التوجيه والرعاية وكان محافظا على مناسبات الاعياد في تزويد العائلة بالملابس والمآكل الخاصة بالمناسبة فعلى سبيل المثال ففي الاعياد الإسلامية كان يذبح الاضاحي ويقيم كل أنواع المشاوي وفي عيد رأس السنة الميلادية كان يشتري كل أنواع الحلويات الشامية كالبرازق والعجوة وفطائر الجوز واللوز وغيرها أما في رأس السنة الكوردية عيد النيروز فكان اهتمامه أكبر حيث كان يؤكد على أن كل شئ في النيروز يجب أن يكون باللون الأبيض من المبلبس وإلى الأطعمة كطبخة “الشاكرية” التي يتم طبخ اللحوم فيها باللبن والأرز كما أن الحلويات كانت تكلل بالقشطة البيضاء.

كان إبراهيم ملا حريصا على الزمن ومنضبطا في حياته ومواعيده وكأنه ينفذ مهاما عسكرية… فمثلا حينما كان يذهب إلى ثانوية سيف الدولة كل صباح والتي كانت في نهاية سوق الحميدية وكان عليه ان يمر من السوق يوميا وكان يمر بنفس التوقيت حتى أدى بتجار سوق الحميدية لأن يضبطوا ساعاتهم على مرور والدي من أمام محلاتهم.

كان والدي الرجل المثالي في مشيته وحديثه بل وفي هندامه وملابسه فكان يفصّل ملابسه وحتى القمصان ولم يشتري الملابس الجاهزة إطلاقا وكان يأخذني أنا وإخوتي لمحلات الخياطة لتفصيل ملابسنا أيضا وأتذكر بعضهم كان محل بدر الملا في زقاق رامي ومحل الخياط ياسين رمضان في منتصف سوق الحميدية في الطابق الثاني فوق محلات ودكاكين السوق.

كما لم يتناول أي نوع من الاطعمة في الطريق والتي يتناولها الجميع في الصيف مثل البوظة (الآيس كريم) أو الشوندر والذرة في الشتاء كما يفعل عامة الناس… فكان دائما يرتدي الطقم والصدرية وربطة العنق حتى ولو كان يريد الذهاب لزيارة عائلية وغير رسمية وكان يمشي ويتكلم بثقة وعظمة وكأنه إمبراطورا أو مليونيرا وأقصد أنه كان ذو معنويات عالية وفي كافة الظروف والأحوال.

وفي الإجازات المدرسية الرسمية كان يقيم الاحتفالات ويدعو الاساتذة والطلبة إلى الغذاء أو العشاء. ولأنه في أربعينيات القرن الماضي كان معلما في مدرسة الملك العادل الابتدائية في حي الكورد الدمشقي فكان في نهاية العام الدراسي من كل عام (حتى ستينيات القرن الماضي) كان يقول لي: إحمل إبريق الحليب واتبعني… وكنت أرافقه إلى مدرسة الملك العادل الابتدائية من أجل أن يقدم إلى أساتذتها كأسا من الحليب في نهاية كل عام دراسي.

والدي وهو يلقي كلمته وعلى يساره انور هدي البرازي المفتش العام لوزارة التربية والتعليم في سوريا وعلى يمينه أحمد سلطان مدير التعليم الإبتدائي في سوريا وبسام كورد علي مفتش الجغرافيا والاخير لا أتذكر إسمه غيرهم كثيرون ممن كانوا يحتلون مراكز علمية وثقافية من الدرجة الأولى في سورية وكان معظمهم من الكورد.

وكان والدي يقدم خدماته للجميع لذلك كان له الكثير من المعارف والأصدقاء: مثل الاساتذة والشخصيات الإعتبارية في دمشق: ابو عصام الهواش ورشدي بركات وبسام كرد علي ومحمد خير شيشكلي وأنور شحرور وغيرهم.

وكان والدي يحلق في دكان الحلاقة لصديقه الحلاق إسماعيل شحرور وابن اخيه حسني الكائن في ساحة شمدين آغا وكانت أملاك  إسماعيل شحرور كثيرة، وكانت إحداها مبنى مدرسة المعتصم وفي خمسينيات القرن الماضي أرادت وزارة المعارف السورية شراء بناء مدرسة المعتصم منه مقابل 40 ألف ليرة سورية ولكن إسماعيل شحرور وجد أن السعر زهيدا فطلب من والدي تقديم اعتراض على السعر وفي النهاية تم رفع السعر إلى 80 ألف ليرة سورية. ولم ينس إسماعيل شحرور هذا المعروف فكان يرسل محمد الأظن ابن أخته في مواسم الفواكه والخضار ليقدم سلة كبيرة من محاصيل بساتينهم ولسنين طويلة كهدية لوالدي واعترافا بخدماته.

كان والدي يشتري سنويا الرز والسكر والبرغل والقمح والطحين والصابون وغيرهم من المواد التموينية من محلات “سويد” في سوق الجمعة الذي كان يرسل بضائعه على حماره الابيض الجميل والرشيق الذي كان سريعا في خطواته.

منذ الصغر كان والدي يأخذني وإخوتي إلى الرحلات المدرسية حيث كان أستاذا ومعظم إخوتي كانوا تلاميذه في فترة ما.
في العام 1961 ذهبنا في رحلة مدرسية إلى مدينة الحمة التي كانت تابعة لسورية ومن ثم صارت تابعة لإسرائيل بعد حرب حزيران في العام 1967 وكان في مدينة الحمة ثلاثة أنواع من المياه الفاترة والدافئة والثالثة التي تقترب من درجة الغليان ولكن يمكن النزول فيها وغير محرقة فيما إذا تم النزول فيها بهدوء.
أخذنا الصورة التالية: والدي الغالي في الوسط وعلى يمينه أخي العزيز عماد وأنا على يساره حاملا المنشفة لتنشيف أجسامنا بعد الغطس في المياه الكبريتية في مدينة الحمة.

وفي العام 1967 وضعت وزارة التربية والتعليم السورية أنظمة للمدارس الخاصة وعينت مديرا من قبلها ويدفع صاحب المدرسة رواتبه… فكانت ثانوية سيف الدولة تربح حوالي 70 ألف ليرة سورية سنويا بينما من خلال الأنظمة الجديدة تجاوزت الخسائر في ذلك العام الـ 70 ألف ليرة سورية فقرر والدي بيع المدرسة للأستاذ محمود غيلان بدون مقابل على ان يتكفل بدفع الخسائر… وفي العام التالي بعد أن باع والدي مدرسته رفعت الحكومة السورية تلك الأنظمة وكأنها كانت مؤآمرة تم فبركتها مخابراتيا لإخراج والدي من سلك التدريس كخطوة أولى ومن ثم لإخراجه من الحياة كلها وهذا ما فعلوه أن اغتالوه في العام 1969.

كان والدي على علاقة وثيقة مع الشخصيات السياسية والعلمية والادبية الكوردية والعربية وكان يدعوهم إلى مناسبات إنتهاء العام الدراسي ويخطب فيهم ويوجههم واتذكر واحدة من هذه المناسبات التي حضرتها ان دعا اليها مجموعة من مفتشي وزارة التربية والتعليم في سورية وكان معظمهم من الكورد ولا ازال اتذكر بعض اسمائهم والذين يظهرون في الصورة أدناه:

لقد كان إبراهيم ملا ضليعا بقواعد اللغة الكوردية وآدابها وكان شاعرا وكاتبا قصصيا وروائيا باللغة الكوردية وكان منارة ثقافية يزوره القاصي والداني وكان بيتنا مفتوحا لكل من يطلب العلم والمعرفة عن الكورد والثقافة الكوردية.

ففي العام 1953 لم أكن أتجاوز السابعة من عمري كان يزورنا البروفيسور ستيك ويكندرStig Wikander استاذ اللغات الشرقية بجامعة أوبسالا في السويد، وفي العديد من المرات جاء لزيارة والدي وفتحت له باب البيت واستقبلته وادخلته غرفة الضيوف لكي أخبر والدي بقدومه… واني لا أزال اتذكر شكله وهندامه فقد كان طويل القامة أشقر أوروپي الملامح ولم يك شابا ولا عجوزا وكان يرتدي بنطالا قصيرا فوق ركبته (شورت) قماشه كالذي يرتدونه الجنود (الخاكي، البيج) وكان حذاؤه عبارة عن صندل، الذي يخجل ان يرتديه الشباب في بلادنا وخاصة من هم بعمره ومركزه العلمي.

البروفيسور السويدي ستيك ويكندر

وفيما بعد علمت ان البروفيسور ستيك ويكندر كان يتلقى من والدي دروسا عن اللغة الكوردية ويتناقشون حول اصل اللغة الكوردية وتاريخ الشعب الكوردي وكل ما يتعلق بالكورد وكوردستان واعطاه والدي مجموعة قصصية كتبها على لسان الحيوانات باللغة الكوردية… وكذلك كان البروفيسور ستيك ويكندر يزور العم أوصمان صبري وغيرهم من الشعراء والادباء الكورد لنفس الأسباب التي كان يزور والدي من أجلها.

وحينما عاد البروفيسور ستيك ويكندر إلى السويد جمع ما تعلمه في كتاب سماه مجموعة النصوص الكوردية (اللهجة الكورمانجية) بحوالي 110 صفحات، وقامت جامعة أوبسالا في السويد بطباعة الكتاب في عام 1959 ويحمل الكتاب تسلسل رقم 10 ولكن على حد علمي لم يك والدي على علم بطباعة كتاب البروفيسور ستيك ويكندر… كما إني لم اشاهد الكتاب في مكتبة والدي كما لم يخبرني شيئا عن الكتاب حينما اعطاني مجلات هاوار واشار لي حول اشعاره فيها… كما اني أعتقد ان البروفيسور ستيك ويكندر قد أرسل نسخة لوالدي بالبريد وعليها كلمة الإهداء وبالتأكيد قامت المخابرات السورية بمصادرته لأنه من غير المعقول ان لا يرسل نسخة من كتابه حيث لا يكلفه سوى بضعة قروش بعد كل العناء والمشقة والسفر والمصاريف الكبيرة التي صرفها.

غلاف كتاب النصوص الكرمانجية للبروفيسور ستيك ويكندر

ولكن بعد نصف قرن من الزمان استلمت رسالة من صديقي العزيز الاديب الكوردي البروفيسور “خالد يونس خالد” وفيها قصص والدي المطبوعة في كتاب البروفيسور ستيك ويكندر… واخبرني انه وجد نسخة من الكتاب في مكتبة جامعة اوبسالا السويدية اثناء قيامه بدراساته وبحوثه… لقد شكرته وطلبت منه عن كيفية الحصول على نسخة كاملة من الكتاب ولكنه اعتذر وقال لي لا يوجد في المكتبة سوى نسخة واحدة وحتى لا أحد يستطيع استعارتها فقراءتها تتم في داخل المكتبة فقط… وحينما وجدت القصة رقم واحد في الكتاب كانت للعم اوصمان صبري سارعت بالإتصال بالعزيزة هيڤي بنت العم اوصمان صبري والمقيمة في السويد أيضا واخبرتها عن الكتاب وسألتها حول إمكانية الحصول على نسخة كاملة منه فقالت لي عندي عدة نسخ من الكتاب وسأرسل لك واحدة منهم… وفعلا بعد ايام استلمت النسخة بالبريد وشكرت الغالية هيڤي بنت الغالي العم اوصمان صبري ألف رحمة على روحه الطاهرة.

فهرس كتاب النصوص الكرمانجية للبروفيسور ستيك ويكندر

لقد كانت قصص والدي باللغة الكوردية والمذكورة في كتاب البروفيسور ستيك ويكندر من الصفحة 7-12 والتي تحمل الأرقام والعناوين التالية:

  1. الأسد والحمار أو الأسد الغير حقيقي (المزور).
  2. الغراب والثعلب.
  3. الثعلب والذئب.
  4. الذئب والعجل.
  5. الحمار والثعلب واللقلق.

قصيدة “وطني المحبوب” كان قد كتبها إبراهيم ملا إلى مجلة هاوار في العام 1940 وبقيت قصيدة والدي بخط يده ضمن ارشيفات مجلة هاوار عند الاميرة روشن بدرخان زوجة الامير جلادت بدرخان صاحب المجلة الذي إستشهد عام 1951 احتفظت الاميرة روشن بدرخان بالارشيف وقبل وفاتها سلمته إلى الاديب الكوردي الشهير دلاور زنكي وبينما هو يبحث في أرشيف هاوار واذا به يرى قصيدة والدي مكتوبة بخط يده فأرسلها لي مشكورا على هذه الهدية القيمة والجميلة جدا وفيما يلي قصيدة “وطني المحبوب”:

 

وفيما يلي الترجمة العربية لقصيدة “وطني المحبوب”:

وطني المحبوب*

تلك الأرض الجميلة وفيها الكثير من المياه والبساتين ومزارع الكروم

حيث عاش أسلافي حياتهم بهمة ومحبة هو وطني!

تلك الأرض حيث فتحت عيني لأول مرة

واتبعت نهج الحياة والخطوات التي خطوتها بعد الزحف ثم المشي على ارضها هو وطني!

إن الأرض التي بدأت الدراسة عليها والعمل الجيد والمثمر الذي انجزته،

والشمس التي شعرت بدفئها مع شعاعها الذي منحني الضوء، هذا المكان هو وطني!

هؤلاء الناس الذين لغتهم هي نفس لغتي ،

والذين لديهم نفس الأجداد كأجدادي ،

نضالهم وهدفهم هو نفس نضالي وهدفي…

هؤلاء الناس هم شعبي، المكان الذي يعيشون فيه هو وطني!

أحيانا يملأ الغضب عروقي ،

وجسدي يرتجف كما لو أنه الشتاء البارد في المراعي الجبلية ،

إنها تلك الأوقات التي أفكر فيها في وحدة وتقدم وطني

هذا هو السبب جعلني لأبدأ بالدراسة من أجل القيام بأعمال قيمة لأمتي ولوطني كما في طفولتي.

إبراهيم ملا *

1940

———

*وطني المحبوب: أي كوردستان

*إبراهيم ملا (توفي في ظروف غامضة عن عمر لا يتجاوز الـ 52 عاما) 1917-1969: هو محارب من أجل إستقلال كوردستان وشاعر وكاتب واستاذ في اللغات الكوردية والعربية والفرنسية والإنگليزية.

 

وفيما يلي بعض المقتطفات من كلمة أخي العزيز “زياد” وذكرياته الشخصية التي ألقاها في ندوة نظمها في ذكرى والدنا الفقيد إبراهيم ملا:

 

بمناسبة: خمسون عاما على رحيل الوالد النبيل إبراهيم الملا

اشتغل الوالد وهو في عامه العاشر في جريدة الأيام في بوابة الصالحية حيث مبنى محافظة مدينة دمشق الان، في صف وترتيب الأحرف للجريدة. وبعد حصوله على الابتدائية سوية مع بكري قوطرش وعلي بوظو وأنور ظاظا وغيرهم من كورد حي الكورد بدمشق… تابع الاعدادية في مكتب عنبر وفي الوقت ذاته كان يشتغل لتأمين مصروفاته. بعد ذلك التحق بدار المعلمين. وبعد التخرج تم تعيينه معلما في الجزيرة – مدرسة قبور البيض وفي القامشلي. وهناك نشط ثقافيا حيث صار ينشر أشعاره وقصصه في مجلات “روناهي” (الضياء) و”هاوار” (النجدة) وكان مثله الأعلى الامير جلادت بدرخان في الثقافة والنشاط السياسي وتوقف الوالد عن هذا النشاط بعد رحيل جلادت بدرخان في حادث أليم.

إبراهيم ملا وسط تلاميذه في مدرسة قبور البيض في العام 1936

في عام 1941 انتسب والدي العزيز إلى البريتيش كانسل British Council لتعلم اللغة الإنگليزية وظل مواظبا على الدراسة لأنه أحب هذه اللغة وشعبها وفي عام 1945 قدم امتحانات المتريكوليشن في بيروت ونال هذه الشهادة. أعتقد أن الوالد الكريم هو الوحيد في الحي الذي كان يجيد أربع لغات هي الكوردية والعربية والإنگليزية والفرنسية قراءة وكتابة وحديثا في ذلك الزمان.

في بداية الخمسينات وصلت إلى دمشق من لندن عشر نسخ من الموسوعة البريطانية في اثني عشر مجلدا وكانت احداها من نصيب الوالد…

في عام 1950 قرر علامة سويدي المجئ إلى دمشق لمتابعة أبحاثه في الإيرانيات والكورديات وكان الامير كمران بدرخان في أوروپا قد أعطاه أسماء ثلاثة أشخاص بدمشق لمساعدته في أبحاثه.  وقد التقى هذا العلامة الكبير بالثلاثة ولكنه كان أكثر تعلقا بوالدي في الحضور إلى بيتنا وأنا أذكره والسبب أن والدي كان يشرح له الأمور النحوية والصرفية بواسطة أحدى اللغتين الإنگليزية أو الفرنسية.

وفي عام 1936 كلفه جلادت بدرخان بمرافقة علامة فرنسي آخر لا أذكر اسمه إلى منطقة بوطان لاستكمال أبحاثه اللغوية…

وفي عام 1941 عندما بدأ دراسته للغة الإنگليزية جلس إلى جانبه شخص راغب بتعلم اللغة الإنگليزية أيضا وبعد التعارف تبين أنه أكرم الحوراني الذي لم يستمر إلا لستة أشهرلانشغاله بالسياسة. ومضت السنون… وفي عام 1959 في أوائل شباط تعرضت للإعتقال من ضمن المئات وبعد عشرة أيام من توقيفي في النظارة استقل الوالد الكريم التاكسي طالبا من السائق التوجه إلى القصر الجمهوري في اخر حي المهاجرين حيث يجلس أكرم الحوراني نائبا لرئيس الجمهورية وكان سهلا الدخول اليه ورحب بالوالد وتذكره جيدا واستفهم منه سبب الزيارة وبعد أن شرح له الوالد كل شئ توجه الحوراني اليه وقال: أستاذي الكريم! بصراحة، هل ابنك شيوعي؟ فإجاب الوالد: إذا كنت أنا شيوعيا فابني شيوعي وبالفعل أطلقوا سراحي… وخلال مكوثي في النظارة إلتقيت بعدد لابأس به من الحمر وكان أحدهم شاب اسمه فكرت رجب وكان هو الأصلب…

وفي اليوم الثالث من مكوثي في النظارة أحضر لي الوالد بطانية وهو في طريقه إلى النظارة التقى بالصدفة بإبن الحارة علي بوظو فسأله علي بوظو: خير انشاء الله؟ فإجابه الوالد بألم :علي بك! لربع قرن وأنا أحارب الشيوعية واذا بها في بيتي.

وفيما يلي مقتطفات من مقالة أختي العزيزة “رغد” عن والدنا الحبيب والمطبوعة في كتاب حماة الديار لمؤلفه العزيز الاستاذ محمد رشيد شيخ الشباب:

في أربعينيات القرن الماضي قام مع فريق من الاساتذة من حي الكورد ومنهم: خالد قوطرش ومحمود إسماعيل حقي ومحمود اسطنبولي بحملة محو الامية بين الكورد العاطلين عن العمل وذلك لتأهيلهم في العمل وقد تبرعوا بإجرة البيت وهو منزل علي بوظو في زقاق بشار وجعله شبه مدرسة وتكفلوا بالتدريس فيها مجانا.

وله محاولات شعرية باللغة الكوردية كانت تنشر بشكل دوري في مجلة هاوار وبعض الاشعار تدرس في معهد اللغات الشرقية في جامعة أبسالا في السويد.

له سبعة أولاد كلهم من حملة الشهادات الجامعية.

وفي خمسينيات القرن الماضي كان له برنامجا إذاعيا أسبوعيا باللغة العربية في الاذاعة السورية من اعداده وإذاعته بصوته حول آداب الشعوب.

تعلم منه عدد كبير من المستشرقين اللغة الكوردية وقواعدها ومنهم المستشرق السويدي ستاك ويكندر.

انتقل من التعليم في المدارس الابتدائية إلى التعليم الثانوي بعد ان حصل على عدة شهادات باللغات الاجنبية… وفي ستينيات القرن الماضي أسس عدة مدارس خاصة ومنها ثانويات سيف الدولة والأمين والرائد العربي.

نحن أولاد إبراهيم الملا سنكون شاكرين لك أيها المؤلف بهذه المساهمة القيمة في ابراز ملامح من حياة هذا الاب العصامي الذي كان يفتخر بنشأته الفقيرة حتى وصل إلى أعلى درجات السلم الإجتماعي رحمه الله وأطال الله في عمرك وأعطاك الصحة والعافية لتبق شمعة تضئ في حيينا.

إحدى أشعار والدي ابراهيم ملا المنشورة في مجلة هاوار العدد 18 عام 1933

وفيما يلي ما كتبه العزيز الاستاذ محمد رشيد شيخ الشباب مؤلف كتاب حماة الديار عن والدي: 

بما أنني أقوم بإحصاء العلماء والكتاب لأسجلهم في كتابي هذا موضحا ثقافاتهم وخدماتهم للمجتمع وبما إني أعي المرحوم إبراهيم ملا في صغري أحببت أن أغتنم وجود نجلته السيدة رغد لأنه بمعرفتي به كان يعد من أوائل المتعلمين آنذاك في حي الكورد ودمشق… ما أبغي شاكرا إذ تبين لي أن الاستاذ إبراهيم ملا من العلماء الذين يجب أن نفتخر بهم كان رحمه الله محدثا واسع الاطلاع وبديهي الفكر إذ أن مساهمته في تعليم الاميين في الحي هو خاطر عظيم وتضحية يشكر عليها وبهذا سيبقى ذكره في وجدان مثقفي الكورد بل في سورية رحمه الله وستكون أعماله الإنسانية والثقافية في ذهن كل كوردي مثقف كبيرا كان أم صغيرا فإلى الخلود يا معلم الكورد والعرب.

إغتيال إبراهيم ملا

في نهاية العام 1967 دخل والدي البيت ومعه مغلفا كبيرا وبعد تناول الغذاء فتح المغلف أمامنا أنا وإخوتي ووالدتي وكانت فيه رسالة خاصة بإسم والدي باللغة الإنگليزية ومعها صورة لقصر فخم وحوله حدائق جميلة بل كانت واسعة وأشبه بمزرعة كبيرة وكان والدي يحاول إقناع والدتي في أن نذهب ونستلم هذه الممتلكات الممنوحة لنا في ولاية فلوريدا في أ‌مريكا… ولكن والدتي كانت مصرة على أن لا تترك دمشق وحي الكورد حيث الأهل والاقارب ولم تستوعب محاولات والدي لإقناعها وأتذكر إن محاولات والدي إستمرت لأيام ولكن بدون فائدة… وأخيرا توقف والدي عن إقناع والدتي لأنه فجأة أصبح يشعر بضعف عام في صحته وتتالت الامراض تغزو جسده فأصابته جلطة في القلب وإرتفاع ضغط الدم والسكر والشحوم في الدم وألام شديدة في الرأس وغيرها من العوارض التي لم تكن موجودة لديه قبل عام 1967.

واني أعتقد ان المخابرات السورية قد اغتالت والدي كما اغتالت الامير جلادت بدرخان، ألف رحمة على أرواحهم جميعا.

فصحة والدي كانت جيدة حتى عام 1967 ولكن فجأة مرض قلبه وتوفي في 23 تموز 1969 اثر نوبة قلبية ثانية. وكنت أشك في وفاته في حينها بأنها لم تكن وفاة طبيعية… وتأكدت من عملية الإغتيال من خلال مراسلاتي مع المكتب العام للماسونية في نيويورك عام 2008 الذي بين لي على أنهم انذروا اعضاءهم في سورية بعد حرب حزيران 1967 لمغادرة سورية لأن النظام السوري قرر الانتقام من الماسونية بجريرة الحرب العربية-الاسرائيلية.

فيما يلي ترجمة إحدى رسائل السيد ليون سكرتير المحفل الأكبر للماسونية في نيويورك:

عزيزي جواد ، أنا آسف لأن الرسالة التي أرسلتها إليك قد أزعجتك؛ كان الأمر ببساطة مجرد حقيقة لما حدث، حدث الشيء نفسه في لبنان عندما إحتلت حكومة فيشي لبنان عام 1944، جميع اعضاء المحفل اختفوا عن الانظار هربا من النازيين. ليس لدينا أي إتصال أو معرفة بأي جهة لا تزال على قيد الحياة في دمشق يمكننا الإتصال بها، منذ عام 1967، علاوة على ذلك، لا أحد يعرف ما حدث بالفعل في عام 1967، قلت لك كل ما لدينا هنا.

كنت أصغر من أن أعرف، وحتى الاعضاء الأكبر سنا في المنطقة قد توفوا، لذلك ليس لدي أي شخص يمكنني طرح الأسئلة عليه.

الأفضل هو قلب الصفحة، وأنا أعلم أن قولها أسهل من القيام بها، لكنني آسف لأنني لا أستطيع تقديم المزيد من المساعدة لك في هذا الشأن.

أتمنى لك كل خير، ليون.

عزيزي ليون

من الصعب طوي الصفحة والبدء بصفحة جديدة بدون أن ينال قتلة والدي الجزاء العادل.

تحياتي

جواد

 

===============

 

 

جواد إبراهيم ملا: الضباط الجواسيس (3)

جواد إبراهيم ملا: مهمات القيادات الكوردية الحزبية (2)
جواد إبراهيم ملا: نقاط هامة في سيرتي الذاتية وكفاحي (1)

هذه المقالات مقتطفات من مجموعة كتب للكاتب جواد ملا على الرابط التالي

مجموعة كتب لـ جواد إبراهيم ملا “سيرتي الذاتية وكفاحي من أجل استقلال كردستان”

شارك هذه المقالة على المنصات التالية